مؤسسة التعارف: “فضاء حوار وحرية للمسلمين في قلب جنيف”
إذا كانت مؤسسة التعارف تعتبر نفسها، منذ عشرة أعوام، محفلا لا دينيا ولا سياسيا يتبنى الحوار بين مختلف الأديان والطوائف، فإنها ترغب في أن تسمح للجالية المسلمة والعربية في جنيف بإسماع صوتها، وبتطوير مفهوم المواطنة لديها للمشاركة بشكل كامل في المجتمع الذي تعيش فيه
في معرض تقديمها لمؤسسة التعارف (Fondation de l’Entre-Connaissance) التي أسست في جنيف في عام 1999، تقول رئيستها السيدة نعمت مردم بك “إنها مؤسسة تهدف لتعزيز التعارف بين الشعوب والثقافات وهذا عبر كل ما من شأنه أن يساعد المسلمين وغير المسلمين على التعايش”.
أما مديرها عبد الحفيظ الورديري فيرى أنها “عبارة عن أرضية حوار حرة ومستقلة ليست لها صبغة دينية ولكن تهتم بأمور الدين، جاءت لإكمال ما كان ناقصا وهي بمثابة إنجاز هام للرد على تطلعات المجتمع الذي نعيش فيه”.
وهذا ما تعتبر الجالية المسلمة في سويسرا في أشد الحاجة إليه خصوصا وأن فكرة تأسيس هذه المؤسسة التي تجعل من التعايش بين الطوائف والثقافات والأديان شعارا لها، ترتكز على الآية الكريمة: “إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.
أرضية حوار وتعايش الجالية في أشد الحاجة إليها
تقول السيدة نعمت مردم بك، حفيدة جميل مردم بك، (السياسي السوري المعروف وأحد رجالات استقلال بلاده عن فرنسا. ترأس الوزارة من ديسمبر 1946 إلى يناير 1948 ثم اعتزل السياسة في عام 1954) “إن الفكرة نابعة من رغبة المسلمين في التكيف مع متطلبات المجتمع الذي يعيشون فيه للتخلص من عراقيل التعلق بالمجتمع الأصلي التي تحول دون ذلك”. وتؤكد أن الطريقة التي انتهجتها مؤسسة التعارف “تتميز ببعد نظر يجنب الوقوع في الهفوات التي سقطت فيها بعض الجمعيات والمنظمات المسلمة في سويسرا”.
ولا شك في أن هذه المؤسسة التي تأسست في عام 1999، أي قبل ظهور بوادر التوتر والمشاكل التي تعرفها الجالية المسلمة اليوم في سويسرا، تكشف عن رؤية بعيدة المدى بوجود حاجة ماسة إلى تأسيس أرضية حوار بين الطوائف والأديان لتفادي سوء الفهم والأفكار المسبقة.
وقد استفادت مؤسسة التعارف من الخبرة الطويلة التي اكتسبها مديرها الحالي السيد عبد الحفيظ الورديري الذي كان بمثابة الناطق باسم المؤسسة الثقافية الإسلامية في جنيف والشخصية التي أوصلت رغبات وتطلعات الجالية المسلمة إلى عدد من وسائل الإعلام السويسرية والسلطات السويسرية وممثلي باقي الطوائف العرقية والدينية الأخرى طوال الثلاثين سنة الماضية.
ويرى الورديري أنه “لا يمكن الشروع في حوار حقيقي مع الآخرين اذا لم نتمكن من فتح حوار حقيقي وصريح بين مكونات الجالية المسلمة نفسها”، ولا يتردد في الإقرار بأن “هذا الحوار لم يتجسد بعد لأن كل واحد مازال منغلقا على نفسه وفي إطار فهمه للإسلام دون الاكتراث بمعرفة كيف تنظر باقي المكونات المسلمة لهذا الإسلام”.
لذلك يعتبر مدير مؤسسة التعارف أن “تأسيس أرضية حوار حرة ومستقلة ليست لها صبغة دينية ولكن تهتم بأمور الدين ، أتى لاستكمال ما كان ناقصا وهو بمثابة إنجاز هام للرد على تطلعات المجتمع الذي نعيش فيه”.
وتشير رئيسة المؤسسة السيدة نعمت مردم بك إلى أن “النشاط الذي جسد بحق المبادئ التي تقوم عليها المؤسسة هو تنظيم “خيمة الحوار” في عام 2006 وهو النشاط الذي جمع ممثلي مختلف الديانات لمناقشة كيفية التعايش في مجتمع متعدد الديانات”.
كما أن أكبر إنجاز للمؤسسة الناشئة تجسد من خلال إنجاح مشروع المقابر المحترم للتقاليد الدينية المختلفة والتي تم تمريرها أمام البرلمان المحلي لكانتون جنيف بفضل التحالف الذي أقيم مع ممثلي الطائفة اليهودية. عن ذلك تقول السيدة نعمت مردم بك أن “الفضل يعود للنشاط الذي قمنا به بصحبة السيد عبد الحفيظ الوريدري لدى السلطات السياسية والبرلمانية لتوضيح وشرح مواقفنا ومطالب الجالية المسلمة فيما يتعلق بمسالة المقابر”.
ويذكر الورديري أن هذا الملف “كان حساسا نظرا للتهديد الذي كان قائما بعرض الموضوع على الاستفتاء الشعبي خصوصا من قبل الحزب الراديكالي، وهو ما تمكنا من تجاوزه بفضل تجنيد الجميع”. وهو ما سمح بموافقة برلمان الدويلة على تخصيص مربعات في المقابر لمختلف الطوائف الدينية تراعي تعاليم كل دين. ويضيف أنه شدد – في تهنئته للطائفة اليهودية بهذا الفوز – على أنه “بعد تحقيق السلم للأموات علينا أن نعمل معا لتحقيق السلم بالنسبة للأحياء”.
التكوين والثقافة والتضامن
وعن المحاور التي اختارت مؤسسة التعارف انتهاجها في نشاطاتها تقول السيدة نعمت مردم بك “اخترنا ثلاثة محاور: محور التكوين ومحور الثقافة ومحور التضامن”.
في مجال التكوين تم تسخير مركز المؤسسة الكائن بحي “الباكي” الشعبي لكي يكون نقطة انطلاق لنشاطات تجمع المسلمين وغير المسلمين. وبشكل أوضح سيتخذ ذلك شكل دروس ومحاضرات وورش عمل. كما اهتم بكيفية الاتصال بوسائل الإعلام لتوضيح موقف الجالية المسلمة من بعض القضايا الاجتماعية في جنيف خصوصا وفي سويسرا عموما. وكذلك الاتصال وبالمعاهد الجامعية.
وقد نظمت المؤسسة عدة نشاطات بالخصوص مع بعض المعاهد والمؤسسات مثل “مجموعة البحوث حول الإسلام في سويسرا” أو “معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي ودول المتوسط في جنيف”. وللمؤسسة نشاطات متواصلة مع معاهد تابعة للديانات الأخرى بهدف “تأسيس تجمع لممثلي مختلف الديانات”، مثلما تقول السيدة نعمت مردم بك. ومن هذه المعاهد معهد بوسيه المسيحي، ومجمع الكنائس العالمي، والمعهد اليهودي “Racines et sources »
كما تقوم المؤسسة بنشاطات على المستوى الثقافي حيث دأبت منذ حوالي ثماني سنوات على تنظيم تظاهرات سنوية في إطار النشاط المشترك مع باقي مثلي الطوائف الدينية الأخرى تتخذ شكل احتفال ديني لكل الديانات في شهر نوفمبر.
ومن المساهمات التي تقوم بها مؤسسة التعارف في المجال الثقافي مشاركتها في إعداد ونشر وتوزيع مدونة أو رزمانة تجمع مختلف الأعياد الدينية لكل الأديان وتوضح وتشرح موقف كل دين من أحد المواضيع المطروحة على بساط البحث والنقاش. وفي هذا السياق، تم اختيار موضوع “موقف الأديان من حماية البيئة” لرزمانة العام 2009.
والجانب الثالث الذي تنشط فيه مؤسسة التعارف هو محور التضامن والذي تقول عنه رئيسة المؤسسة “أنه قد يتخذ أشكال اجتماعية او ثقافية أو في مجال التكوين” وفي هذا الصدد قامت المؤسسة بمساعدة عائلات محتاجة وطلبة محتاجين على إتمام دراساتهم العليا سواء على شكل هبة أو على شكل قرض يعاد تسديده بعد الدخول في الحياة العملية.
ويوضح مدير المؤسسة عبد الحفيظ الورديري بان هذا التضامن “قد يتخذ أيضا شكل مساعدة تقدمها المؤسسة لمراكز إسلامية أو ثقافية أو رياضية إما في الداخل أو في الخارج”، وأورد مثال مركز إسلامي في فرنسا المجاورة تمت مساعدته على شراء وتأثيث بناية تم تحويلها الى مركز إسلامي ومسجد. كما قدمت مساعدة إلى الطائفة المسلمة التاتارية في رومانيا على ترميم مسجد ومركز إسلامي في بلادها.
ولكن نشاط مؤسسة التعارف بدأ يبرز أكثر في مجال توضيح نظرة المسلمين من بعض القضايا المطروحة على ساحة النقاش في سويسرا مثلما أوضحت رئيستها السيدة نعمت مردم بك بقولها “هذا ما دأبنا على القيام به منذ البداية إما عبر تدخلات في وسائل الإعلام مثلما تم أثناء حملة للرد على حملة حزب الشعب اليميني ضد المسلمين أو من خلال توضيح مواقفنا من المبادرة الداعية إلى حظر بناء المآذن في سويسرا”.
ويرى مدير المؤسسة عبد الحفيظ الورديري أن “من واجب المؤسسة التدخل عندما يتعلق الأمر بظاهرة كره أو تهميش أو تمييز عنصري، بحيث نشدد على أهمية التربية والتكوين لمساعدة الإنسانية على تجنب هذه الظواهر”.
وبخصوص المبادرة الداعية إلى منع بناء المآذن في سويسرا (التي عارضتها الحكومة الفدرالية معتبرة إياها بأنها تخالف الدستور ولا تحترم حرية المعتقد والدين، والتي لم يقرر البرلمان الفدرالي بعدُ ما إذا كانت ستعرض على التصويت الشعبي أم لا)، فيقول عبد الحفيظ الورديري “لقد أوضحنا بخصوصها أن المسؤولين في جنيف عندما عرضنا عليهم قبل ثلاثين سنة بناء مئذنة لمسجد جنيف بعلو 18 مترا، نصحوا بزيادة علوها أكثر”. وهذا ما يرى فيه الورديري (مقارنة ما يتم اليوم بخصوص مبادرة المآذن) تقهقرا بالنسبة لسويسرا، التي “ليست المكان الذي يجب فيها تعميق الإحساس بالكره للآخر بل على العكس تعزيز إدماجه دون تمييز”، على حد تعبيره.
وتعتمد المؤسسة في تمويلها على هبات بعض العائلات أما مساهمة السلطات فقد تتجسم من خلال دعم بعض المشاريع مثل مشروع خيمة الحوار التي تم تنظيمها قبل عامين وجمعت ممثلي مختلف الديانات.
جنيف مختبر مثالي للتعايش
مؤسسة التعارف التي أقيمت على أساس تعزيز الحوار بين الأديان والطوائف دون إقصاء ترغب في حث الجالية المسلمة على الانفتاح أكثر. وهذا ما ترغب في تعزيزه من خلال بعض المشاريع الحالية والمستقبلية مثل مشروع التعاون مع مؤسسة “بذور السلام” التي تساعد الجيل الصاعد على تطوير قدرات “التمتع بالسلم الداخلي قبل محاولة إقامة علاقات سلمية مع الآخرين”. ودائما في مجال تكوين الجيل الصاعد، السهر على تنظيم يوم للسلم في المدارس العمومية حول موضوع ” كيف تتصور السلم”.
وفي التعاون القائم بين مؤسسة التعارف والمؤسسات والجمعيات اليهودية يقول عبد الحفيظ الورديري: “سنواصل العمل المشترك من أجل إقامة الدليل بأنه بالإمكان الإسهام في بناء السلم في أماكن أخرى من العالم مثل في فلسطين على سبيل المثال”. ويؤكد مدير المؤسسة أن “جنيف تعتبر مختبرا مثاليا يمكن للعالم أن يستفيد من تجربة التعايش فيها”.
وقد قامت المؤسسة خلال شهر رمضان المنقضي بتنظيم أمسيات رمضانية تبادلت خلالها عادات الصوم والإفطار مرة مع ممثلي الجاليات الدينية الأخرى ومرة أخرى باستضافة رئيس بلدية جنيف ومعاونيه ومرة ثالثة باستضافة الوزير المكلف بالداخلية على مستوى كانتون جنيف الذي تحدث عن نظرته للعلمانية وعن حرية الدين والمعتقد في تقاليد الكانتون.
ومن بين المسائل التي يقول عبد الحفيظ الورديري إنه يرغب في القيام بها بشكل أفضل من خلال نشاطات مؤسسة التعارف “تطوير مفهوم المواطنة بالنسبة للمواطنين المسلمين لأن البعض يعتقد بان المسلم لا يمكن أن يكون مواطنا جيدا في هذا المجتمع وهذا في الوقت الذي أجد فيه أن الإسلام مثلما افهمه لا يمنعني من احترام الدستور والقانون وأن أكون مواطنا بأتم معنى الكلمة”. وانتهى الورديري الى القول “يجب علينا كمسلمين أن نكف في يوم من الأيام عن الحديث عن أنفسنا كمسلمين بل كمواطنين”.
سويس إنفو – محمد شريف – جنيف
مؤسسة التعارف التي أقيمت بمبادرة خاصة في عام 1999 وتمول من قبل هبات ومساهمات لعائلات معينة، تترأسها السيدة نعمت مردم بك ويديرها عبد الحفيظ الورديري واختارت مقرا لها في 14 شارع دي مول بقلب الحي الشعبي في جنيف “لي باكي” Les Pâquis.
استنبطت اسمها وشعارها من قوله تعالى “إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، ومن مبادئها تعزيز الحوار بدون إقصاء سواء داخل الجالية المسلمة بكل طوائفها أو بين الجالية المسلمة وباقي الجاليات والطوائف الدينية الأخرى.
وبما أن تأسيسها ورئاستها تتم من قبل سيدة، فإن التركيز على حقوق المرأة يحظى بأولية خاصة في كل نشاطات المؤسسة.
ويرى عبد الحفيظ الورديري الذي له خبرة طويلة من خلال توليه مهمة الناطق باسم المؤسسة الثقافية الإسلامية في جنيف لأكثر من 30 سنة أن “خاصية هذه المؤسسة تتمثل في حفاظها على حيز من الحريات وعلى حرية التعبير بحيث يمكنني اليوم الدفاع بصورة أحسن ليس فقط عن الرجل أو المرأة بل أيضا عن ديني وعن عروبتي خصوصا وأنني لا اخضع لرقابة متزمتة”.
وإذا كانت المؤسسة أو الساهرون على تسييرها يرغبون في أن تكون معبرة عن رغبة الجالية المسلمة، وإيصال مطالبها ونظرتها في مختلف القضايا سواء للمسؤولين أو إلى باقي ممثلي الطوائف الأخرى فإنها تنتظر من أبناء الجالية المسلمة أن ينخرطوا أكثر في نشاطها، أو كما قالت رئيستها نعمت مردم بك “يجب أن يستغلوا فضاء مؤسسة التعارف الموضوع تحت تصرفهم”.
وفي انتظار إعداد موقع للمؤسسة على شبكة الإنترنت، يمكن الاشتراك فيها عبر الإتصال بسكرتارية المؤسسة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.