مُصابة بالوضوح .. أيّ “مرض” هذا؟
على مدى 4 أيام، تحوّل مسرح برناوي إلى فضاء سكنته روحُ ثلاث نساء عربيات: مُمثلة ملكت الخشبة وهي تُخاطب كاميرا تتقمص أدوارا بشرية شتى، ومُطربة خلف ستار أبيض، ومُخرجة انضمت للجمهور.
الثلاثي قدم للحضور نسخة فرنسية تشد الأنفاس من مسرحية “مُصابة بالوضوح”. سويس انفو حضرت العرض الأخير وعايشت الإصابة بـذلك “المرض”.
… فجأة … انطفأت الأضواء وحل ظلامٌ حالك وصمتٌ مُخيف في مسرح شلاختهاوس في برن. أفرغتُ صدري من الهواء الذي احتبس فيه خلال اللحظات الأخيرة من مسرحية “مُصابة بالوضوح”. لحظاتٌ عنيفة وقاسية تصاعد خلالها غضب ويأس وثورة البطلة سلمى إلى أن عضت بوحشية قبضة يدها…
مازال ذهني مُعلـّقا وبدني مُقشعرا وعيناي دامعتين.
لقد انتهى العرض.
عرضٌ أضحكني وأبكاني. ولم يكن يستغرق وقت الخروج من حالة الضحك للدخول في حالة البكاء .. ثم الانتقال إلى حالة الضحك، إلاّ دقائق، وأحيانا ثوان معدودات، بفضل وبسبب أداء خارق القوة لـبطلة المونودراما من تأليف وإخراج الأردنية الفلسطينية سوسن دروزة.
عادت الأضواء، وعلا التصفيق، ووقفت الممثلة الفرنسية الجزائرية الأًصل مليكة خطير تُحيي جمهورا شدت أنفاسه لمدة ستين دقيقة بتعابير وجه ونبرات صوت وطاقة جسدية في غاية الإتقان والعطاء وأحيانا… في غاية العُنف.
ساعةُ زمن امتلكت فيها الخشبة طولا وعرضا وهي تتحدث إلى كاميرا رقمية وكأنها بشر من دم ولحم. تارة تضحك وتلهو معها بخفة دم حُلوة، وتارة تؤنبها وتُعَـنـِّفُها بقسوة مُرة.
من صديقة تبوح لها بخواطر ذاتها وتساؤلاتها وعواطفها كامرأة في الأربعينات من العمر، تتحول الكاميرا إلى أخ أكبر يملي على سلمى فعلها، ويقيد حريتها بقطعة ثوب مزخرف يخنق أنفاسها، ثوب تتخلص منه بعناء وتحجب به عين الكاميرا. لكن الثوب شفاف ومازالت العدسة تلتقط بطلتـنا…
ثلاث صديقات “أصبن بالوضوح”
تخللت مونولوج سلمى في نسخته الفرنسية مقاطع باللغة العربية تغنى بها الصوتُ الهادئ والمؤثر للمطربة الفلسطينية كميليا جبران التي تعيش بين باريس وبرن، والتي تعود لها فكرة ترجمة المسرحية بالفرنسية لنقل “عدوى الإصابة بالوضوح” إلى الجمهور الغربي.
فهي صديقة للمخرجة سوسن المقيمة في عمان الأردنية وللممثلة مليكة المقيمة في زيورخ السويسرية. شعرت كميليا في لحظة أن طرق هذا الثلاثي الفني يمكن أن تلتقي يوما ما، فبادرت بطرح الفكرة والمساعدة على تحقيقها إلى أن تجسدت فوق مسرح شلاختهاوس في برن.
ظلت كميليا طيلة المسرحية خلف ستار أبيض تُسلطُ عليه أضواءُُ الخشبة عندما تحتضن عودها لأداء كلمات ومعاني مستوحاة من نص العرض. امتزاج النص الفرنسي لسلمى بالكلمات واللحن العربيين لكميليا أضفى على العرض بعدا ساحرا جمع بسلاسة قلوب الغرب ووجدان الشرق، في ظرف يتأجج فيه انعدام الفهم بين الُقُطبين…
تغني كميليا وراء ستارها الشفاف وصوتُها وجسمُها يتفاعلان مع كل حرف: “اهجر تفاصيل رغباتي والوسواس.. اتخلى عن هوسي بالأشياء… اتعرى عن جلدي.. لحمي.. عظامي.. اسمي.. انتمائي.. سلالتي”.
الكاميرا الحبيبة .. الكاميرا العدوة
هاهي الكاميرا حبيبة سلمى المُخرجة ورفيقة دربها، وهاهي الكاميرا عدُوتها الجاهلة وعديمة الإحساس. كاميرا عصرية رقمية آخر صيحة، لكنها كاميرا لا تقرأ ولا تفهم ولا تشعر.
لا يمكنها أبدا أن تشم رائحة البرتقال الذي تلتهمه سلمى بعد أن قررت كسر حِمية “خصر مضموم وصدر يفور”، ولا يمكنها أن تتذوق حلاوة الشوكولاطا التي تتلذذها سلمى بنشوة على بعد مليمترات من عدسة الكاميرا، ولن تستطيع أبدا شم صابون نابلس الذي اغتسلت به سلمى صغيرة لتلمع وتصبح نظيفة كما أوصتها جدتها…
كاميرا سلمى مُجرد آلة تقف عند سطح الأشياء وتعجز عن اختراق الأعماق، أعماق سلمى وأعماق البشر. تجري وراء تصوير الدماء والشهداء والإرهاب، وتختفي عندما يتسلل الحبيب بين الدبابات في بيروت وهو يمد يده لسلمى. تسألها: “أين كنت عندما اقتلعوا أشجار الزيتون في فلسطين قبل الجدار؟”، “أين كنت عندما قبـّلتـُه آخر مرة في دمشق؟”، “لماذا لم تصوري زهرة الياسمين؟”.
تصرخ في الكاميرا بكامل قواها وقد دخلت في حالة جذبة وشعرها يتطاير: “أنا أكتب أشعارا، افتحي عينيك وسجلي وخزني في ذاكرتك. لقد بدأتِ القصة عندما عرفتُ من أريد أن أكون”. تُعرّي ظهرها للكاميرا وتقول “انظري ماذا تحمَّل هذا الظهر كل هذه السنين، مثل قلبي. أنا لست أرشيفك، أنا موجودة”.
“أعراض” الوضوح
هذه من ضمن أعراض إصابة سلمى بالوضوح. سلمى، المرأة العربية أو حتى الغربية، المرأة الإنسانة التي تواجه في لحظات وضوح صافية تناقضات نفسها وواقع مجتمعها الصغير ومجتمعها الكبير: المجتمع الدولي. لحظات تريد فيها أن يتوقف النفاق الاجتماعي والكذب السياسي وأشكال “السياسة الإباحية والإباحية السياسية”. لحظات صفاء تجد فيها ذاتها وتتحرر بعنف وتستمتع فيها بأخذ القرار. تقول: “الكل بدأ عندما عرفت من أريد أن أكون، اليوم قررت أن أكون أنا”.
الوضوح “مرض” أصيبت به أولا مخرجة المسرحية سوسن دروزة المقيمة في عمان. قالت لسويس انفو في تقييمها لآخر عرض للمسرحية أمام الجمهور السويسري: “إن مسرحية مُصابة بالوضوح بالنسبة لي ليست مجرد عرض يُقدم في هذا البلد أو ذاك. لقد استطاعت أن تثير أسئلة دون أن تعطي أجوية، وأن تطرح حالة جديدة من إعادة التفكير والتقييم للمرأة العربية والفرد العربي في قلب بلدة ومنطقته”.
شخصية سلمى تشبه إلى حد كبير مؤلفة ومخرجة المسرحية التي استوحت النص من مشاهداتها وحياتها الشخصية كامرأة عاملة في مجال الأفلام والوثائقية ودارسة للمسرح.
تُشبهها في عفويتها، في جرأتها، في ذكاءها، في خفة دمها، في حركاتها، في إتلافها لأوراقها، في قُدرتها على الغوص في أعماق الروح البشرية، في إثارتها لحالة الانفصام الاجتماعي والسياسي والجنسي… في مُجتمعها وفي العالم.
“وكأنـنا تلـقـيـنا صفـعة”!
ومن خلال ردة فعل المُشاهدين الذين ظل عدد منهم مُسمرا لفترة طويلة في مقاعد مسرح شلاختهاوس بعد انتهاء العرض، يبدو أن المخرجة سوسن دروزة نجحت في نقل “عدوى الإصابة بالوضوح”.
مددت ميكرفوني للجمهور حولي، بعضهم يتأمل بمفرده الخشبة الفارغة مُسترجعا ما شاهده، والبعض الآخر يوشوش تعليقاته لرفاقه. عيون وملامح متأثرة لا محالة: “إنها وجهة نظر أخرى مثيرة وحساسة حول مواقف سياسية أراها اليوم عنيفة. إنه شهادة عما يمكن القيام به حقا في دائرة الخصوصية تتعارض مع مواقف أكثر شمولية وعمومية لا تُطابق في نظري الحقائق الإنسانية”. (مشاهدة سويسرية من أصل دنمركي).
قصدت ثلاث سيدات سويسريات قد يكون عمرهن يتجاوز السبعين. قالت إحداهن “المسرحية أثرت فينا كثيرا، وربما الكلمة ليست قوية بما فيه الكفاية للتعبير عما نشعر به الآن، مازلنا نحتاج للوقت للتفكير، فنحن حقا وكأننا تلقينا صفعة. ماذا يجب لكي نتحرر، هذا أمر لا يُصدق! أثرت في المسرحية كامرأة غربية بالتأكيد، اعتقد أننا نحن سيدات الغرب وسيدات الشرق نتشابه، نحن نعاني من نفس المشاكل”.
“لكنهن أكثر عنفا في الشرق” تُلاحظ صديقتها. “أعتقد أنها مسألة مرتبطة ربما بالطبع. إن المسرحية قاسية لكنها مُمتازة، مُمتازة حقا”.
ألمحُ شابات سويسريات ثلاث يتحدثن عن العرض، فتولت إحداهن التعبير عن انطباعهن: “إن المسرحية تحثنا على التفكير، ونحن الآن نتناقش حول دور المرأة في البلاد التي تعيش فيها. أنا عشت المسرحية كامرأة ضحية للنظام الأبوي. تأثرت كثيرا بهذا الجانب”.
كان ضمن الجمهور السيدة أنيت روم، مديرة مسرح فورشتاد ببازل: “من الصعب دائما قول شيء فور نهاية المسرحية، لكنها مسرحية مثيرة جدا للعواطف (…) أجد صعوبة في الحديث عنها، إن بحث هذه السيدة عن أجوبة لأسئلة متعلقة بهويتها وفقدان الآمل في النهاية أثرا في كثيرا، أنا مازلت أشعر بأحاسيسها. وأود أن استدعي المسرحية العام القادم”.
أيُّ مرض هذا؟
السيدة روم ليست الوحيدة التي ترغب في استدعاء مسرحية الإصابة بالوضوح، فالثلاثي سوسن مليكة وكميليا سيعود للمشاركة هذا العام في مهرجان زيورخ الدولي للمسرح من 1 إلى 3 سبتمبر القادم.
وقد بدت المخرجة الأردنية الفلسطينية مقتنعة بعد العرض الأخير في برن بان الإصابة بالوضوح “طرح يستحق أن يتحرك، ليس فقط بعروض بل كتجربة يمكن أن تتحرك وتنضج رغم أنها مُتعبة”.
هي مُتعبة بدون شك، لكنها فريدة. تصفع العقول بعنف لكن برقة أيضا. تنقل له عدوى الوضوح. أيّ مرض هذا؟
أجابني بإيجاز خليل درويش، الكاتب المسرحي السوري الذي تعاون مع المخرجة سوسن دروزة في صياغة النص الفرنسي للمسرحية: أتمنى أن يُصاب كل العالم بهذا المرض، مرض الوضوح، أن يفكروا بصوت عال، ألا يخافوا، أن يدافعوا عن حقهم. أنا أتذكر عنوان كتاب جميل جدا للراحل ممدوح عدوان بعنوان “دفاعا عن الجنون”. فإذا كان هذا (الوضوح) مرضا، فطوبى للمجانين”.
سويس انفو – إصلاح بخات – برن
المخرجة الأردنية الفلسطينية سوسن دروزة من مواليد سوريا، نشأت بين بيروت ودمشق حيث درست المسرح والأدب الفرنسي. استقرت عام 1985 في عمان حيث بدأت نشاطاتها الفنية كمخرجة ومنتجة مستقلة. في رصيدها الإبداعي ما لا يقل عن 15 مسرحية وحوالي 70 شريطا معظمها وثائقية. ترأس معهد المسرح الدولي في عمان. (انظر موقع المعهد)
الممثلة الفرنسية الجزائرية الأًصل مليكة خطير من مواليد فرنسا. تقيم في سويسرا منذ سبع سنوات. تقدم العروض المسرحية باللغتين الفرنسية والألمانية. تنشط في فرنسا وسويسرا وألمانيا. مسرحية “مصابة بالوضوح” أول عمل لها مع فنانين عرب.
المطربة الفلسطينة كميليا جبران من مواليد 1963 لعائلة فلسطينيّه من قرية الرامة الجليلية، وتعيش الآن بين باريس وبرن. في عام 1982، انضمت كميليا إلى فرقه صابرين المقدسيّة وسجلت معها أربعه أعمال فنيّة. وفي 2002، بدأت عروضها المنفردة في عدد من الدول الأوروبية والعربية. (أنظر موقع كميليا جبران).
تقول عن سويسرا “فيها جو طبيعي دافئ خلاني التقي مع نفسي واعمل هذه لمواجهة، فانا اصبت بالوضوح في برن، عندي معارف وعلاقات فيها، هي واحدة من مدني في الحياة”.
عُرضت النسخة الفرنسية لمسرحية “مصابة بالوضوح” للمرة الأولى في مسرح شلاختهاوس في برن أيام 11، 14، 15 و16 فبراير 2005 بفضل التعاون بين شركة مرآة ميديا الأردنية، ومسرح شلاختهاوس في برن، وشركة غو بروداكشون للإنتاج في زيورخ.
ستعرض المسرحية بالفرنسية في العاصمة الأردنية يوم 21 مارس القادم في إطار فعاليات الملتقى الفرنكوفوني بالتعاون مع السفارة السويسرية في عمان. ثم تنتقل في إطار نفس الفعاليات إلى دمشق حيث ستعرض يوم 26 مارس بالتعاون مع السفارة السويسرية في دمشق. كما ستكون ضمن ورشة عمل في المعهد العالي للفنون والدراسات المسرحية في العاصمة السورية.
عرضت المسرحية بنسختها العربية لأول مرة في مهرجان دمشق المسرحي عام 2004، ولاقت نجاحا ملفتا، ثم جالت في دول عربية منها الأردن وتونس والإمارات.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.