مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هـبـّت كالنـسـيم على فـريـبـورغ..

swissinfo.ch

إنها المخرجة المغربية البلجيكة ياسمين قصاري التي انتزعت مؤخرا جائزتين وتنويها خاصا من مهرجان فريبورغ السينمائي الدولي عن شريطها المطول الأول "الراقد".

الفيلم استمد قوته من إيحاء الأسطورة الشعبية للحديث بجمال وعمق عن الحياة الخاصة للنساء ورغبتهن في الحب والإنجاب والحرية. سويس انفو التقت بالمخرجة الشابة في فريبورغ.

عندما خرجتُ من قاعة السينما التي عُرض فيها أول شريط مطول للمخرجة المغربية البلجيكية ياسمين قصاري في إطار الدورة 19 لمهرجان فريبورغ السينمائي الدولي (التي تواصلت من 6 إلى 13 مارس)، قـُلت في نفسي “سيحصل على جائزة ما بالتأكيد، إن لم تكن الأولى ستكون جائزة أخرى أو تنويها…”، وذلك ما حدث بالفعل.

حصد شريط “الراقد” (L’Enfant endormi) وهو إنتاج بلجيكي مغربي (2004) جائزتين وتنويها، جائزة خاصة من “لجنة التحكيم الدولية” وجائزة من “الفدرالية الدولية للصحافة السينمائية”، وتنويها خاصا من “الاتحاد الدولي لنوادي السينما”.

لستُ بناقدة سينمائية، لكن جمال الصورة ورقة البطلتين وقوة الموضوع شدت عيناي من البداية إلى النهاية. لم تترك للملل أو السهو مجالا..

طبيعة ساحرة، ألوان حية، وجوه مُعبرة، مصائر حزينة، مواقف جريئة، ردود فعل مفاجئة، موسيقى مُؤثرة، صمتٌ ذكي، سيناريو سلس، إخراج مُدهش..

ثورة صامتة.. وتمرد جاهر

يحط المشاهد على نغمات أهازيج شعبية في قرية منعزلة شرق المغرب. زينب تتزوج من أحمد الذي يعتزم الهجرة إلى إسبانيا سرا رفقة مجموعة من رجال القرية سعيا وراء مستقبل أفضل.

لا يقو على فض بكرة العروس ليلة الزفاف لأنها “مْتْـقْـفة”، أي خاضعة لـطقوس “التـتقاف” الشعبية المعروفة في المغرب والتي يُعتقد أنها تضمن الحفاظ على عذرية الفتاة إلى زواجها. لا مفر من اللجوء إذن إلى “فقيه” لتصبح زينب امرأة..

يأتي الفقيه ويتلو عليها آيات قرآنية وهي تتخطى مبخرة، ويكتب لها “حجابا” يضعه في ماء يجب أن تـغتسل به.. ويتمكن بعد ذلك أحمد من الدخول بزوجته، بينما تتعالى أهازيج أهل القرية وزغاريد نساءها..

يركب أحمد ورفاقه شاحنة تأخذهم نحو مصير مجهول.. تظل زينب مع أسرة زوجها. تقضي غالب أوقاتها مع حليمة التي تركها زوجها أيضا مع طفلين.

تكتشف زينب أنها حامل، فتقرر، تحت ضغط الحماة، اللجوء مجددا إلى شعوذة “الفقيه” لتنويم الجنين إلى عودة أبيه. طقوس جديدة، تعاليم جديدة، وحجاب جديد..

زينب أصبحت أما لجنين “نائم”، وحليمة أما لطفلين “مستيقظين” ينتظران عودة الأب. تمر الأيام والأسابيع والأشهر..لا يعود رجال القرية، وتحتجز الوحدة نساءها.

زينب تعيش حزنها في صمت، وحليمة تتمرد ضده بجهر. تقول لزينب ذات مساء في أقوى مشهد يعبر عن الرغبة الجنسية لدى النساء: “أنت لا تشتاقين لزوجك؟ أنا أحيانا بطني تؤلمني وأرغب في الصراخ كالذئب”. وتصرخ بالفعل كالذئب..لا تُسكتها إلا زينب.

تبدي حليمة إعجابا بأمزيان الذي هاجر المغرب من قبل وعاد إلى قريته مقتنعا بأن البهدلة في بلاده خير من البهدلة في بلاد الناس. يراهما أهل البلدة يتحدثان قرب النهر. قبل لقاءهما بالصدفة، يفاجئٌ المشاهد، العربي على الأقل، بمشهد خروج زينب وحليمة من النهر وهما تجريان بزي حواء أمام الكاميرا التي التقطتهما من مسافة بعيدة، حرصا دون شك على عدم إثارة الصدمة لدى الجمهور العربي والمسلم..

تُسجنُ حليمة، بموافقة أمها، في بيتها لينهال عليها رجال أسرتها بالضرب لأن رجلا غريبا حضنها، لا أقل ولا أكثر. نفس المصير يلقاه أمزيان..

تستمر الحياة في القرية التي أصبح نساءها أكثر من رجالها. يغسلن القمح والصوف في النهر..يرعين القطيع ويحلبن الماعز.. يحاربن الفقر قدر المستطاع.. يعجن الخبز ويطعمن الصغار والكبار.. ينتظرن الشاحنة التي أخذت رجالهن لعلها تحمل لهن خبرا سارا..

التشاؤم يبتلع التفاؤل.. حليمة المتمردة تقرر مغادرة قرية زوجها وزينب الصامتة تثور بطريقتها ضد أسطورة “الجنين الراقد”.

أسطورة “عالمية”

لن أكشف عن نهاية الفيلم لعدم كسر عامل التشويق.. لكن يمكن أن أقول إن الحديث عن أسطورة “الراقد” كشف بتلقائية عن جملة من المشاكل “الراقدة” أيضا مثل البطالة والأمية والجهل والهجرة وتعنيف النساء. حتى الديمقراطية كان لها مكان في الشريط. معلم في “شبه مدرسة” يسأل أطفال القرية: “ماذا تعني الديمقراطية؟”. بعد لحظات تردد أجابت طفلة: “الخبز”..رد غني عن أي تعليق…

التقيت مباشرة بعد العرض (يوم 9 مارس 2005) بالمخرجة ياسمين قصاري. كانت صور شريطها المطول الأول مازالت تملأ عيناي وأسطورة “الجنين النائم” مازالت تثير فضولي. ما الذي جعل المخرجة المقيمة في الغرب منذ أكثر من 20 سنة تغوص في الذاكرة الشعبية المغربية؟

تُُصحح ياسمين قصاري على الفور.. أسطورة “الجنين الراقد” ليست مغربية أو مغاربية فقط، بل أسطورة انتشرت منذ قديم الزمان في مختلف أنحاء العالم وتبلورت أكثر في العالم العربي.

سرعان ما بدا من حديثها أنها قامت بأبحاث معمقة عن تلك الأسطورة. اكتشفت أنها “كانت أساس التشريع لفترة الحمل في المذاهب الإسلامية الأربعة بعد وفاة الرسول (…) لا يحق في الإسلام التبني، ويُعاقب الزوج الزاني أو الزوجة الزانية بالقتل، ولا يوجد في القرآن ما يشير إلى أن فترة الحمل تتواصل بالضرورة تسعة أشهر. في المقابل، كان يعلم شيوخ المذاهب الأربعة بأن أسطورة “الراقد” كانت من معتقدات العرب من قبل، استعملوها للتشريع وقرروا أن الحمل قد يمتد ما بين ثلاث سنوات إلى تسع سنوات وحتى على مدى الحياة”.

وبالتالي، كانت تستطيع النساء المطلقات أو الأرامل اللاتي يضعن طفلا فجأة طلب أن يُنسب المولود للرجل الذي طلقها أو الذي فقدته. حتى أنه يقال إن الصحابي أنس بن مالك وُلد بعد وفاة أبيه بثلاث سنوات. أما النساء اللاتي لا يتمكن من الإنجاب، فيقلن أن جنينهن نائم بدل القول إنهن عقيمات.

“أؤمن بقوة الرقة والشعر”

لكن أكثر ما أثار اهتمام المخرجة الشابة في تفاصيل الأسطورة “الحياة الحميمية والخاصة للنساء، علاقاتهن مع الرجال ورغبتهن الجنسية التي لا نتحدث عنها عندما يغيب الزوج سنتين أو ثلاث، وأيضا رغبتهن في الحب والإنجاب”.

تستطرد قائلة: “الأسطورة تكشف دائما ما تضمره، ليس الأسطورة نفسها هي الأهم (…) الأهم هو القوة المجازية للأسطورة، الأهم هو الإيمان بالأسطورة وما يمليه ذلك الإيمان من أفعال وممارسات (…) الأهم بالنسبة لي، هو الجانب الإنساني، نتحدث دائما على الجوانب السياسية والإجتماعية، لكن الجانب الإنساني هو الذي يسمح بالتطور على المستويين السياسي والاجتماعي. (…) أؤمن حقا وبعمق بقوة الرقة والشعر، أؤمن أن ما يغير العالم بعد أربعة أو خمسة قرون، هو ما تختزنه الذاكرة من أحداث إنسانية”.

ولا شك أن الذاكرة السينمائية ستختزن “الراقد”، أول شريط مطول للمخرجة الواعدة، كإبداع ارتقى بالجانب الإنساني بتلك الرقة وذلك الشعر اللذين تؤمن بهما ياسمين قصاري..

والمذهل أن سعيها وراء إبراز المحور الإنساني في الفيلم اعتمادها على ممثلة محترفة فقط، رشيدة براكني (الفرنسية من أصل جزائري التي قامت بدور حليمة). أما باقي الشخصيات فتقمصها مغاربة لم يقفوا قط أمام كاميرا سينمائية. تحدي رفعته المخرجة الشابة و”الممثلون” الجدد بنجاح مذهل..

إصلاح بخات – سويس انفو – فريبورغ

المخرجة المغربية البلجيكية ياسمين قصاري من مواليد عام 1970 في المغرب.
تابعت دراستها الابتدائية بالمغرب والثانوية في فرنسا.
خريجة المعهد الوطني العالي لفنون العرض وتقنيات البث (INSAS) في بروكسل ببلجيكا.
من أعمالها، الشريط القصير “ليندا ونادية” (2002)، الفيلم الوثائقي “عندما يبكي الرجال” (2000)، الشريط القصير “الكلاب التائهة” (1995)

حصل شريط “الراقد” أيضا على جائزة الجمهور وجائزة أحسن دور بمهرجان الفيلم الأول لأونجيرس (2005) التي مُنحت لمونية عصفور ورشيدة براكني بطلتي الفيلم. كما نال جوائز في مهرجان السينما المتوسطية ببروكسيل وجائزة أحسن فيلم أوروبي ضمن فئة الانتقاء الرسمي لمهرجان “لا موسطرا” بالبندقية بإيطاليا.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية