جزائر .. المتناقضات
بعد أقل من أسبوعين من بداية العام الجديد، انفجرت قنابل موقوتة في وجه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.
فهو لم يكن يتصور أن نواب حزب جبهة التحرير الوطني الذي يرأسه، سيرفضون مشروعا لمحاربة الرشوة، ويتغيبون في جلسة برلمانية أخرى خصصت للمصادقة على قوانين تخدم الفقراء بالدرجة الأولى.
رفض نواب حزب جبهة التحرير الوطني وحركة مجتمع السلم الإسلامية و حزب العمال اليساري، المادة السابعة من قانون مكافحة الرشوة الذي اقترحه بوتفليقة شخصيا، والتي تقضي بأن يكشف نواب البرلمان بغرفتيه عن أملاكهم الشخصية، وفي حالة تقديمهم معلومات كاذبة، يتم سحب الحصانة عنهم بطريقة آلية، ويحالون على القضاء الذي سيطبق عليهم بعدها أقسى العقوبات المالية و غيرها.
وقبل الحديث عن ردود الفعل المستهجنة لرفض نواب البرلمان للمادة السابعة، تجدر الإشارة إلى تصريح عبد العزيز بلخادم، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، بأن الرفض “له مدلول سياسي، هدفه حماية النواب بالدرجة الأولى”.
وبطبيعة الحال، فُهم تبرير بلخادم أنه من باب “إياك أعني فاسمعي يا جارة”، وهو في هذه الحالة، رئيس الحكومة أحمد أويحي، الذي يمسك بتلابيب الحكومة عبر رئاستها، بعد أن منحه بوتفليقة هذه المزية، رغم أن حزبه التجمع الوطني الديمقراطي، لا يملك الأغلبية البرلمانية والبلدية التي تملكها جبهة التحرير الوطني.
ويؤكد بلخادم أن رفض المادة السابعة، من شأنه تجنيب نواب جبهة التحرير الوطني، حركة استعراضية من قبل أويحي وأنصاره، تهدف إلى تجريدهم من حصانتهم البرلمانية، يعقبها بالضرورة “بهدلة أمام العدالة”.
من جهته، يرفض ميلود شرفي، المتحدث للصحافة عن حزب أويحي، التصريح بأي شيء لوسائل الإعلام حيال هذا الموضوع، ولا يُفهم هذا الصمت، إلا باعتباره دليلا على أن الأمر يتعلق بحرب غير معلنة بين حزبين ينتميان إلى التحالف الرئاسي.
وفي نهاية المطاف، لم يندد برفض نواب البرلمان لمادة تكافح الرشوة و الفساد إلا الصحافة والنقابات المستقلة، والجمعيات غير الحكومية، التي اعتبرت أن الأمر فضيحة، أحرج الجزائر في الخارج، وجعلها محط أنظار المنظمات الدولية التي يمكنها أن تؤثر على سمعة البلاد في المحافل الدولية.
أما الأغرب من كل هذا، فهو مجلس الوزراء الذي عُقد برئاسة بوتفليقة يوم 14 يناير، ورشح عنه أن الرئيس طالب وزراء الائتلاف المنتمين إلى جبهة التحرير الوطني، وحركة مجتمع السلم شرح أفكارهم تجاه المادة السابعة، بعد أن أبدى بوتفليقة امتعاضا تجاه الرفض.
قذيفة سياسية
يعتقد المراقبون في العاصمة الجزائرية، أن الرئيس قد أخطأ في توقيت تقديم المشروع، لأنه نشر غسيلا وسخا ما كان له أن يُنشر لو لم يكن أحمد أويحي على رأس الحكومة، نظرا لأن جبهة التحرير الوطني، وحركة مجتمع السلم، لا تثقان في خطواته، لأنه يعتمد على وجوده في الجهاز الحكومي، لا على أصوات الناخبين.
وفي تصريح خاص لسويس إنفو، قال مصدر من جبهة التحرير الوطني: “قد تتغير المواقف تجاه المادة السابعة، لو كان رئيس الحكومة من جبهة التحرير الوطني”.
وفي خضم هذه المعادلة التي اهتمت الصحافة المستقلة برائحتها المنكرة، رفع عبد العزيز بلخادم، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، من وتيرة الحرب على أحمد أويحي، بالتأكيد مؤخرا على أن “حزب جبهة التحرير الوطني، في حالة إجراء تعديل دستوري، سيدعم ترشح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية ثالثة”.
هذا التصريح يمثل “قذيفة” أطلقها بلخادم في وجه أويحي، نظرا لأن الأخير يرفض تعديل الدستور من الأساس، ويعتمد على ترشيحه من قبل “بعض الدوائر الصانعة للقرار السياسي” لمنصب رئاسة الجمهورية في انتخابات عام 2009.
ويتضح من كلام بلخادم أنه يوقع صكا على بياض للرئيس الذي يجب عليه أن يعيد لجبهة التحرير حقها في قيادة كل شيء لأنها حزب الأغلبية في كل مكان، على عكس حزب أويحي الذي يعاني الضعف في كل مكان.
السياسة .. والسرعة المتفاوتة
من خلال كل هذه المعطيات، يتضح مدى تعقد الحياة السياسية الجزائرية، التي تتميز باختلاف السرعات فيها، وبتناقض ما يظهر للعامة وما تفهمه الخاصة والصحافة، وما يريده صناع القرار داخل الجيش، وما يفعله رئيس الجمهورية وما ينتظره منه من دعمه من الأحزاب و غيرهم.
منذ انتخاب بوتفليقة عام تسعة وتسعين، ندر أن رفض له قانون اقترحه كمثل رفض نواب جبهة التحرير الوطني للمادة السابعة من قانون مكافحة الرشوة الأخير. ومع أنه لا أحد يُشك في أن بوتفليقة يريد أن تخف لوعة الرشوة عن الجزائريين، غير أن إصلاح البيت الداخلي في الائتلاف الحاكم، وداخل أروقة صنع القرار، من شأنه دفع الأمور باتجاه الأمام.
ولعل سبب إصرار بوتفليقة يكمن في أن الجميع واع بخطورة الموقف، لأن المعلومات المتداولة في البلاد تشير إلى أن ثلث رؤساء البلديات في السجون بسبب اتهامهم في قضايا الرشوة والاختلاس، كما أنه لا تكاد تمر صفقة دولية أو محلية إلا بعد تنخر بالنسب المئوية، التي تعطل المشاريع و تنفر المستثمرين.
كما أن اختلاف السرعة في الحياة السياسية الجزائرية، يُفسر الغموض الذي يحيط بها، وهي تفرض على بوتفليقة – رغم دهاءه السياسي – أن يوفق بين رغبات العسكر، الذين يملكون نظرة علمانية بحتة للحفاظ عن الجمهورية، والذين هم بدورهم بحاجة إلى الطرق الصوفية لإعطاء مسحة من الدين تساعد على ضم الأنصار في المناطق الداخلية.
كما أن المدن الكبرى تحتاج إلى دعم إسلاميين معتدلين، يتفهمون سلطة الرئاسة وضرورات الجيش، و ليس هناك في هذه المهمة أفضل من حركة مجتمع السلم التي تنتمي إلى التيار العالمي للإخوان المسلمين. ثم إن تيارا علمانيا آخر ضروري للم شمل الإطارات الرافضة لسلطة وطنيي جبهة التحرير وفتاوى الإسلاميين .. وهلم جرا.
تسيير الأمور
وإزاء كل ما سبق، تقف الصحافة المستقلة، في طرف الصورة، لتكشف لبعض الجزائريين وللعالم الخارجي “سرعة أخرى” تبين أن الإعلاميين في الجزائر يظهرون الكثير عن بلادهم، وتساعد مشكلي الصورة السابقة على التأكيد بأن الجزائر “بلد الحريات الإعلامية”.
ليس هناك شك في أن العام 2006، سيكون عام المفاجآت الكثيرة، غير أن الزوبعة التي ثارت بسبب رفض المادة السابعة، قد تتحول من الفضيحة التي أثارت انتباه العالم، إلى لا حدث، بمجرد إمساك جبهة التحرير الوطني – في لحظة ما – بمقاليد الأمور اعتمادا على قوتها الانتخابية.
يبقى أن سرعة جبهة التحرير الوطني، وسرعة حركة مجتمع السلم، يجب أن تتفق مع سرعة الجيش، ومع سرعة أحمد أويحي وتأثيره على سرعة العسكر، ومدى تجاوب ركض بوتفليقة مع كل هذه السرعات و غيرها، وهو ما قد يعني أن الفضيحة لا تتعلق برفض مادة تحارب الرشوة، بل في طريقة سير أو بالأحرى تسيير أمور الدولة.
هيثم رباني – الجزائر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.