جـذر الثّـورات العربية: جيل جديد يُـصـيـغ هـويّـة جديدة
لا نبالغ البتّـة إذا ما قلنا إن الثورات المدنية التي تجتاح هذه الأيام المنطقة العربية، بدأت تخلق ما يمكن أن يكون هوية عربية جديدة كل الجدّة. هذا لا يعني أن المواطن العربي سيكون عمّـا قريب شيئاً آخر عما كانه في إطار انتمائه إلى الثقافة والحضارة العربيتين - الإسلاميتين، بل هو يعني أنه بدأ يطوّر ردود فعل مختلفة على التحديات الاجتماعية والسياسية التي تواجهه، ما سيؤدي في خاتمة المطاف إلى تطوير هويته نفسها.
وكما هو معروف، فإن الهوية الاجتماعية، التي هي المنظور الذي يُطل منه المرء على نفسه ويتفاوض من خلاله مع المحيط الذي يعيش فيه، كائن حي ينمو ويتغيّر، يصعد ويهبط، تبعاً لطبيعة الظروف التي يمُـر بها الإنسان والمجتمعات.
خلال الأزمات التاريخية الكبرى، يلعب تطوّر الهوية دوراً حاسماً في توجيه دفّـة الأحداث. كيف؟ عبْـر تغيير رأي الإنسان في نفسه وفي دوره في التاريخ، وحينها، يقال أن المرء أو الشعب أحدث ثورة في هويته تؤدّي بدورها إلى ثورة اجتماعية.
أوروبا فعلت ذلك في القرن التاسع الميلاد. ففي عام 851 في مدينة قرطبة الإسلامية الباهرة، وقعت أحداث جِـسام أدّت في خاتمة المطاف إلى ولادة الهوية الأوروبية المسيحية الجديدة. فقد توجّـه 50 مسيحياً على دفعات إلى ساحة المدينة وبدأوا في شتْـم الإسلام. وكان الهدف : إجبار المسؤولين المسلمين على شنقهم. القصة بدأت عام 850 مع راهب يدعى بيرفيكتوس (perfectus) كان يتجّول في شوارع قرطبة، حين تحلّق حوله بعض العرب المسلمين يسألونه عن رأيه في المسيح ومحمد. كان الرّاهب سعيدا بالحديث عن المسيح، لكنه تحفظ على التطرق إلى محمد (ص). وحين أصر الحشد عليه أن يبدي رأيه بمحمد، فقَـد بيرفيكتوس السيطرة على غرائزه وأطلق العنان للشتائم ضد النبي والمسلمين.
حاول القاضي المُـسلم تبرير فِـعلة الرّاهب، كي يتجّنب إصدار حُـكم إعدام بحقِّـه، لكن بيرفيكتس كان يفقِـد أعصابه في كل مرّة وينهال بالشتائم على محمد والإسلام. وبعدها، وبضغط من أمير قُـرطبة، لم يجد القاضي بُـدّاً من شنقه. وبعدها كرت سبحة المسيحيين الذين يتعمدون شتْـم الإسلام علَـنا لاستدراج المسلمين إلى قتلهم.
وتعلّق كارين أرمسترونغ (Karen Armstrong) على هذه الأحداث بقولها، أن المسيحيين كانوا يخلقون بعنفهم الانتحاري عَـدواً، في وقت كانوا فيه بأمَـسّ الحاجة إلى بلورة هوية جديدة.
المواطنون العرب الذين أشعلوا النار في أنفسهم، بدءاً من محمد البوعزيزي، كانوا يفعلون الأمر نفسه: إحراق أنفسهم لاستيلاد هوية عربية جديدة، وهذا ما نجحوا بالفعل في تحقيقه. فقد انتَـفض المواطنون العرب في وجْـه أنفسهم أولاً (عبْـر كسر حاجز الخوف)، ثم عمدوا تِـباعاً في تونس ومصر واليمن والأردن والجزائر (والحبل لا زال على الجرار)، إلى تحديد هويتهم الجديدة التي تستند إلى: الكرامة وحريات الفرد وحقوقه الاجتماعية والاقتصادية وحقِّـه في المشاركة في تقرير مصير بلاده وأمته.
البعض أطلق على هذا الحدث تعبير “ثورة المواطنة”، وهذا صحيح. لكن الأمور تبدو أعمق بكثير من هذا. فهذه أيضاً ثورة الهوية العربية الجديدة، التي ستغيّر وجه الشرق الأوسط العربي برمّـته وتُـعيد بناءه على أسُـس سياسية جديدة ومفاهيم فكرية جديدة وهياكل اجتماعية جديدة. كيف؟
“عاصفة كاملة”
هيلاري كلينتون وصفت مؤخّـراً ما يحدث في المنطقة، بأنها “عاصفة كاملة”، وهذا تعبير في اللغة الإنجليزية يصف حدَثاً عِـملاقاً ينشأ من مجموعة نادِرة ومتقاطعة من الظروف، ليخلق حالة خطيرة للغاية.
التوصيف موفّق، لكنه ناقص، خاصة وأنه يأتي من وزيرة تغيّـر موقفها من الثَّـورات المدنية العربية كل يومين أو ثلاثة. إنه موقف موفّق، لأنه يرصُـد بدقة الأعاصير التي تهُـب هذه الأيام على الشرق الأوسط العربي وتكاد تشكّـل الآن “عاصفة كاملة”، وإنه ناقص، لأن بعض قيادات الإدارة الأمريكية مُجسّـدة بكلينتون، لم تُـدرك بعدُ المعنى التاريخي العميق لما يجري.
فالمواطنون العرب لا يثُـورون فقط للتخلّـص من ماضٍ متكلِّـس، بحيث يكفي معه تغيير بعض الوجوه والمؤسسات كي يستكينوا ولا حتى لفرض مشاركة المجتمع المدني في إدارة شؤون الدولة (على رغم أن هذا مطلب بنيوي رئيسي)، بل هم يريدون في الدرجة الأولى بناء عالَـم جديد ومستقبل جديد وغد جديد.
هذا ما يخلق الآن الاندفاعة القوية من تونس إلى مصر، ومن الجزائر إلى أطراف شِـبه الجزيرة العربية، لبَـلْـورة هوية عربية جديدة للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. وأبرز دليل على هذه الجدّة، هو أن مَـن يقود الثورات العربية الراهنة هُـم 100 مليون من الشبان الذين حظِـي معظمهم بقسط من التعليم وارتبط العديد منهم بـ فايس بوك وتويتر، ويقبع نحو 40% منهم خارج سوق العمل وسوق السياسة.
قد يحتجّ البعض هنا قائلاً أن الحديث عن هوية عربية قد لا يكون دقيقاً. فالتونسيون لم يطيحوا الرئيس زين العابدين بن علي باسم العروبة. والشبان المصريون لم ينزلوا إلى ميدان التحرير رافعين رايات هذه الهوية، وكذلك الأمر في ليببا والبحرين واليمن والأردن والجزائر (والعدّ مستمر). كل هؤلاء، يضيف هذا البعض، تحرّكوا بدوافع محلية محْـضة، هذا علاوة على التبايُـن الشديد في ظروف البلدان العربية، حيث أن بعضها مُتَّـحد اجتماعياً كتونس ونسبياً كمصر، في حين أن بلداناً أخرى كاليمن والأردن وسوريا ولبنان، منشطِـرة إلى قبائل وطوائف ووطنيات، وبالتالي، يجب التمهّل قبل إطلاق السِّـمات العربية العامة على هذه الحركات.
لا أحد بالطبع ينفي تبايُـن الظروف، على رغم اشتراك مُـعظم الشعوب في الرُّضوخ إلى ثالوث السلطوية – الفساد – الانفجار الديموغرافي، لكن في المقابل، يجب هنا الإجابة على سؤالين هامَّـين: لماذا تتجاوب الشعوب العربية الآن مع انتفاضات بعضها البعض ولم تتجاوب قبل ذلك، لا مع ثورة إيران عام 1979 ولا مع ثورات أوروبا الشرقية عام 1989؟ وكيف يُـمكن أن نُفسِّـر تخطِّـي المنتفِـضين الأردنيين للانقسام الأردني الشرقي – الفلسطيني واليمنيين لانشطاراتهم القبلية والمصريين لخلافاتهم الطائفية، في خِـضَـمِّ ثوراتهم المدنية الرّاهنة؟
الجواب واضح: المواطنون العرب يخلقون الآن مُـواطنتهم بالتَّـكافل والتضامن مع بعضهم البعض، وهم حين يفعلون ذلك، يبنون من دون أن يدرون، مِـن دون تنظير، مداميك هُـويَّـتهم العربية الواحدة الجديدة بالدّم والعَـرق والدّموع. وهؤلاء المواطنين الذين يفعلون ذلك، ليسوا أي مواطنين، إنهم بالتحديد الشباب والجيل الجديد، الأمر الذي يفرض وقفة إزاء هذه الظاهرة.
الجيل الجديد
حين سُئِـل كاتب هذه السطور في مقابلة صحفية مؤخراً عمّـا إذا كان ثمَّـة مقال أو موقِـف ندِم عليهما، جاء الجواب سريعاً: أجل: الموقِـف من الجيل الجديد. فهذا الجيل يستأهل مِـنا بالفعل طلب المعذِرة، وحتى الغفران، إذ أن الصورة التي كُـنا نرسمها له، وبثقة تامّـة، هو أنه جيل “سطْـحي” واستهلاكي ولا قارئ وغارق حتى أذنيه في الثقافة الشعبية التسليعية الأمريكية.
وبالطبع، هذا التعريف كان يشمَـل ضمناً اعتزازاً بالجيل القديم الذي شارك في أحداث 1968 العالمية وفي الثورات الثقافية والتحررية والعالمثالثية، والتي كان طموحه لا يقل عن بناء عالم جديد وتاريخ جديد وإنسان جديد.
بيد أن ما يجري الآن في تونس ومصر واليمن والأردن وباقي أنحاء الوطن العربي، قلب هذه الصورة رأساً على عقِـب، إذ تبيّن أن شبّـان الـ “جينز” و”فايس بوك” و “تويتر” ومقاهي الإنترنت، يكتنِـزون زخماً ثورياً ضخماً لا سابق له ويفوق بكثير كل الاجيال السباقة، بما في ذلك حتى جيل الستينيات، الذي كان الأشهر في التاريخ الحديث.
لكن، من أين أتى جيل أولادنا بهذه الطاقة، على رغم الاتهامات لهم بـ “ضحالة” الثقافة” واللاتسييس واللاأدلجة؟ يجب أن نمعن التفكير من الآن في هذا السؤال، إذا ما أردنا أن نفهم ما جرى حتى الآن وما سيجري حتْـماً من “عاصفة كاملة” قادمة لا ريب فيها. هنا قد نتعثّـر بالعديد من الاجتهادات، التي يتمحور مُـعظمها حول الدّور الثوري للتكنولوجيا الحديثة في قلْـب البُـنى الاجتماعية والفكرية:
– الشباب ترابط في إطار شبكة أثيرية لا تستطيع الأنظمة المستنِـدة إلى الترتب الهَـرمي، لا تفكيكها ولا مواجهتها، وهذا ما هـزّ أركان هذه الأخيرة بعُـنف، لأنه غيّـر معنى السلطة وكيفية ممارستها.
– تقاطُـع المصالح بين الفِـتية المثقفة التي لا مستقبل اقتصادياً لها، مع مطالب عمّـال وفقراء المُـدن (كما حدث في كومونة باريس الثورية في القرن 19) وتوفّر تكنولوجيا الإعلام الاجتماعي لكسْـر هيمنة الحكومات على الفِـكر والمعلومات، ما سهّـل كثيراً هذا التقاطع.
– نجاح الشباب في التَّـعويض عن صعوبة تشكيل التحالفات السياسية – الاجتماعية العمودية بسرعة، نشر الأفكار الأفقية التي كانت تتحوّل سريعا إلى برنامج عمل تنفيذي، وهذا من خلال طرح مطالب محدودة ومحدّدة (الخُـبز والحرية)، لا شعارات أيديولوجية فضفاضة.
– وأخيراً، وهنا الأهَـم، نجاح الشباب في كسْـر حاجِـز الخوف واستعدادهم الكبير للتضحية بالذات حرْقاً وبرصاص السلطة وتحت قوائم الخيول والجِـمال وعجلات السيارات المُـدرّعة للشرطة.
بالطبع، يُـمكن أيضاً إيراد تفسيرات موضوعية عدّة لَـطالَـما حذّرت منها تقارير التنمية البشرية الدولية، وفي طليعتها الانفِـجار الديموغرافي الكبير في معظم أجزاء الوطن العربي، وهو العامل الذي لعِـب على مدار التاريخ دوْر الحاضنة الرئيسي للثورات أو الاضطرابات الاجتماعية العنيفة.
حصة الشباب من هذا الانفجار كانت كاسِـحة: 60% من إجمالي السكان الذين شملهم في كل الدول العربية، تراوحت أعمارهم بين الثالثة عشرة والتاسعة والعشرين من العمر، و80% من هذه الـ 60%، إما عاطلين عن العمل أو غير راضين عن وظائفهم أو عاملين وغير راضين عن أنظمتهم السُّـلطوية.
بيد أن كل هذه التحليلات والتفسيرات، على ضرورتها وأهمِـيتها، لا تُسقط ضرورة أن يحصل أولادنا في الجيل الجديد على ما يستحقونه منا: الاعتراف بإنجازاتهم التاريخية الكبيرة والاعتذار.. الإعتذار الكبير حقا.
القاهرة (رويترز) – أطلق المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يدير شؤون مصر إثر الإطاحة بالرئيس حسني مبارك، صفحة رسمية على موقع فيسبوك Facebook الشهير للتواصل الاجتماعي.
ولعب الموقع دورا فاعلا في الثورة الشعبية التي انطلقت يوم 25 يناير وانتهت بتخلي مبارك (82 عاما) عن سلطاته بعد 30 عاما في الحكم وتسليمها للجيش يوم الجمعة 11 فبراير 2011.
وقال الجيش في الصفحة التي حملت عنوان (الصفحة الرسمية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة) وأطلقت يوم الخميس 10 فبراير، “يسعد المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يتواصل مع أبنائه على موقع الفيسبوك اعتبارا من اليوم (الخميس 17 فبراير) على أن يتم الرد على كافة التساؤلات في خلال 24 ساعة من طرحها”. ووصل عدد أعضاء الصفحة إلى أكثر من 48 ألف عضو بعد أقل من 24 ساعة من تدشينها.
وقال مستخدم للفيسبوك يطلق على نفسه لقب (ساتا وان ساتا) في تعليق على الصفحة “شكرا لجيشنا الوطني على الوصول لطريقة تناسب الشباب للتواصل وإلى الأمام”. وقالت مستخدمة أخرى تدعى رشا شلبي “كنا منتظرين حاجة زي كدة من زمان”.
وقال الخبير الإعلامي المصري ياسر عبد العزيز لرويترز “الجيش أظهر قدرة غير متوقّـعة على تفهمه للبيئة السياسية التي يتعامل معها منذ طلب منه الرئيس المتنحي نزوله للشارع”. وكان الجيش لجأ في الأيام الماضية إلى بث رسائل نصية قصيرة عبر الهواتف المحمولة لدعوة الشعب للتكاتف معه في إدارته للأزمة ولشؤون البلاد. وأضاف عبد العزيز “استخدم الجيش الرسائل القصيرة في أوقات حساسة وأتصور أنها حققت أثرا إيجابيا”.
وأشار إلى أن الجيش لجأ لوسائل الإعلام الجديد، مثل مواقع التواصل الاجتماعي ورسائل الهواتف المحمولة بعدما “تلطخت سمعة وسائل الإعلام الحكومية التقليدية بسبب تغطيتها للثورة”، لكنه حذر من أن “التواصل وحده لن يغني شباب الثورة عن الأداء الفعلي على الأرض”.
وتابع قائلا إن التواصل عبر الإعلام الجديد له اعتبارات وله إيقاع وله أسلوب معين، وهي عناصر يجب أن يلم بها الجيش. وفي هذه الحالة، من الممكن أن تكون التجربة ناجحة في هذا التوجه”.
وبدأت حملة الإطاحة بالرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي عبر الفيسبوك، حيث نظمت أولى المظاهرات بعد دعوات أطلقها نشطاء على هذا الموقع. وفر بن علي إلى السعودية الشهر الماضي (يوم 14 يناير).
كما انطلقت حملات مماثلة في كل من البحرين واليمن وليبيا، التي تشهد موجة من الاحتجاجات المناوئة للأنظمة في الوقت الراهن.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 18 فبراير 2011)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.