The Swiss voice in the world since 1935

انحسار التمويل يهدد هُوِيَّة جنيف الدولية: من يُعوّض غياب الولايات المتحدة؟

مساعدات
رسم توضيحي يصوّر العلاقة الوثيقة بين الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وجنيف، سويسرا Helen James / SWI swissinfo.ch

تستعد جنيف لمواجهة مصاعب اقتصادية، بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقف تمويل المساعدات الخارجية. ويمكن أن تؤثر هذه الخطوة أيضًا في وضع المدينة، كمركز للتعاون متعدد الأطراف، ما لم تبادر الجهات المانحة والحكومات معا، بسد هذه الفجوة.  

أعلن ترامب، بمجرد أدائه اليمين الدستورية، في أوائل يناير من هذا العام، خفض ميزانية المساعدات الخارجية الأمريكية البالغة 71،9 مليار دولار بنسبة 83%. وقد كانت لهذه التخفيضات، التي دخل الكثير منها حيز التنفيذ بشكل فوري، تداعياتٌ بالفعل على جنيف، المدينة الدولية التي تستضيف مقر مئات المنظمات غير الحكومية، التي يعتمد تمويل الكثير منها على المساعدات الأمريكية .  

وتُعدّ الولايات المتحدة، أكبر مانح من القطاع العام، لهذه المنظمات، إذ تمثل أكثر من ربع إجمالي التبرعات (26,3%).  

ولمواجهة الأزمة، تُسرّح المنظمات في جنيف موظفيها وموظفاتها، وتمتنع عن تجديد العقود قصيرة الأجل، كما قلصت مساحات مكاتبها، وحوّلت فعالياتها إلى الإنترنت، وهي تغييرات ستؤثر بشكل كبير في اقتصاد المدينة. وقد أعلنت المنظمة الدولية للهجرة (IOM ) على سبيل المثال، أنها ستسرّح 20% من عملتها في جنيف، البالغ عددهم 1000 موظف وموظفة. وقال ريكاردو (اسم مستعار)، المستشار لدى المنظمة الدولية للهجرة، متحدثا إلى سويس إنفو (SWI swissinfo.ch )، إنه كان يتوقع تجديد عقده بنهاية الشهر. إلا أنه علم أنه لن يجدد.  

وأوضح أن عقودا عديدة قد أُلغيت، منذ أوائل شهر فبراير. وأضاف: “أجواء العمل مُزرية. وتشكل حالة عدم اليقين، عنصرا ضاغطا على الجميع”.  

المزيد

وإذا فشل ريكاردو في الحصول على وظيفة أخرى، فسيضطر للعودة إلى وطنه في أمريكا اللاتينية، في غضون ثلاثة أشهر. وقد يُجبر العديد من المقيمين والمقيمات، غير الدائمين وغير الدائمات، مثله على المغادرة، بمجرد انتهاء إقامتهم . ويقول: “جنيف مدينةٌ مميزة، ولكن عند حصول أزمة، قد يصبح وضع الشخص محفوفًا بعدم الاستقرار، تبعا للجنسية التي ينتمي إليها”.

محتويات خارجية

قطع شريان تمويل حيوي

تأتي هذه التخفيضات بعد عقدين من الارتفاع المطرد في المساهمات الدولية في تمويل المنظمات التي تتخذ من جنيف مقراً لها. وبلغت هذه المساهمات 23.6 مليار دولار أمريكي في عام 2020. ويمثّل المانحون من القطاع العام 90.1% من إجمالي هذا التمويل.  

ويقول جوليان بوفالي، رئيس قسم المجتمع المدني في مركز جنيف الدولي للاستقبال (CAGI) : “لا توجد أية منظمة دولية، لا تتلقى على الأقل 20% من تمويلها من الولايات المتحدة.  ويترك تجميد بهذا الحجم، تأثيرا بالغا في جميع المستويات”.  

ولا يشكل قرار ترامب حالة معزولة، بل هو جزء من تراجع عالمي أوسع نطاقا، في مجال المساعدات الدولية، على خلفية تزايد الديون، والحاجة إلى أن تجد البلدان الأموال، حتى تخصصها لزيادة إنفاقها الدفاعي، من بين أمور أخرى.  

الصومال
توزيع مساعدات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، في مخيم بالصومال، عام 2025 Copyright 2025 The Associated Press. All Rights Reserved

وقد خفّضت المملكة المتحدة، ثاني أكبر مانح عمومي لجنيف، مؤخرًا ميزانيتها المخصصة للمساعدات الإنمائية، بنسبة 40%، في حين خفّضت سويسرا، مساهماتها بنسبة 5.6%. ويقول بوفالي: “هناك تراجع عالمي في ثقة الدول المانحة التقليدية، واهتمامها بتمويل المنظمات الدولية”.

وتأتي هذه التخفيضات في وقت تتزايد فيه الاحتياجات الإنسانية العالمية بشكل حاد، مما يُفاقم الضغوط المالية على المؤسسات التي تتخذ من جنيف مقرًا لها. ويقدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أنه في عام 2025، سيحتاج حوالي 305 ملايين شخص إلى مساعدات وحماية. وقد تضاعف هذا الرقم خلال السنوات الخمس الماضية.

الأثر الاقتصادي في جنيف  

تعدّ المنظمات الدولية، والبعثات، والقنصليات، ركائز اقتصادية لمدينة جنيف، فهي تُوظّف أكثر من 33،000 شخص. كما ترتبط 3،400 وظيفة أخرى بالمنظمات غير الحكومية في المدينة، البالغ عددها 476 منظمة. وتضخ هذه الكيانات مجتمعةً، 7 مليارات فرنك سويسري، في اقتصاد جنيف، أي ما يُناهز 9%من إجمالي الناتج المحلي للمدينة.  

ويقول فانسن سوبيليا، المدير العام للغرفة التجارية في جنيف: “ستؤدي التخفيضات الهائلة في الميزانية، إلى تسريح مئات الأشخاص. ونحن نواجه خطر موجة تسونامي ذات تأثير مُعد

محتويات خارجية

وستتجاوز التداعيات الاقتصادية لهذه التخفيضات المؤسسات الدولية، لتشمل قطاع الفنادق والسياحة، بالإضافة إلى قطاع العقارات. ويحذّر سوبيليا قائلاً: “هذه المؤسسات جزء من منظومة جنيف. وإذا تأثرت، فسيتأثر اقتصاد جنيف أيضًا؛ ستتأثر الفنادق، والمطاعم، وسيارات الأجرة، وغيرها من مقدمي الخِدْمَات ومقدّماتها، بشكل مباشر”. وقد تواصلت منظمات، تسعى إلى تقليص مساحات مكاتبها، مع مركز جنيف الدولي للاستقبال (CAGI)، كما تحولت العديد من المؤتمرات الحضورية إلى مؤتمرات عبر تقنية الفيديو، مما يزيد من الآثار السلبية، المترتبة على قطاع الضيافة.

ويواجه قطاع السياحة في جنيف، الذي سجّل أكثر من مليون ليلة مبيت، في الربع الثاني من عام 2024، وهو رقم قياسي، حالة من عدم اليقين. وتتوقع مؤسسة جنيف للسياحة والمؤتمرات، انخفاضًا في الحجوزات، خلال الأشهر المقبلة، مع انكماش حجم الفعاليات الدولية

ضربة لمكانة جنيف العالمية  

يقول سوبيليا، إنه إلى جانب الاضطرابات الاقتصادية، فإن سمعة جنيف، كمركز للدبلوماسية المتعددة الأطراف، مهددة.  

 ويخشى بوفالي من اضطرار بعض المنظمات غير الحكومية إلى الإغلاق، ويشير إلى أن “هذا يُمثل خطرًا، إذ تعتمد بعض المنظمات على الولايات المتحدة في تمويلها، بنسبة تتراوح ما بين 40% و60%. 

وبينما قد تخفف بعض الجهات المانحة من القطاع الخاص، من بعض الأضرار، إلا أن التمويل الأمريكي ذو أهمية لا تُضاهى. ويقول بوفالي: “لا نشهد أي استجابة فورية من دول أخرى، على عكس زمن ولاية ترامب الأولى، عندما زادت الدول الأوروبية، تمويلها لمبادرات، في مجالي  الصحة الإنجابية، وحقوق الإنسان مثلا”.  

وتظل فكرة أن دولًا مانحة جديدة، مثل الصين، أو دول الخليج، قد تملأ الفراغ، مجرد تكهنات. إذ لم تُبدِ هذه الدول أي اهتمام خاص، حتى إن أرادت ذلك، فإن “هذه التحولات تستغرق وقتًا”، كما يقول بوفالي، مما يجعل جنيف عُرضةً لعدم الاستقرار المالي

هل بوسع جنيف وسويسرا تقديم الدعم؟

ولأغراض تخفيف وطأة الأزمة، خصّصت مدينة جنيف مليوني فرنك سويسري لمساعدة المنظمات غير الحكومية المتضررة، في حين اقترح الكانتون إنشاء صندوق طوارئ بقيمة 10 ملايين فرنك سويسري، لدعم موظفي المنظمات غير الحكومية المتضررة وموظّفاتها. لكن قد تعيق العقبات السياسية، التي تشمل رفض برلمان الكانتون لهذه الإجراءات، جهود الإغاثة فيه. ويؤكد سوبيليا ضرورة قيام الحكومة الفدرالية السويسرية بدور أكثر فاعلية في حماية المجال الدولي في جنيف، واصفًا إياه بأنه “جزء لا يتجزأ من هوية سويسرا”. وأعلنت وزارة الخارجية مؤخرًا، عن زيادة قدرها 5% من ميزانيتها المخصصة لجنيف الدولية، أي ما يعادل 1،2 مليون فرنك سويسري إضافية سنويًا.

محتويات خارجية

ويرى بوفالي أن هذه الأزمة تشكّل نقطة تحول محتملة للبلاد: “إذ إنّ لدى سويسرا فرصة لتعزيز مكانتها، كمركز للمنظمات غير الحكومية، عن طريق توفير الاستقرار والأمن، في وقت تواجه فيه المنظمات الدولية حالة متزايدة من عدم اليقين المالي”.

ما مستقبل جنيف الدولية؟  

يتفق الخبراء على ضرورة تقليص جنيف لاعتمادها على عدد محدود من الجهات المانحة الرئيسية. وقد وجدت دراسة أجراها معهد جنيف للدراسات العليا (IHEID)، أنّ 75% من التمويل، يأتي من 15 مصدرًا فقط، مما يجعل هذا النموذج “غير مقبول” بالنسبة إلى حكومة الكانتون المحلية، التي هي الجهاز التنفيذي لجمهورية جنيف وكانتونها.

ويُلخّص سوبيليا المخاطر قائلاً: “إذا انهار القطاع الدولي في جنيف، فلن يقتصر أثره على المستوى المحلي فحسب، بل سيمتد إلى نطاق الحوكمة العالمية. وستُحدّد الأشهر القليلة المقبلة ما إذا كانت جنيف قادرة على الحفاظ على مكانتها، عاصمة للدبلوماسية العالمية

تحرير: فيرجيني مانجان

ترجمة: مصطفى قنفودي

مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي

التدقيق اللغوي: لمياء الواد

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية