جُـوع الأســرى
يختار الفلسطينيون اسماء معاركهم مع الاسرائيليين بدلالات قاسية، صعبة، تترك النتائج رهنا بالصبر والصمود تماما كما في معادلة مقاومة الاحتلال المستمرة.
لذلك فإن إضراب الاسرى الاخير ليس سوى محطة اخرى من رحلة المعاناة هذه التي لا تكاد تستثني أحدا من الفلسطينيين.
في تدشينهم لاضراب المعتقلين في سجون اسرائيل مع انتصاف أغسطس 2004 الحالي، سارع الفلسطينيون الى اطلاق اسم “حرب الامعاء الخاوية” على المواجهه الجديدة مع الاحتلال الاسرائيلي.
يمكن للتسمية ان تكون تكثيفا ابداعيا لحالة نحو 8 الاف من الفلسطينيين الرازحين وراء قضبان سجون ومعسكرات اعتقال اسرائيل، ولها ان تكون ايضا محاولة قفز مميتة اخرى في ظل حالة عدم التوزان القائمة منذ اندلاع الانتفاضة قبل اربع اعوام.
ولاقدام الاسرى على هذه المخاطرة الكبيرة ما يبرره فهمهم لما الت اليه امور السياسة المعقدة بين الفلسطييين والاسرائيليين ودرجة التعب والانهاك التي تدفعهم اليها ادارة سلطة سجون اسرائيل وخلفها، حكومة ارييل شارون الحالية.
ولعل عدم احراز اي تقدم على مستوى قضية المعتقلين خلال فترات التفاوض القصيرة والمتوترة في السنوات الاخيرة، وانسداد الافق امام اي انفراج او تحرك يمكن ان يبعث الحياة في دم الاتصالات الاسرائيلية الفلسطينية المجمد، يدخل مباشرة في تكوين قرار خوض حرب “الامعاء الخاوية”.
ولا يخلو الامر من اسباب سياسية فلسطينية داخلية محضة خصوصا وان قضية المعتقلين في سجون اسرائيل وتجربة الاعتقال السياسي بشكل عام، ظلت خلال العقود الماضية تترك اثرا كبيرا على مجمل العمل السياسي والجماهيرى الفلسطيني.
وحسب احصاءات مؤسسة “الضمير” التي تعنى بشؤون المعتقلين، فان قرابة 650 الف فلسطيني دخلوا سجون اسرائيلي منذ حرب حزيران/يونيو عام 1967 او ما يعادل 40 بالمائة من مجموع السكان الذكور، منهم نحو 30 الفا خلال الانتفاضة الحالية.
لكن الحالة الانسانية العامة للاسرى الفلسطينيين الموزعين على اكثر من 25 سجنا ومركز اعتقال وتوقيف تابعة لمصلحة السجون او الجيش الاسرائيلي، تظل الدافع الاكبر وراء اصرار المعتقلين على دخول التجربة الصعبة القاسية.
وليس من الغريب ان ينطق بذلك سياسي مخضرم واسير حالي هو عبد الرحيم ملوح، نائب الامين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية المعتقل في سجن مجدو الاسرائيلي منذ عامين.
ملوح قال في تصريحات نقلت عبر الهاتف من سجنه ان الاضراب “هو السلاح الوحيد المتبقي بين ايدي الاسرى والمعتقلين وقد فرضته عليهم المعاناة اليومية وسياسة القتل البطيء وامتهان الكرامة التي تمارسها ادارات السجون الاسرائيلية”.
ارقام بحاجة الى ترجمة
لا يمكن للرد الذي تقدم به تساحي هنغبي، وزير الامن الداخلي الاسرائيلي ازاء خوض الاسرى اضراب الجوع، الا ان يكون هروبا واضحا وخيارا قويا بعدم تلبية مطالب السجناء الفلسطينيين الذين اختاروا هذه المرة، معركة الانسانية، على مواجهة السياسة.
هنغبي رد على تنفيذ الاسرى لتهديهم بالاضراب عن الطعام وقال “ليجوعوا حتى الموت”، لكن المسالة ادق واصعب من ان تقف عند هذا الرد وحسب، وليس تلويح ادارة السجون الاسرائيلية بإطعام المضربين عنوة الا تبديدا لمنطق الوزير المسؤول عن السجون.
في الامر اذا ما هو اوسع من مواجهة كلامية، لاسيما وان الاسرى بادروا هذه المرة الى خيار المخاطبة والمطالبة الانسانية البعيد عن نزاع السياسة حيث تلجأ اسرائيل الى دمغ الاسرى الفلسطينيين بوصف الدم والقتل.
هذه المرة تترجم الارقام إلى حالات انسانية بحتة، وليس الى صراع حول شرعية مقاومة الاحتلال واسقاط تهمة الارهاب. جوع الاسرى متعلق الان بوضعهم الانساني الخاضع لسطوة وظلم السجان ولكرامتهم البشرية المنتهكة ابدا.
فالسجون والمعتقلات الاسرائيلية تقفل ابوابها الغليظة واسيجتها الحادة العالية على كتلة بشرية قوامها، نساء واطفال وشيوخ وشبان تنتظرهم اسر وعائلات تقدر اعدادها بعشرات الاف ويفهم لغتها قوام المجتمع الفلسطيني كله.
ثمة، 470 طفلا بين الاسرى و107 امرأة وشابة من بينهن 21 اما وخمس قاصرات وطفلات رضيعات خرجن إلى النور في ظلمة غرف السجن.
أرقام “نادي الاسير” والمؤسسات الفلسطينية العاملة في مجال شؤون الاسرة تقول ان من بين الاسرى 800 مريض وجريح بحاجة الى العلاج فضلا عن 32 قاصرا.
هناك ايضا 72 اسيرا محتجزون في زنازين العزل الانفرادي و 17 اسيرا اخر قضوا اكثر من عشرين عاما في المعتقلات، اقدمهم سعيد العتتبة الذي امضى 28 عاما خلف القضبان اضافة الى 700 اسبر اداري معتقلون دون محاكمة وتمدد فترات اعتقالهم بشكل تلقائي وفق قانون طوارىء يعود تاريخ إصداره الى عهد الانتداب البريطاني في فلسطين (1919 – 1948).
العقوبات الاسرائيلة بحق الاسرى الفلسطينيين بلغت حد ابعاد 43 منهم من الضفة الغربية الى قطاع غزة بدلا من اطلاق سراحهم الى منازلهم في حين هُـدمت منازل نحو 200 من المعتقلين.
التوقعات
لم يسع عيسى قراقع، وهو الاسير المحرر ورئيس نادي الاسير الفلسطيني الا ان يصف اضراب المعتقلين الفلسطينيين الحالي بانه “سيكون الاصعب” محاولا اخفاء نغمة تشاؤم ثقيلة في حديثة عن توقعاته للنتائج المرجوة من جوع الاسرى.
قراقع عزى الامر الى سياسة ادارة السجون الاسرائيلية وكيفية تعاملها مع مطالب الاسرى الفلسطينيين وموقف حكومة ارييل شارون ازاء المعتقلين بشكل خاص وموقفها من الفلسطينيين بشل عام.
وتوقع قراقع ان تمعن ادارة السجون الاسرائيلية في رفضها التعامل مع مطالب الاسرى وان تلجا الى محاولة اطعامهم بالقوة كما حدث في اضراب عام 1982 عندما اجبرت اسرائيل المعتقلين على تناول الطعام بالقوة فكانت النتجية وفاة اثنين منهم.
ادارة السجون الاسرائيلية، ردت حتى الان على الاضراب بعمليات تنكيل واسعة وتصميم على عدم التعامل مع مطالب المعتقلين الانسانية، بل بالتحضير والاستعداد لكسره من خلال سلسلة من الاجراءات التي تشمل حربا نفسية، بحسب الصحف الاسرائيلية.
يدخل جوع الاسرى الان مرحلة دقيقة، ولا اشارة واحدة تقول ان حكومة اسرائيل مستعدة للمساومة والتفاوض لمنح المعتقلين طعاماافضل ووقتا أطول لزيارة عائلاتهم والكف عن فرض الغرامات والعقوبات والتوقف عن ضربهم واهانتهم ومنع ادخال الكتب والصحف واجهزة الراديو إليهم.
لايلوح في الافق سوى شمس آب اللاهبة تضيف عطشا على جوع الاسرى المنهكين وعلى تعب الشارع الفلسطيني، إذ ثمة سجن آخر كبير اسمه .. الاراضي الفلسطينية.
هشام عبدالله – رام الله
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.