حدود التغيير في العالم العربي
لم تحظ مبادرة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول حول الشراكة الأمريكية مع الشرق الأوسط باهتمام رسمي كبير من الدول العربية.
وقد تعاملت عواصم الشرق الأوسط مع مشروع الشراكة الأمريكي بأدب جمّ، لكن دون جدّية.
في الوقت الذي كان فيه أعضاء اللجنة الشعبية لمناهضة الحرب ضد العراق يجتمعون في أحد فنادق القاهرة، يُعبِّـرون عن رفضهم وسخطهم ضد الولايات المتحدة وشركائها الساعين إلى تغيير النظام العراقي بالقوة العسكرية، كان ممثلون من الأحزاب المصرية يجتمعون تحت مظلة لجنة الدفاع عن الديمقراطية، وانتهوا إلى رفض المبادرة التي أعلنها كولن باول وزير الخارجية الأمريكي تحت عنوان “مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية: بناء الأمل لسنوات قادمة”، وذلك باعتبار أن هذه المبادرة تعني تدخلا في الشؤون الداخلية للبلاد العربية والإسلامية، ولأنها تفرض تصورا مسبقا للديمقراطية لا يتناسب مع أوضاع هذه البلدان، ولأن الديمقراطية، حسب وصف بيان اللجنة، “هي قضية داخلية لكل شعب في بلده، ولا يمكن فرضها من الخارج بواسطة دولة تمارس أبشع أنواع القمع والاضطهاد مثل الولايات المتحدة الأمريكية”.
ويلخص هذا الموقفان طبيعة الموقف الشعبي السائد في المجتمعات العربية تجاه أبرز عنصرين من عناصر السياسة الأمريكية الراهنة، وهما قضية تغيير النظام في العراق عبر العمل العسكري، والتغيير في باقي البلدان العربية، وفق استراتيجية، لربما تكون صحيحة من الناحية المنطقية البحتة، تقوم أساسا على تغيير آليات التطور الداخلي في هذه البلدان عبر التعليم والاقتصاد والحريات السياسية، ولكنها لا تحتمل القسر الخارجي من الناحية العملية.
وثيقة متضاربة الاتجاهات
واقع الأمر، أن قراءة نص المبادرة توفر للمرء انطباعات مختلفة إن لم تكن متضاربة ما بين ايجابي وسلبي، إذ تعتمد على إيراد عدة حقائق عن سوء الأحوال العربية عامة لا يمكن الاختلاف بشأنها من قبيل الإشارة إلى مدى تخلف وضع المرأة العربية مقارنة بوضعها في بعض بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، وانتشار الأمية بين قطاع الطفولة العربية، وانحسار الوظائف لأجيال من الشباب المتعلم، وإن يكن في غالبيته قليل الكفاءة، فضلا عن إيراد بعض حقائق اقتصادية تبرز تدهور المستوى العام كمؤشر انخفاض إجمالي الناتج القومي لكل الدول العربية ذات المائتين وستين مليون نسمة، وكونه أقل من الناتج القومي لبلد مثل إسبانيا ذات الأربعين مليون نسمة، وعدد آخر من المؤشرات التي تبعث على الكآبة والحزن عما آلت إليه الأوضاع العربية عامة، نتيجة الجمود السياسي والركود الفكري والبلادة الاقتصادية.
وتستند هذه المؤشرات إجمالا إلى تقرير التنمية البشرية في العالم العربي الذي صدر منتصف العام الجاري عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، وحرره عدد من أبرز الباحثين العرب في المجالات الاجتماعية والثقافية والإنسانية والصحية، والذي حدد بدوره الواقع العربي، ومدى انكشافه وتخلفه، مقارنة بواقع دول أخرى في مناطق مختلفة من العالم.
كما استندت محاضرة باول التي ألقاها في “مؤسسة هيريتاج” اليمينية يوم 12 ديسمبر الجاري، أو لنقل مبادرته، إلى عدد من المقولات المنسوبة لقادة ورموز عربية، من بينهم الرئيس مبارك والملك محمد السادس والملكة رانيا، فضلا عن بيت من الشعر العربي الشهير يتعلق بأهمية إعداد الأم وحُسن تنشئتها علميا وثقافيا كأساس لا غنى عنه لإعداد الأمم الناهضة.
وهذه مقولات تؤكد على الحاجة إلى بناء الأمل، والانفتاح على الخارج وتأكيد الحريات ومواجهة المشكلات الاجتماعية، وضرورة التعاون مع العالم الخارجي لتطبيق مشروعات كبرى للتنمية الداخلية، وكأن رسالة باول هنا أن ما يطرحه ليس بجديد على الواقع والعقل العربي رسميا وشعبيا، وإنما هو استحضار لهذه الرؤى والمساهمة في تنفيذها بالتمويل والمشاركة ووضع البرامج التنفيذية والتطبيقية المختلفة لها.
ولعل تصريح ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط في الخارجية الأمريكية يعكس هذا المعنى حين قال “إننا لم نخلق حوارا جديدا، بل نشارك في حوار موجود بالفعل في العالم العربي”.
ثلاثة سياقات
وما بين المشاركة في حوار عربي أصيل، أو فرض حوار جديد تماما، يمكن الإشارة إلى ثلاثة سياقات متكاملة تساعد في بلورة الآفاق المنظورة لمثل هذا التفكير الأمريكي.
أول هذه السياقات يتعلق بالتوازن الداخلي بين أركان الإدارة الأمريكية وأنصار اليمين المتطرف الساعين إلى تغيير العالم بالقوة لتُـكيّـفه مع المنظور الأمريكي للحياة، وبين المعتدلين سياسيا في نظرتم لدور بلادهم العالمي وعلاقتهم بالآخر على أنواعه المختلفة.
والمفهوم أن باول يمثل هؤلاء المعتدلين سياسيا، إن لم يكن رمزهم الأبرز في اللحظة الجارية. بيد أنه، ووفق مؤشرات عديدة، ليس الأقوى بين أركان الإدارة الأمريكية، رغم امتلاكه عناصر المبادرة نسبيا في توجيه السياسة الخارجية لبلاده، وهو ما بدا في العمل ـ حتى اللحظة ـ تحت مظلة الأمم المتحدة بالنسبة لموضوع العراق.
وكون أن التوازن العام في غيرِ صالح باول، ومن ثَمَّ في غير صالح المعتدلين إجمالا، فإن طرحه للمبادرة يجعل منها قضية ضعيفة في المنطلق والأساس. وهنا قد يبادر البعض من العرب إلى الرهان على تطبيق المبادرة والتعامل الإيجابي، ليس حبا فيما جاء فيها، بل كنوع من توسيع خيارات القوة والتماسك أمام باول والمعتدلين إجمالا، وإغلاقا لبعض منافذ القوة بالنسبة لأصحاب النظريات التوسعية وسياسات الهيمنة الكلية.
ولكن يظل الأمر مرهونا بمدى القابلية للتطبيق. والتطبيق في حد ذاته لن يكون خيارا أمريكيا بحتا، وإنما خيار مشترك مع تلك الدول والأطراف المحلية من قطاع خاص ومؤسسات المجتمع المدني التي ستقبل التعامل مع بنود المبادرة.
وفي ظل حالٍ كهذا، فإن واقع البلدان العربية، لاسيما جانبها الإداري والسياسي، يُمكِن أن يُحدِّد السقوف العليا للنتائج المنتظرة، أو بعبارة أخرى، أن التطبيق سيظل مرهونا بمدى قابلية هذا المجتمع أو ذاك للدخول في معترك التغيير المحسوب، وليس بمدى قوة المبادرة نفسها أو صدق بعض مقولاتها، التي هي في الأساس مقولات عربية.
ناهيك عن أن المبلغ الذي استطاع باول تخصيصه للمبادرة كمرحلة أولى بقيمة 29 مليون دولار، يكشف جانبا آخر من جوانب الضعف في بنيتها. فبدلا عن حديث يقترب من خطة مارشال التي أعادت بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فإذا بآفاق التغيير الأمريكي لا تزيد عن مخصص مالي هزيل ومثير للشفقة.
فإذا ما وزع المبلغ على المواطنين في الدول العربية، سوف لن تزيد حصة كل منهم على 9 سنتات أمريكية (حولي 40 قرشا مصريا)، يراد بها تغيير حياته من تعليم واقتصاد وواقع سياسي على نحو جذري! والصحيح هنا أن المبادرة تتضمن إشارة إلى ميزانية أخرى سوف تأتى لاحقا، وقد تصل إلى بليون دولار. لكن القرار يظل في يد الكونغرس، حيث يسود المتطرفون ودُعاة الهيمنة على العالم.
دروس خاطئة
ويتعلق السياق الثاني بالدروس التي استخلصها العقل الأمريكي من أحداث 11 سبتمبر 2001. ومن مجمل ما يصدر عن دوائر صنع القرار الأمريكي، فإن الدرس الأكبر ينحصر في أن الحدث الإرهابي ـ وهو المرفوض دينيا وأخلاقيا بكل المقاييس ـ الذي تعرضت له الولايات المتحدة ناتج عن توافر بيئات عربية ومسلمة مختلفة جذريا عن البيئة الأمريكية، وأن تخلُّـفها وغياب الأمل عنها يُـنتج تفريخ عناصر إرهابية حاقدة على الحياة الأمريكية وساعية إلى تدميرها.
ومن ثَـمَّ، فإن محاصرة هذه العناصر تنطلق من تغيير تلك البيئات وتطوير أسس عملها، وبما يجعلها قريبة من تفهم الحياة الأمريكية ومتكيفة معها، وهو المفهوم الضمني والصريح في آن الذي قامت عليه مبادرة باول.
لكن الذي لم يستخلصه العقل الأمريكي بعد، هو ما يتعلق بالمسؤولية الأمريكية وحدودها في إنتاج ظاهرة الإرهاب الدولي المعاصرة، سواء ما ارتبط منها بجماعات ترفع شعارات إسلامية أو غيرها، كما حدث إبان حقبة الثمانينات في مواجهة الوجود العسكري السوفيتي في أفغانستان. فلا حديث عن تغيير أسس السياسة الأمريكية تجاه قضايا دولية وإقليمية تثير الإحباط واليأس والنزعة إلى التطرف الفكري والسلوكي معا.
والسلوك الأمريكي البارز هنا، وذو الصلة الوثيقة بمشاعر الغضب العربية والإسلامية، يتعلق بالسياسة الأمريكية المنحازة جملة وتفصيلا لإسرائيل في عدوانها الصارخ ضد الفلسطينيين، وفى تهديدها للأمن القومي العربي عامة.
ومما يفسح المجال لمساحة أكبر من النَّـقـد، ما تضمنته المبادرة من دعوة لإفساح الحريات السياسية وإعمال مبادئ الديمقراطية، وفي الوقت نفسه الإصرار على تغيير القيادة الفلسطينية رغم كونها قيادة منتخبة شعبيا.
وإذا رُبط ذلك بالاندفاع الأمريكي الظاهر نحو تدخل عسكري ضد العراق بغية تغيير نظامه بالقوة المسلحة، يبدو توقيت طرح المبادرة وكأنه محاولة للتغطية على الانتقادات العربية تجاه السياسة الأمريكية، وفي الوقت نفسه مسعى لتحقيق تأييد عربي لدور أمريكي للتدخل في صميم التطور الذاتي لكل مجتمع عربي.
القابلية للتطبيق
ويتعلق السياق الثالث، بالمضمون الحقيقي للمبادرة الأمريكية والقابلية لتطبيقها. فمن جهة، تدعو المبادرة إلى التغيير السلمي عبر بناء نظم تعليمية جديدة، وإشاعة مفاهيم وإجراءات تتعلق بالحريات السياسية، وإعادة بناء الاقتصاد العربي مع مساحة أكبر للحركة للقطاع الخاص والامتزاج مع آليات العولمة الاقتصادية.
ومن جانب ثاني، تحاول الولايات المتحدة أن تَبـرُز كشريك في عملية التغيير في المنطقة العربية وكطرف مُحفز، وليس كطرف يحمل خططا، وعلى الأطراف الأخرى أن تقبلها صاغرة.
غير أن مجمل التصورات الأمريكية المطروحة على المنطقة، يتجاوز هذا المضمون السلمي التدريجي إلى مضمون قهري وقسري في آن واحد، كما يبدو في حالتي العراق وفلسطين، وإلى حد ما السعودية، التي تبدو لدى بعض الدوائر الأمريكية قريبة من مرتبة العدو وبحاجة إلى تغيير كلي من أعلى نقطة في النظام السياسي إلى أسفل نقطة في المجتمع، وهو الأمر الذي يجعل التعاطف مع مبادرة باول مسؤولية مشكوك فيها رغم صحة بعض مقولاتها وافتراضاتها.
ولاشك أن العالم العربي بحاجة إلى تغيير حقيقي ومن الجذور، ودعوات الإصلاح والتغيير العربية موجودة فيه منذ فترة، والحق أن السياسة الأمريكية لم تكن إلا أحد عوائق هذا التغيير الحقيقي، وعاملا لمزيد من تفجر المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. ولا إنكار أبدا للمشكلات التي تحد من التطور العربي، لكن يظل التساؤل كيف يحدث هذا التغيير، هل من الداخل ووفق تصورات أبنائه العارفين ببواطن أموره وتطلعاته إلى مستقبل أفضل، أم من الخارج وبقيادة أجنبية؟
إن مشكلة السياسة الأمريكية، أنها فاقدة للمصداقية في العالم العربي بكل المقاييس، وأبسط مواطن عربي، وهو الهدف الأبرز من مبادرة تعنى بالتغيير وإتاحة التعليم المتطور والحريات السياسية والمجال الاقتصادي الأرحب، ومهما كانت ضحالة الثقافة السياسية لهذا المواطن العربي البسيط، يمكنه أن يورد الكثير من الانتقادات لهذه السياسة التي تظل ظالمة وفاقدة للمعايير الأخلاقية في نظره، وغير منصفة للمسلمين والعرب، ومنحازة ضد أعدائه الطبيعيين، ومتحالفة مع أنظمة وحكومات شمولية متسلطة.
وحين يغيب عنصر المصداقية الحقيقية عن أعين الناس البسطاء، تستمر حالة اللاّ مبالاة، ويسود اليأس، ويصبح احتمال الانفجار أكبر من ذي قبل، ولا تنفع بالتالي مبادرات أو أحاديث عن الأمل، مهما كان نبل الأهداف والصدق الشخصي في مَـن يطرحونها.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.