“حرب على إيران” في العراق؟
"إيران ربحت الحرب الاستراتيجية في العراق، ولم يبق أمامها الآن سوى استكمال هذا النصر بكسب معارك تكتيكية في منطقة الخليج وباقي أنحاء الشرق الأوسط".
هذا الكلام وما يشبهه يُتداول هذه الأيام من طرف كثيرين في عواصم الشرق الأوسط وخارجه. فهل هو صحيح تماما؟
هذا النص التقريري الحازم، كان اللازمة التي ترددت بكثافة الأسبوع الماضي على ألسن العديد من المسؤولين والإعلاميين العرب والغربيين والإسرائيليين، الذين أجمعوا على أن أمريكا، ومعها العرب، “خسروا العراق وقدّموا رأسه على طبق من ذهب لإيران”.
أبرز هؤلاء، كان بالطبع سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي الذي جال على مراكز التخطيط والإعلام الأمريكي في واشنطن ليدق أجراس التحذير من سيطرة إيران على جنوب العراق، وبالتالي، من إحتمال تشرذم هذا البلد ونشوب حرب إقليمية فيه وحوله.
حظي هذا الموقف بدعم قوي من “نيويورك تايمز”، كبرى الصحف الأمريكية، التي نشرت إفتتاحية سخرت فيها من السياسة الأمريكية واعتبرت أن “القوة العسكرية الأمريكية أزالت أخطر عدو أجنبي لإيران، فيما إستراتيجية الدبلوماسية الأمريكية أعطت الأحزاب الشيعية العراقية التابعة لإيران حصّة الأسد من السلطة السياسية والثروة النفطية”.
كما أن الموقف حظي أيضاً بتصفيق مسؤولين مصريين وأردنيين الذين حذر بعضهم من أن إيران “على وشك تحقيق طموحاتها الإمبراطورية” إنطلاقاً من العراق.
هل هذه المخاوف والتحذيرات في محلها؟ هل حُسم الأمر حقاً في بلاد الرافدين لصالح بلاد الفرس، وانقضى الأمر؟ ثم: لماذا إنفجرت التحذيرات من تمدد النفوذ الإيراني الآن وليس قبل سنة أو سنتين مثلاً؟
مخاوف وتحفظات ومبالغات
دوائر دبلوماسية غربية مطّـلعة في بيروت ترد بالإيجاب على السؤال الأول، وتتحفظ على حصيلة الثاني، وتبرر توقيت الثالث. فهي ترى أن طهران رسّـخت بالفعل أقدامها في الجنوب العراقي، إستراتيجياً ومالياً وأمنياً وحتى ثقافيا، إلى درجة أن بعض الموظفين الرسميين في البصرة باتوا لا يتحدثون إلا الفارسية.
بيد أن هذه الدوائر لا تعتبر أن ذلك يعني أن الأمر قد حُـسم نهائياً لصالح إيران. فالصراع برأيها لا يزال في بداياته الأولى. وأمريكا والدول العربية وتركيا وإسرائيل لم تستخدم كل أوراقها بعد على الساحة العراقية.
أما بالنسبة للسؤال الثالث، فتعرب الدوائر عن إعتقادها بأن “الهلع” السعودي والعربي في هذا الوقت له مبرر: الخوف من أن يؤدي الدستور العراقي في صيغته الراهنة إلى قيام دولة إنفصالية شيعية غنية بالنفط في الجنوب، متحالفة مع إيران. وبالطبع، مثل هذا التطور قد يقلب الوضع الإستراتيجي في منطقة الخليج رأساً على عقب. كما قد يدفع الأقليات الشيعية الكبيرة في بعض الدول الخليجية إلى التحرك للمطالبة بـ “حق تقرير المصير” أسوة بشيعة جنوب العراق.
لكن، وفي مقابل هذه المخاوف، ثمة من يرى في الشرق الأوسط أن الحديث عن تضخم النفوذ الإيراني، يتضمّـن مبالغات مقصودة، لها أهداف سياسية محددة.
إذن ما الجديد في أن يسيطر حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية على مقاليد الأمور في العراق؟ ألم يكن هكذا الأمر منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام صدام حسين؟ ألم يُـترجم ذلك نفسه عملياً في كل العمليات الإنتخابية التي جرت منذ عام 2003 وحتى الآن؟
إضافة، من قال إن كل شيعة العراق تابعون (أو يقبلون أن يتبعوا) شيعة إيران على نحو أعمى؟ لو كان الأمر على هذا النحو، لما راهنت واشنطن على إمكانية التحالف مع شيعة العراق، ولما أقدم الرئيس الأمريكي بوش على الاتصال شخصياً بعبد العزيز الحكيم، زعيم المجلس الأعلى، لحمله على تليين موقفه من مسألة الدستور.
وعلى أي حال، الرهان الأمريكي في هذا الصدد كان واضحاً، حين ردّ مسوؤولون في إدارة بوش على حملة سعود الفيصل بالإعلان بأن “العملية السياسية والدستورية الجارية الآن، ستكون كفيلة بنقل العراق إلى بر الأمان”.
الشجرة والغابة
أي وجهتي النظر الأقرب إلى الصحة؟ يبدو أن الحقيقة تقع في منتصف الطريق بين هذين الرأيين. فـ “الخطر الإيراني” موجود، لكنه مضخم، والمكاسب الإستراتيجية الإيرانية موجودة، لكنها محفوفة بالعديد من المخاطر.
كيف؟ هنا ربما يكون علينا هنا الإطلالة على العلاقات الأمريكية – الإيرانية بكليتها الإستراتيجية لا بجزئيتها التكيتيكية العراقية. وحين نفعل، ستتضح أمامنا غابة الصراع الأمريكي- الإيراني الشامل التي تختفي وراء شجرة أزمة العراق، وسنكون أمام حقيقة لا يمكن القفز فوقها: أمريكا لن تقبل، ليس فقط التمدد الإستراتيجي للنفوذ الإيراني، بل حتى إستمرار النظام الإيراني الحالي نفسه.
هذه الحقيقة قفزت إلى الواجهة مع الإعلان عن الاتفاق المبدئي على تخلّـي كوريا الشمالية عن برنامجها العسكري النووي، في مقابل ما قيل عن ضمانات أمنية أمريكية لنظامها ومساعدات مالية لاقتصادها. آنذاك، قفز العديد من المحللين والسياسيين الإيرانيين إلى الاستنتاج بأن سياسة الضغط التي مارستها بيونغ يانغ مع واشنطن نجحت، وأن في وسع طهران ممارسة السياسة نفسها والوصول إلى النتائج نفسها.
بيد أن هذا كان إستنتاجاً متسّرعاً كثيراً، إذ حتى لو قدمت واشنطن تنازلات ما إلى كوريا الشمالية، فهذه ستكون خطوة تكتيكية لا إستراتيجية. وبكلمات أوضح: الولايات المتحدة لن تكون مستعدة لا الآن ولا غداً للتخلي عن هدفها الخاص بتغيير النظام الكوري الشيوعي. قد تتبدل أساليب المقاربات والمجابهات، لكن الجوهر ثابت: تغيير النظام، وهو بالمناسبة، مبدأ طبقته الولايات المتحدة في السابق على دول كبرى عاتية ونجحت فيه.
فهي شنّت حرباً عالمية شاملة على ألمانيا واليابان، ولم توقفها إلا بعد أن تمكّـنت من تغيير النظامين فيهما وفق ما ترغب وتشتهي. وبرغم أنها لم ترفع شعار تغيير نظام الاتحاد السوفييتي وإستبدلته بشعار “الاحتواء” بعيد المدى، إلا أن الحصيلة كانت هي ذاتها في النهاية: تغيير النظام الشيوعي السوفييتي وإستبداله بنظام رأسمالي مُوالٍ للغرب.
لا مجال لخسارة الحرب
لندقق معاً في الكلمات الآتية التي كتبها عام 1947 الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان، واضع مبدأ “الاحتواء” (Containment): “من الممكن تماماً بالنسبة للولايات المتحدة أن تؤثّـر بأعمالها على التطورات الداخلية في كل من داخل روسيا وعلى الحركة الشيوعية العالمية بوجه عام. فهي تمتلك المقدرة على زيادة الصعوبات للسياسة السوفيتية، وبالتالي، تعزيز التوجهات التي ستجد مخرجها في النهاية، إما بتفكك القوة السوفييتية أو تليينها بالتدريج”.
ماذا يعني ذلك بالنسبة لكوريا وإيران؟ إنه يعني، وبوضوح، أن موافقة إدارة بوش على مد اليد لـ “دولة مارقة” ككوريا الشمالية وإيران، لا يعني أنها لن تكون مستعدّة في كل حين لاستخدام اليد الأخرى لـ “تفكيك القوة الكورية والإيرانية أو تليينها بالتدريج”، لا بل أكثر: ثمة شكوك قوية بأن إدارة بوش اليمينية المتطرفة ستكون في وارد إستبدال مبدإ تغيير النظام بمبدإ الاحتواء، برغم التشابه بين المبدأين على المدى البعيد. فبيونغ يانغ وطهران ليستا موسكو.
كما أن هناك فروقات كبيرة بين بيونغ يوانغ وطهران نفسيهما:
– فإيران، وعلى عكس كوريا، ليس لديها “باترون” (سيّـد) دولي قوي كالصين يسهّـل لها التصعيد، وهي تختبيء وراءه. صحيح أن الصين والهند (لأسباب نفطية) وروسيا (لأهداف إقتصادية وإستراتيجية) تبدو مستعدة لتخفيف الضغوط على إيران في مجلس الأمن، إلا أن هذا الدعم لا يمكن بأي حال أن يصل إلى مرحلة بيع جلد واشنطن من أجل عيون “قم”.
– ثم، لا يجب أن ننسى هنا أن الصفقة الأمريكية- الكورية لم تكن لتحدث، لولا إبرام صفقة أمريكية – صينية قبلها خلال قمة الرئيسين بوش وهيو جينتاو الأخيرة في نيويورك، والتي يُـقال أن الثاني رضخ خلالها لتهديدات الأول من أن “صبره بدأ ينفذ إزاء ألعاب بيونغ يانغ”، كما قالت “الغارديان”.
– كوريا، وعلى عكس إيران، لا تمسك بخناق أمريكا النفطي في مضيق هرمز. وبالتالي، وبرغم أن بيونغ يانغ يمكن أن تهدد الإستقرار الإستراتيجي في شرق وشمال شرق آسيا من خلال دفع اليابان وكوريا الجنوبية والصين إلى سباق تسلّـح غير تقليدي، إلا أنها لا تشكل أي تهديد للأمن القومي الأمريكي كما إيران. فهذه قد تكون قادرة على إركاع أمريكا على ركبيتها، إذا ما أفلتت طموحاتها النووية والإقليمية في منطقة الخليج من عقالها.
– وبالطبع، هناك معركة العراق والشرق الأوسط الكبير اللذين يمكن لأمريكا أن تتحمّـل خسارة معارك في دهاليزهما، إلا أنها لا يمكن بأي حال أن تتحمّـل خسارة الحرب فيهما، لأن هذا سيعادل خسارة الزعامة العالمية الأمريكية ذاتها.
هناك إذن، بون شاسع في طبيعة أزمة فلقتي “محور الشر” الكوري والإيراني مع الولايات المتحدة، وهو بون يدفع أمريكا إلى التفكير عشر مرات قبل تكرار الحرب الكورية في حقبة الخمسينات التي كبّـدتها خسائر بشرية فادحة، وإلى عدم التردد للحظة لغزو إيران أو حتى إشعال حرب عالمية جديدة، إذا ما شعرت أن هيمنتها على مورد حياتها النفطي “الآمن” في الخليج بات في خطر بسبب هذه الأخيرة.
صراع من أجل الإنهاك
ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني ببساطة، أن واشنطن لا يمكن أن تقبل بأي حال بهيمنة طهران على العراق. وما لن تقبله واشنطن سترفضه بقوة أكبر كل الدول الإقليمية المجاورة التي ستتحرك بقوة لوقف التمدد الإيراني، الأمر الذي سيتحوّل فيه العراق خلال الأسابيع القليلة المقبلة إلى بؤرة صراع إقليمي- دولي رئيسية شبيهة إلى حد كبير بتلك التي كان عليها لبنان في الفترة بين 1975 و1989.
– أطراف الصراع القادم هي: إيران والسعودية والأردن وتركيا وإسرائيل وسوريا (ما لم يتم تغيير نظامها قبل اللبننة الكاملة للعراق)، وكل هذه الأطراف ستكون لها تحالفات دولية تشمل أمريكا وأوروبا وروسيا والصين.
– أدوات الصراع: القوى المحلية العراقية، التي سيحظى كل منها بكل ما يشتهي من أسلحة وعتاد وأموال من الدول الإقليمية الرئيسية، إضافة إلى ما تناله هذه الأطراف الآن من عمليات السلب والنهب التي تقوم بها على أموال الدولة العراقية، خاصة من نفط الجنوب.
– صورة لبنان: الحرب ستتكرر بحذافيرها في العراق إلى أن تصل كل القوى الإقليمية والمحلية المتصارعة إلى مرحلة الإنهاك، فتقبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى حل وسط ما حول مصير العراق ومستقبله، وعلى رأس هذه القوى المستهدفة بالإنهاك ستكون إيران ذاتها.
سعد محيو- بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.