حرب لبنان: أي إستراتيجية إسرائيلية؟
ما هي تفاصيل الإستراتيجية الإسرائيلية في حرب لبنان؟ ما هو مداها؟ وإلى متى يمكن أن تستمر المعارك العسكرية؟
الدولة العبرية، وعلى عكس حليفتها الدولة الأمريكية، لا تسرّب عادة إلى الصحف مسودّات خطط حروبها، ولا تتحدث عن الأهداف الحقيقية لهذه الحروب، إلا بعد انتهائها.
حدث هذا في حرب 1948 التي يطلِـق عليها الإسرائيليون “حرب الاستقلال”، والتي تبيّـن لاحقاً أنها كانت معركة مزدوجة للقفز فوق مساحة الدولة اليهودية التي تمت بقرار التقسيم الذي اتخذته الأمم المتحدة، ولطرد أكبر عدد ممكن من المواطنين الفلسطينيين من أرضهم.
ثم تكرر ذلك في حرب 1967، حين اكتشف العرب متأخرين أن القوات الإسرائيلية اجتاحت أراضي مصر وسوريا والضفة الغربية، لا لإجهاض هجوم محتمل عليها، بل لتبقى في هذه الأراضي إلى آماد طويلة (لا تزال هذه القوات موجودة في الجولان السوري والضفة الفلسطينية منذ ذلك الحين).
الآن يتكرر السيناريو نفسه: لا أهداف علنية واضحة لحرب لبنان، سوى “إعلان نوايا” عن المطالبة بإطلاق الجنديين اللذين أسرهما “حزب الله” الأسبوع الماضي، وإبعاد هذا الحزب إلى ما وراء نهر الليطاني، أي نحو 40 كيلومتراً عن الحدود اللبنانية – الإسرائيلية.
بيد أن سير العمليات العسكرية لا يتطابق على الإطلاق مع هذه الأهداف المحددة. فإلى جانب القصف الجوي والبحري لمقار حزب الله ومستودعات ذخيرته وأسلحته، قامت القوات الإسرائيلية بتدمير مطار بيروت، وضربت كل المرافئ اللبنانية تقريباً من أقصى الجنوب في صور إلى أقصى الشمال في طرابلس، ودمّرت العديد من محطات الوقود، ونسفت معظم الجسور في أغلبية المناطق اللبنانية.
ما علاقة هذا التدمير المنهجي لمعظم المناطق اللبنانية بالحرب ضد حزب مسلّـح، لا يتواجد سوى في جزء محدّد من هذه المناطق؟
يقول المسؤولون الإسرائيليون إنهم يريدون من وراء ضرب البنى التحتية اللبنانية، إجبار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة على التحرك ضد حزب الله ونزع سلاحه ونشر الجيش على طول الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، وكل هذا تطبيقاً للقرار 1559 الذي يدعو إلى “حل كل الميليشيات المسلحة في لبنان”.
بيد أن تل أبيب تعرف قبل غيرها أن حكومة السنيورة لا تريد التحرك ضد حزب الله، لأنها غيرُ قادرة أصلاً على ذلك: لا عسكرياً، حيث يملك هذا الأخير قوة حرب عصابات ضاربة نجحت في دفع إسرائيل نفسها إلى الانسحاب من الجنوب عام 2000، ولا سياسياً، بسبب التفاف ثلث اللبنانيين من الطائفة الشيعية حوله.
ثم أن آلة الحرب الإسرائيلية لا تضغط في الواقع على الدولة اللبنانية بل تدمـّرها، ليس فقط عبر نسف أسُـس الاقتصاد اللبناني، بل أيضاً عبر مصادرة قدرة هذه الدولة على اتخاذ القرارات العسكرية والسياسية، وهذا ما يُـهدد بتحويلها مجدّداً إلى “دولة فاشلة”، مما سيشرع الأبواب (مجدداً أيضاً) أمام مشاريع التقسيم والتفتيت في لبنان، ومن بعده ربما أيضاً، في سوريا وباقي الدول العربية.
فهل هذا ما قصده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حين قال إنه يبدو أن ثمة ” أجندة إستراتيجية إسرائيلية مخبأة وراء الحرب الراهنة” أو ما عناه الرئيس الفرنسي جاك شيراك حين تساءل عما إذا كان هدف الحرب ضرب حزب الله أم تدمير لبنان؟
سنأتي إلى هذين السؤالين بعد قليل. لكن قبل ذلك، وقفة أولاً أمام حيثيات الحرب المستمرة منذ 13 يوليو الحالي.
محصلات ونتائج
تقول المعلومات المتوافرة هاتفياً من مصادر حزب الله إن الغارات الإسرائيلية لم تصِـب الحزب سوى بـ “خدوش بسيطة”، ولم تنجح في تقليص قدراته الهجومية.
صحيح (تضيف المصادر) أن الطيران والبحرية الإسرائيليان نجحا في تدمير المربع الأمني للحزب، والذي يضم مقاره وبعض مؤسساته القيادية في حارة حريك بالضاحية الجنوبية، إلا أنه من الغباء الاعتقاد أن الحزب كان سيُـبقي هذه المقار والمؤسسات عرضة للقصف على هذا النحو.
وبرغم أن المصادر تعترف بأن الغارات الجوية الإسرائيلية أصابت بعض مستودعات الأسلحة تحت أرض المربع، إلا أنها تؤكد أن هذه لا تشكـّل سوى نسبة ضئيلة من نحو 600 مستودع موزعين بين الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. أما الخسائر البشرية للحزب، فتؤكد المصادر أنها لا تتجاوز حفنة من القتلى والجرحى، هذا في حين أن المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية للحزب (والتي تشكـّل في الواقع اقتصادا مستقلاً عن الاقتصاد اللبناني بموازنات سنوية، يقال إنها تتجاوز ألـ 400 مليون دولار)، فهي لم تمس.
هذه المعطيات تعني ببساطة أن الحزب، كبنية عسكرية وتنظيم اجتماعي، قادر على الصمود في الحرب لفترات طويلة. وإذا ما أضفنا إلى ذلك نجاحه في ضرب العمق الإسرائيلي، كنهاريا وصفد وحيفا وباقي بلدات الجليل الأعلى بالصواريخ المتطورة بدون أن ينقص ذلك من قدراته الهجومية (يقال أنه أطلق حتى الآن 900 صاروخ من أصل ما بين 12 إلى 18 ألف صاروخ متعددي الأنواع) ، فهذا يعني أن الحرب في لبنان لن تكون كما مع كل الحروب العربية – الإسرائيلية السابقة، شارعاً ذا اتجاه واحد.
في المقابل، ترسم الدوائر الإسرائيلية (” هآرتس”، “كريستيان ساينس مونيتور”) الصورة التالية:
· قطعت الغارات المتواصلة كل أوصال إمدادات حزب الله، من الضاحية إلى صور، ومن بيروت إلى دمشق، وهي تحاول الآن استهداف 12 من كبار قادرة الحزب في الضاحية الجنوبية، على رأسهم حسن نصر الله وعماد مغنية وإبراهيم عقيل.
· العمل جار على قدم وساق لإقامة منطقة أمنية عازلة، تمتد من قرية كفركلا إلى الناقورة على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية بعمق يتراوح بين 20 و30 كيلومتراً. وسيتم قريباً إجلاء معظم سكان هذه المنطقة لمنع حزب الله من محاولة العودة إليها.
· الاجتياح البري للبنان، على غرار ما جرى خلال حرب 1982، ليس وارداً حتى الآن، لكنه قد يصبح كذلك إذا ما توسعت رقعة القتال أو إذا ما قصف حزب الله مدينة تل أبيب بالصواريخ.
· هدف العملية الإسرائيلية (المعلن بالطبع)، هو إما تجذيب قدرات حزب الله أو اجتثاثه كلياً. وفي كلا الحالتين، من الحاسم للغاية بالنسبة للدولة العبرية أن “توجّـه ضربة قاصمة للبنى التحتية التي أقامها حزب الله على مدار السنوات الأخيرة”، على حد تعبير قائد سلاح الجو الإسرائيلي الجنرال أليعازر شكيدي.
هل هذه الأهداف الإسرائيلية قابلة للتحقيق؟ يُـجمع المحللون على أن تل أبيب تُـدرك أن الخيار العسكري ضد حزب الله لن يجد نفعاً، ولن يؤدي إلى “حل نهائي” للصراع معه. فالحزب ليس دولة أو جيشاً نظامياً كي يمكن إلحاق الهزيمة به مرة وإلى الأبد، وهذا ما يجعلها في حاجة إلى تتويج نشاطاتها العسكرية بأخرى دبلوماسية تمكّـنها من تحقيق أهداف الحرب.
وبالتالي، فهي تعمل على خطين: الأول، عدم وقف النار قبل تحقيق كل الأهداف العسكرية، وهذا يتم بموافقة تامة من الولايات المتحدة التي نجحت في حمل قادة دول مجموعة الثمان الكبار على عدم الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار والاكتفاء بالحث على “وقف العداوات”. والثاني، استخدام الورقة العسكرية للضغط على كل الدول (بما في ذلك ربما سوريا قريباً ) لحملها على إطلاق المبادرات الدبلوماسية التي تحقق شروطها.
“الإستراتيجية الدينامكية”
نعود الآن إلى سؤالنا الأولي: هل تتضمن الأجندة الإسرائيلية الخفية التي تحدث عنها الرئيس الروسي، تدمير الكيان اللبناني، وليس فقط كيان حزب الله، ومعه ربما تغيير خريطة الصراع في الهلال الخصيب العربي؟
يبدو أن الأمر كذلك. وهذا على أي حال ما ألمح إليه البروفسور شؤل ميشال في جامعة تل أبيب حين قال أمس (صحيفة هآرتس يوم 17 يوليو 2006) إن “إستراتيجية إسرائيل دينامكية على الأرجح، مما يعني أنها “تخترع” نفسها وفق التطورات على الجبهة”.
وبالطبع، الإستراتيجية العسكرية والسياسية التي “تخترع نفسها”، تتضمن كل الاحتمالات والأجندات العلنية منها، كما السريّـة.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.