حرب مفتوحة بين بوتفليقة وبن فليس
"العماري يحقّـق في حرب جبهة التحرير". تحت هذا العنوان الرئيسي، صدرت صحيفة الخبر الجزائرية بتاريخ 11 أغسطس 2003.
وتقصد الصحيفة هنا الأمر الذي أصدره الفريق محمد العماري، رئيس هيئة الأركان بفتح تحقيق حول ما يجري من صراعات داخل جبهة التحرير الوطني
انتظر المراقبون موقف المؤسسة العسكرية الجزائرية من الصراع على زعامة حزب جبهة التحرير الوطني بين الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ورئيس حكومته السابق، علي بن فليس.
وعُرف موقف الجيش الجزائري عندما سربت “جهات مجهولة” نسخة للأمر الذي أصدره رئيس هيئة أركان الجيش الجزائري، محمد العماري، يأمر فيها مصالح الاستعلامات العسكرية تحديد هوية الراغبين في زعزعة جبهة التحرير.
من النادر أن تكتب الصحف الجزائرية عن الأوامر الداخلية للجيش الجزائري، لأن هذه الأوامر أسرار عسكرية لا ينبغي أن يطلع عليها “المدنيون”. ولكن عندما يطلع المدنيون على النسخة الكاملة لأمر عسكري صادر عن قائد الجيش الجزائري بكامله، فإن الأمر يُـصبح محل تساؤل وتأويل.
فقد علمت الصحف الجزائرية أن قائد هيئة أركان الجيش الجزائري، الفريق محمد العماري يريد معرفة هوية الواقفين وراء الهجمات على مقرات حزب جبهة التحرير الوطني. وحسب بعض الصحفيين الجزائريين الذين اختيروا “دون سواهم” عند الحصول على هذا الخبر، يكون الفريق محمد العماري قد شبه تحركات المهاجمين لمقرات جبهة التحرير بإسلاميي الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة.
أوامر اندهش لها الكثير من السياسيين وتشبيهات لها مدلولاتها، لأن وصفهم بالإسلاميين المتطرفين معناه الصحيح أن الجيش لا يثق بهم وأنه مستعد للتعامل معهم كتعامله مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
هنا، وبالاعتماد على نسق السياسة الداخلية الجزائرية، يُصبح مؤيدو الرئيس الجزائري في وضع سيئ عند مواجهة المؤسسة العسكرية. ومما يزيد الطين بلة، أن مساندي الرئيس الجزائري عندما هاجموا مقرات جبهة التحرير الوطني التي يرأسها علي بن فليس، ظنوا أن الجيش راض عنهم تمام الرضى.
مشكلة أخرى قد تتعرض المهاجمين لمقرات حزب جبهة التحرير الوطني، وتتمثل في إمكانية طلب المحققين العسكريين لهم خبرا بسيطا، لكنه كبير المعاني، ويتمثل في محاولة معرفة الذين قالوا وأكّـدوا أن الجيش يقف وراءهم.
وحسب التسلسل المنطقي للأحداث، سيمتنع المهاجمون لمقرات جبهة التحرير عما يقومون به وسيزيد هذا من قوة علي بن فليس، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني.
معركة مُـبكّـرة من أجل الرئاسة
من ناحية ثانية، اتّـضح الأمر بالنسبة لباقي الطبقة السياسية التي ستنقسم حسبما جرت عليه “العادة” إلى أحزاب تمتنع عن تقديم مرشحها لأنه لا حظّ له وتساند من ليست له مشاكل مع الجيش ليُصبح بعدها رجل مثل علي بن فليس رجل الإجماع الذي تفضله الآلة الانتخابية التقليدية الجزائرية لأنه يُـوفّـر عليها الخوض في صراعات سياسية لم تتقن أبجدياتها.
وسيظهر حسب هذا المسلسل مرشحون من تيارات مختلفة، إسلامية وعلمانية، لا تقتنع بما يُسمّـى مرشح الإجماع وتريد أن تنظم انتخابات ديموقراطية على الطريقة الغربية.
لم يقل بن فليس إنه ضد الانتخابات الديموقراطية على الطريقة الغربية، ولكن من مصلحة حزب جبهة التحرير الوطني أن يعتمد على ما تبقى من الطرق التقليدية والمُـتّـبعة عند اختيار الرؤساء في الجزائر،
وهي معرفة موقف الجيش.
هناك من يتمنى أن يكون اختيار الرئيس ليس عبر معرفة موقف المؤسسة العسكرية، بل بالاستئناس به، غير أن مهاجمة مقرات حزب جبهة التحرير من طرف مؤيدي الرئيس الجزائري عبر استعمال الكلاب وقنابل الغاز المسيل للدموع، أرجأ التغيير السياسي، وعقّـد من مهمة انسحاب كامل للجيش من الحياة السياسية.
تشير الأدلة مجتمعة إلى خطأ كبير في تقدير الرئيس الجزائري لأنه رفض طوال خمسة أعوام الاعتراف بوجود مجتمع مدني يتعامل بديموقراطية واضحة مع الجيش والسياسيين.
والثمن الذي يدفعه بوتفليقة الآن هو نشر الصحف الناطقة باسم هذا المجتمع فضائح مالية لا تنتهي لكل أصدقاء الرئيس لتطال شقيقه سعيد بوتفليقة.
أي مرشّـح يريد الجيش؟
لا يمكن نفي مدى الخدمة السياسية التي قدمتها أخطاء بوتفليقة وشقيقه لعلي بن فليس، إذ أنه يبدو حاليا المرشح الأوفر حظا للفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو الآن ينال ثقة الجيش وأغلب القيادات السياسية التقليدية التي يمكنها تجنيد أكثر من أربعة ملايين ناخب، وهذا العدد قد يكفي للفوز بالانتخابات الرئاسية إذا ما جرت في جو شفاف مع الأخذ بعين الاعتبار صعوبة تكتل باقي الطبقة السياسية وراء مرشح واحد بسبب تناقضها، رغم أن كل شيء ممكن.
يوجد من ناحية أخرى حقيقة أن الضجيج الهائل لإمكانية رحيل بوتفليقة لا يمكن أن يخفي حقيقة أخرى، وهي أن بوتفليقة لا يمكن أن يرحل دون أن يحدث ضجيجه الخاص به، لأن الرجل، وإن كان خاسرا من الناحية السياسية، إلا أنه شخصية من العيار الثقيل كان الوحيد من بين أقرانه ممن أزعجوا المؤسسة العسكرية بتصرفات يقترب بعضها من الدهاء السياسي، وبعضها الآخر، يفضل البعض وصفه بـ “الجنون المحض”.
وأثبتت التجربة الجزائرية أن اقتران هاتين الصفتين في شخص رئيس الجمهورية خلط حسابات الكثيرين، جيشا ومدنيين، وجعلهم لا يفرقون أحيانا كثيرة بين الجنون والدهاء.
ولو تمّ التسليم بفوز علي بن فليس برئاسة الجمهورية، فستنتظره مسؤولية ضخمة وجسيمة وتتمثل في إرجاع ثقة الشعب الجزائري في الدولة، إذ على الرغم من وجود مؤيدين لبن فليس داخل أوساط الشعب الجزائري، فإن إحصاءات ودراسات الخبراء المدنيين والعسكريين، أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن أغلبية الشعب الجزائري لا يثق في دولته ويعتبرها عصابة من الراغبين في الثراء السريع عبر استغلال السلطة.
لم يفلح بوتفليقة في نزع هذه الصورة من ذهن الشعب الجزائري ولم يتمكّـن من ضرب البيروقراطية على يديها حتى يمرر المئات من الأوامر التي أصدرها بغرض الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
يقول علي بن فليس إنه على علم بما يكنه الشعب الجزائري تجاه أصحاب القرار في الجزائر، وأنه مستعد لإصلاح ذات البين مع أبسط المواطنين.
كلام قد يبدو معقدا، إلا أن المثل الشائع لدى عامة الناس يدل على أن ما يقصد السياسيون والعسكريون إصلاحه عبر أعقد الدراسات العلمية وأطول الاجتماعات الداخلية مفهوم جدا لدى المواطن العادي.
فهو عندما يغضب أو يشعر بالحرمان من أبسط حقوقه، يصف الجزائر بأنها دولة رسوم متحركة أو حسب التعبير الشعبي: “دولة ميكي ماوس”.
هيثم رباني – الجزائر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.