حركة فتح والمراجعة المطلوبة
بعد يومين من الاشتباكات وسقوط عدد من الضحايا الأبرياء وحوادث اختطاف لناشطين وروايات متناقضة حول مسؤولية البدء بالتحرش والخطف وتوجيه الرصاص أولا إلى الطرف الآخر، اجتمع وفدان من فتح وحماس.
الوفدان تناقشا بوضوح وقررا عدم توجيه الرصاص الفلسطيني إلى الصدر الفلسطيني، وإنهاء المظاهر المسلحة وتطبيق القانون..
من جهة أخرى قرر الطرفان ورفع الغطاء التنظيمي عن المخالفين، وتشكيل لجان مشتركة لمتابعة التنفيذ، بما فيها لجان مناطقية.
وتبدو النهاية على هذا النحو كطبعة مكررة من لقاءات سابقة، حين كانت فتح تمارس السلطة وحماس في موقع المقاومة والمعارضة معا. والآن، ومع تبدل المواقع بين الطرفين، لم تختلف كثيرا حالة غياب الثقة، بل ربما زادت أضعافا مضاعفة، يصاحبها حال احتقان داخلي في فتح، نتيجة الابتعاد عن السلطة وهيلمانها ونفوذها وأموالها، مع إصرار مُعلن وليس مضمر، على الأقل من قبل بعض القيادات البارزة، بإفشال تجربة حماس في الحكم، وجعلها التجربة الأولى والأخيرة معا.
معادلة مرتبكة
أما حماس، فتبدو وافدة على ممارسة السلطة والحكم، وتبدو مرتبكة ما بين ضغوط الداخل والخارج لتغيير القناعات والسلوك، بين التمسك بالثوابت التي قامت عليها الحركة ونمت وتوسعت.
وهكذا تبدو المعادلة الفلسطينية الجديدة ما بين قوة وطنية هزمت ديمقراطيا وتعيش طور التفكك الداخلي، وأخرى تستمد بقاءها من شعبية مستحقة، في الوقت نفسه في مرحلة تحول بلا معالم تقريبا. ومثل هذه المعادلة الملتبسة على جانبيها كفيل بأن يجعل الشكوك والتوجس المتبادل هو الأصل، وما عدا ذلك من قبيل تسديد الخانات لا أكثر.
ودون تشكيك في النوايا الوطنية لهؤلاء الذين اجتمعوا لاحتواء المواجهات المسلحة الأخيرة من الجانبين، فالمسألة ليست من قبيل الترضيات ولا الاتفاقات العارضة، وإنما هي أكبر من ذلك بكثير، وإن أريدَ حل حقيقي يجنّـب الفلسطينيين المزيد من الانهيار الداخلي والاقتتال الأهلي، فهناك استحقاقات لا يمكن التضحية بها أو غض الطرف عنها، وتدخل جميعها في نطاق الأمور الهيكلية والبنائية لكلا الطرفين، والتي تتطلب صراحة مع النفس وصدقا في الفعل وإرادة حديدية. وللأسف تبدو مثل هذه العناصر، بعيدة المنال.
شيخوخة سياسية
ففتح، وهي الأكبر تاريخيا والأكثر نضاليا، عليها أن تعترف بأنها دخلت مرحلة الشيخوخة السياسية والنضالية منذ فترة لا تقل عن عقد كامل، وأنها تعاني اختلالات عدّة ما بين تنافسات وصراعات أجيال، وأخرى ما بين مناضلي الخارج ومناضلي الداخل، وبين الذين يشعرون بالاستبعاد والانكفاء على الذات، وهؤلاء الذين استفادوا وأثروا، وبعضهم فسدوا بفعل الانغماس في السلطة، التي رأوا فيها تعويضا عن سنوات النضال الأولى، ولم يروا فيها مجرد مرحلة نحو هدف أسمى يبدو، وفق متغيرات اللحظة الجارية، أبعد مما كان قبل عقد.
الأكثر من ذلك، فعلى فتح أن تعترف أنها تعيش أزمة قيادة، والمقصود هنا ليس مجرد وجود زعيم أو رئيس وصل إلى مكانته وفق آليات البيروقراطية العتيدة أو الأقدمية النضالية، وإنما المقصود هو القيادة ذات الزعامة والمكانة التي يلتف حولها الأعضاء، احتراما وإكبارا والتزاما مؤسسيا وقيميا.
النضال المنضبط والانفلات الأمني
ففتح، النضال المنضبط والسلوك الثوري، لم تعد هي فتح الراهنة المنقسمة على نفسها والتي تموج فيها مجموعات وجماعات، كل منها يناقض الآخر وينافسه على مزايا صغيرة تحت مظلة السلطة التي تحولت إلى مخزن كبير للموظفين ـ الثوريين سابقا ـ ذوي الحظوة.
وكم يحزن المرء أن يرى شباب فتح الملثمين يحملون السلاح يجوبون به شوارع المدن والبلدات الفلسطينية لإرهاب أهلهم، بدلا من عدوهم، فيما وصف أيام فتح المهيمنة على السلطة بأنه مجرد انفلات أمني، فيما الواقع أكثر مرارة، لأن هؤلاء المنفلتون باتوا يشكلون مركز قوة، فهم أصلا منوط بهم حماية أمن الوطن والمواطنين، ولكنهم يمارسون سلطة فوق الوطن والمواطن معا. فجميع هؤلاء محسوبون على أجهزة أمنية تابعة اسماً للسلطة، ولكن للأسف كل منها يعمل لحسابه الخاص أو لحساب قائده.
فقوات الأمن الوقائي على سبيل المثال، تعطي لنفسها الحق في إغلاق شوارع بكاملها في وجه كل المواطنين، بمن فيهم وزراء ونواب، لاسيما إن كانوا من حكومة حماس أو نوابها، كما حدث مرارا مؤخرا. وحين يتصرف جهاز أمني بصفته الأعلى من كل الحكومة والنواب المنتخبين، فكيف تستقيم الأمور للسلطة ككل وللحكومة المنتخبة؟
وإن لم يدرك الرئيس الفلسطيني المغزى السلبي لهذا التميز غير المبرر لأحد الأجهزة الأمنية والأجهزة الأخرى التي تعمل، ما هو أسوأ، فلن يتوقف الأمر عند هذا الحد.
وفي كثير من حالات الانفلات الأمني السابقة، لم يحدث الحساب القانوني، وتركت الأمور على طريق الاستفحال، بما أعطى رسالة سلبية جدا لكل الفلسطينيين في الداخل والخارج، لاسيما وأن البعض من هؤلاء المنفلتين تمت مكافأته ومُـنح الامتيازات، استنادا إلى وهم أنهم الأحق، مِن مَن؟ لا أحد يعلم، وكأن النضال المزعوم تحوّل إلى “سبوبة” عيش ومكانة مصطنعة وفساد منتشر وحروب صغيرة بائسة.
إستراتيجية غير حكيمة
بدت أزمة فتح جلية في استراتيجيها غير الحكيمة في التعامل مع هزيمتها الانتخابية وخروجها من السلطة. فبدلا من وضع أولوية حماية التجربة الفلسطينية الديمقراطية الوليدة، وإفساح المجال لاكتساب خبرات العمل من موقع المعارضة الوطنية، ووضوح الحساب مع النفس، بدت الأولويات مجسّـدة في هدف واحد، وهو العودة إلى السلطة بأسرع ما يمكن عبر المساعدة في تكثيف الضغوط على حماس وإفشال حكومتها بأسرع ما يمكن، وتكدير الوضع الأمني وتغييب القانون وسحب الصلاحيات من الحكومة بالمخالفة مع القانون الأساسي للسلطة، أملا في أن تؤدي ضغوط الداخل مصحوبة بضغوط الخارج، إلى انقلاب مشاعر التأييد الفلسطينية إلى مشاعر غضب ورفض، وهو ما لم يحدث حتى الآن على الأقل.
ففي حكايات الأراضي الفلسطينية، أن بعض وزراء الحكومة السابقة أخذوا معهم سيارات الوزارة وأجهزة التكييف وغالبية المستندات، وكأن ما هو ملك للشعب الفلسطيني بات مجرد إرث شخصي.
نحو ثورة تنظيمية
في أي تاريخ لفلسطين وشعبها وثورتها، سيكون هناك مكان عريض ومحترم لفتح. فعلى الأقل هي التي افتتحت فصلا مُـبهرا في النضال والثورة الفلسطينية.
والخوف هو أنها الآن تتخلى عن هذا التاريخ الناصع بأيدي أبنائها وليس بأيدي أحد آخر، وإن أريد الحفاظ على هكذا تاريخ كان ناصعا، فلا أقلّ من ثورة تنظيمية داخلية تُـطيح بهؤلاء الذين تحوّلوا إلى عبء على فتح وعلى كل فلسطين معا.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.