حقيقة جديدة في المشهد العراقي
في الوقت الذي تشدد فيه القوات الأمريكية حصارها على مدينة الفلوجة وتشتد المخاوف من احتمال اندلاع مواجهات عنيفة في مدن أخرى، برزت حقائق جديدة في المشهد العراقي.
فقد أثمرت الأسابيع الاخيرة جملة من المعطيات الملفتة من أهمها تنامي الدور السياسي والاجتماعي لهيئة علماء المسلمين في العراق.
يمكن القول أن هيئة علماء المسلمين في العراق كانت أول تنظيم سياسي واجتماعي يؤسس في العراق فور احتلاله قبل أكثر من عام، إذ تشكلت الهيئة بإطارها العام في 14 أبريل 2003، أي بعد خمسة أيام فقط من احتلال العراق، من قبل مجموعة من علماء الدين السنة الأجلاء الذين سرعان ما بلوروا مشروعا وطنيا عاما ذو أبعاد متعددة.
أولها تقوية تلاحم العراقيين في ظل حملات التقسيم والشرذمة المقصودة، وثانيها مواجهة الاحتلال ومقاومته بالطرق السلمية وفضحه من خلال توعية العراقيين بمراميه ومقاصده، أما الجانب الثالث الذي اختطته الهيئة، فهو الجانب الديني المتعلق بقضايا الفقه الإسلامي باعتبارها نواة لمرجعية دينية لأهل السنة في العراق.
ولم ينس القائمون على الهيئة، الجانب الاجتماعي الذي يتحتم عليهم القيام به في ظل غياب مؤسسات الدولة بما يتضمن من توجيه ونصح وإرشاد ومساعدة.
ويقول الدكتور مثنى حارث الضاري، مسؤول الشؤون الإعلامية في الهيئة إن هذه المؤسسة ليست حزبا، ولا تسمح لأعضائها بالانتساب لأي من الأحزاب والحركات السياسية العاملة في الساحة العراقية، خشية أن يعمل هؤلاء على توظيف وجودهم في الهيئة لصالح تنظيماتهم أو مواقفهم السياسية.
ويشير الدكتور الضاري إلى أن هيئة علماء المسلمين تضم علماء ينتمون لشتى المذاهب الإسلامية الفكرية، فهي إذن ليست حكرا على جهة محددة أو اتجاه فكري بعينه.
ومن المهم في هذا الصدد، تأشير حقيقة كون الهيئة تضم في أمانتها العامة علماء أكراد من شمال العراق، مما يعني أنها تنأى بنفسها أن تنحصر في إطار ضيق يحاول تقسيم العراق إلى عرب سُـنّـة وعرب شيعة وأكراد. وبالتالي، فإن ما يجمع هؤلاء جميعا هدف واحد، هو العمل على نهضة العراق وبنائه على وفق منظور إسلامي حضاري.
ومن شأن هذا التنوع في الرؤى أن يسمح للجميع بتقديم تصوراتهم ورؤاهم بعيدا عن الاحتكار أو الانفراد والتحكم، حيث تجتهد الأمانة العامة للهيئة – حسب تصريحات مسؤولي الهيئة – في اعتماد مبدإ الشورى بأقصى صوره في اتخاذ قراراتها وبناء مواقفها.
مواقف مشهودة
وعلى الصعيد الدعوي والاجتماعي، حاولت الهيئة رعاية مساجد السُـنة في عموم العراق، كما أنشأت عددا من المراكز التعليمية المعنية بمفردات العلوم الإسلامية.
وكان أبرز مواقفها، تلك المتعلقة بالمجاهرة برفض الاحتلال وبيان الموقف الشرعي من مقاومته، حيث لم تساوم على حق العراقيين في الدفاع ضد المحتل بكل أشكال المقاومة، سلما وحربا، بل أنها اعتبرت مقاومة المحتل واجبا شرعيا لا ينتظر فتوى من أحد.
كما جاهرت بتعرية مواقف المتعاونين مع قوى الإحتلال، وفي رفض مجلس الحكم الانتقالي إلى حد أن أمينها العام الشيخ الدكتور حارث الضاري، وهو من سلالة واحدة من أهم الأسر العراقية وأشهرها في مقارعة محتلي العراق في العصر الحديث، وصف المجلس بأنه مسخ مشوه لا يمثل إرادة العراقيين، بل يمثل إرادة الاحتلال، وأنه محض “جيفة من جيفة”، على حد تعبيره.
والتزمت الهيئة مواقف مشهودة في تقريب وجهات النظر المختلفة ومحاولتها نزع الضغائن والفتن، التي يحاول كثيرون تأجيجها في عراق العهد الجديد. فأقامت علاقات متينة مع عدد من القيادات الشيعية التي وجدت منها تعاونا وقبولا مثل الشيخ جواد الخالصي وسواه.
وفي الأزمة الأخيرة التي نشبت إثر الهجوم والحصار الأمريكي على الفلوجة، برز جليا الدور الذي تضطلع به هيئة علماء المسلمين في قيادة الشارع السُـني في غير واحدة من مدن وسط العراق تحديدا. كما كانت صاحبة الدور الأساسي في توفير المساعدات العاجلة لأبناء الفلوجة من خلال فروعها المنتشرة في العراق، ومن خلال المساجد التي انبرت في تنظيم حملات تبرع بالدم والغذاء والمستلزمات الطبية العاجلة دعما لسكان الفلوجة.
“لا صـلـة لـنا بسلطة الإحتلال”
وعندما قامت بعض الجماعات ذات التوجه الديني الملحوظ باختطاف عدد من الرهائن الأجانب، أعلنت الهيئة موقفها وناشدت هؤلاء إطلاق سراح المرتهنين لديها من الذين لا يصب عملهم في خدمة جهد قوات الاحتلال بشكل مباشر.
ونظرا لاستجابة تلك الجماعات المسلحة لنداءات هيئة علماء المسلمين، فقد أطلق سراح عدد كبير من الرهائن، مما أكسب الهيئة سمعة طيبة في الأوساط العربية والدولية، وكشف عن مكانة رموزها في المجتمع العراقي.
وفضلا عن استحقاقها، فقد ساهم الفشل الكبير والشلل شبه التام الذي يعاني منه مجلس الحكم الانتقالي، وعدم تمثيله الغالبية العظمى من الشعب العراقي، في إضفاء مزيد الشرعية على دور الهيئة، كما أن محاولات إدارة الاحتلال الأمريكي تغيِـيب السُـنة في العراق، أضفى على تحركاتها مزيدا من الفاعلية والقدرة.
وقد أثبتت الأشهر الاثنتى عشرة الأخيرة أن محاولات البعض إقصاء السُـنة عن رسم مستقبل العراق، كانت فاشلة، بل أنها اكتسبت مع مرور الوقت مزيدا من الخيبات، خاصة بعد أن تصاعدت عمليات المقاومة في العراق كمّـا ونوعا.
لكن الشيخ الدكتور حارث سليمان الضاري، الأمين العام لهيئة علماء المسلمين ينفي بشكل مطلق إمكانية القبول بأي دور تحت سلطة الاحتلال، وقال “لا صلة لنا بسلطة الاحتلال، ولسنا على استعداد للقبول بأي اتصال أو تكليف في أية قضية”.
حقائق لا يمكن القفز عليها
وبرغم هدوئه والأناة التي يتمتّـع بها، إلا أن الشيخ حارث الضاري كان حازما في موقفه عندما أكّـد أن الهيئة لن تُـشارك في أي شكل من أشكال الحكم وهيئاته التي ينصبها الاحتلال مهما كان اسمها أو شكلها، ما دام الاحتلال جاثما على أرض العراق.
ويؤكّـد الشيخ الضاري على أن هيئة علماء المسلمين لا تضع شروطا للدخول في أي ترتيبات مستقبلية، لأنها ببساطة ترفض الموضوع برمته، لكنه يستدرك مُـوضّـحا، الدور الذي تضطلع به الهيئة في تقديم الرأي والمشورة الشرعية ومراقبة تطورات الأوضاع في العراق بشكل عام، ومنها التطورات السياسية مشيرا إلى إبعاد شبهة الانعزال عن الحياة العامة.
ويرى الشيخ الضاري أن سياسات تهميش العرب السُـنة في العراق خاطئة. فهم أبناء العراق ويتحملون، إلى جانب باقي أبناء الشعب، مسؤولياتهم في تخليصه من الاحتلال وتقرير مستقبله وبنائه، وهي حقيقة لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها.
وللتدليل على صدقية موقفه، يتساءل الأمين العام للهيئة: ماذا أسفرت سياسات التهميش والإقصاء المعتمدة خلال عام؟ والى ماذا أدَّت محاولات البعض غير الفوضى وعدم الاستقرار؟
وتعليقا على قانون إدارة الدولة العراقية في المرحلة الانتقالية، الذي أقرَّه مجلس الحكم الانتقالي أخيرا، يرى الشيخ الضاري أن الجهة التي أصدرت القانون المذكور غير شرعية وغير مؤهلة قانونيا لتحديد ملامح مستقبل العراق، مشيرا إلى أن “من بين مخاطره الكثيرة أنه يُـغيّـب عروبة العراق ويُـحوّل البلد من كيان واحد إلى مشروع قابل للتقسيم والشرذمة في أية لحظة، بالتأكيد على كونه فدراليا، فضلا عن إعادة الجنسية العراقية لمن أسقطت عنهم، الأمر الذي يعني فتح الباب أمام عودة اليهود الذين غادروا العراق بإرادتهم بعد عام 1948، مما سيُـلحق أفدح المخاطر بالأمن الوطني والقومي” على حد تعبيره.
من هيئة إلى تنظيم سياسي؟
وفي نفس السياق، يمكن القول أن منابر مساجد العراق باتت منابر سياسية. فمسجد أم القرى، أحد المساجد الكبرى في بغداد، حيث مقر هيئة علماء المسلمين، غالبا ما تتحول خطبة صلاة الجمعة فيه إلى خطبة سياسية.
ففي يوم الجمعة 23 أبريل 2004، خرج الخطيب الدكتور أحمد عبد الغفور السامرائي ليوجه رسالة تحذير واضحة للأميركيين بالتراجع عن أي خيار عسكري في مدينة الفلوجة، لأن ذلك سيعني “تحول جميع أنحاء العراق إلى فلوجة أخرى”، على حد قوله.
ويرجع الدكتور محمد بشار الفيضي، الناطق باسم هيئة علماء المسلمين هذه الظاهرة إلى حالة الفراغ السياسي والاجتماعي والمؤسسي الذي يعانيه العراقيون منذ احتلال بلادهم العام الماضي.
ويقول الفيضي إن الهيئة بدأت بنشاط ديني واجتماعي، ولكن تطورات الأوضاع وغياب المعارضة الحقيقية للاحتلال فرض على قياداتها التحول للسياسة كما يمارسها رجالها المحترفون، مشيرا إلى دورها البارز في المفاوضات الجارية في الفلوجة.
ويبدو أن علماء الدين أصبحوا هم الواجهة السياسية في هذا الخضم الواسع من الأحداث، وقد تفرض تطورات الأوضاع أن تتحول جهة مثل هيئة علماء المسلمين في العراق إلى تنظيم سياسي، وهو ما لا يستبعده الناطق باسمها، مؤكّـدا رغم ذلك أن “الساحة العراقية بحاجة إلى دور حقيقي لسياسيين محترفين ليعود رجال الدين إلى ممارسة مهامهم الأساسية”.
مصطفى كامل – بغداد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.