مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“حماس” تدفع أثمان “حمّـام أوسلو”

(لن نتخلى عن حقوقنا مقابل غذاءنا) هذا ما كتب على لافتة رفعها أحد المواطنين في تظاهرة مؤيدة للحكومة الفلسطينية انتظمت في مدينة غزة يوم 5 مايو 2006 Keystone

هل وصلت حركة "حماس" الفلسطينية إلى لحظة الحقيقة المّرة؟ أجل وسريعاً أيضاً.

قد تكون هذه هي المحصلة الفورية لتجربة هذا الفرع الفلسطيني من حركة الإخوان المسلمين في السلطة بعد شهرين فقط من وصولها إليها.

الأسباب معروفة: الحصار الاقتصادي والسياسي الكامل الذي فرضه الغرب وبعض العرب على حكومتها، وعجزها هي نفسها عن بلورة إجماع وطني داخلي لمواجهة هذا الحصار الخانق.

ما هي الخيارات المتوفرة لحماس في ظل هذه المعطيات؟ سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل، لكن قبل ذلك، وقفة أمام حقيقة الأزمة الداخلية التي تعصف بالحركة، والتي ستنعكس في النهاية على توجهاتها الخارجية.

“الحمية القسرية”

هنا، يبدو واضحاً أن المعادلة التي فرضتها واشنطن وتل أبيب على الوضع الفلسطيني، تتمحور حول الآتي:

إذا ما جاع الفلسطينيون، فهذه ستكون مشكلة إنسانية تتطلب تدخلاً دولياً لمصلحتهم، أما إذا ما فرضت عليهم “حمية قسرية” مؤلمة، فهذه ستكون مشكلة سياسية يجب أن يحلها “الفتحاويون” و”الحماسيون” بالإمساك بأعناق بعضهم البعض.

المعادلة بكلمات أوضح، تعني أن الولايات المتحدة وإسرائيل تستخدمان أسلحة الدمار الشامل الغذائية، لإلحاق الدمار الشامل بالسلطة الفلسطينية “الحماسية”.

يُـدرك إسماعيل هنية بالطبع أبعاد هذه الخطة، لذا، فهو دعا الفلسطينيين إلى قبول تحدي “الحمية القسرية”: الزعتر والزيتون لمواجهة الدولار والشيكل. الكرامة الوطنية لمواجهة الأمانات الاقتصادية للهوية الوطنية.

فكرة جذابة لكن هل تنجح؟

لو كان ياسر عرفات حياً لجاء الجواب سريعاً بالإيجاب. فمجابهة معيشية قاسية من هذا النوع، تثير عادة رعب غريزة البقاء لدى البشر، وتحتاج إلى شخصية كاريزمية قادرة على بث روح التحدي في صدور الناس، وحملهم على التوحّد وراء شعارات التضحية والصبر والتحدي. وبدون هذه الشخصية، لا وِحدة، وبدون وِحدة لا تضامن، وبدون تضامن لا تضحية.

في غياب مثل هذه الشخصية، البديل الوحيد هو جهد جماعي مشترك تقوم به قيادات “فتح” و”حماس” لتحقيق الإجماع الشعبي. لكن هذا البديل لا يبدو متوافراً حتى الآن، خاصة من جانب بعض قادة “فتح”. فما هو فِـئوي ما زال يطغى على ما هو وطني، وكلا الطرفين، الفتحاوي والحمساوي، يبدو غاطساً حتى أذنيه في لعبة الحصيلة صِـفر، حيث الخسارة الصافية لطرف يجب أن تكون ربحاً صافياً لطرف آخر، وهذا بالطبع تطور خطير. فمجاعة أو انهيار اقتصادي في ظل انقسام أهلي، هو وصفة ممتازة للحرب الأهلية أو على الأقل لفوضى على النمط الصومالي والأفغاني.

من المسؤول عن هذا التطور؟ الإجابة صعبة بسبب التعقد الشديد للتركيبة السياسية الفلسطينية الراهنة، خاصة فيما يتعلق بتباين المواقف من مسألة التسوية مع إسرائيل، لكن قدراً أكبر من المسؤولية التاريخية لاحتمال الانزلاق إلى الهاوية، سيقع على كاهل “فتح” بالذات لسببين: الأول، لأنه كان يُـفترض أن تقبل بنتائج الانتخابات الأخيرة، فتُـعطي حماس فرصتها الكاملة لمحاولة تحسين المواقع التفاوضية الفلسطينية، بدل حثها على الاعتراف الفوري بإسرائيل. والثاني، لأنها وحدها القادرة على إقناع 130 ألف موظف أمني ومدني، الذين ينتمي معظمهم إليها، بالصبر والصمود.

كل هذا لم يحدث، وإنما العكس يحدث. فشرطة خان يونس مثلاً، تمردت وستلحقها حتماً قطاعات أمنية أخرى، والهجمات على المقرات الحكومية تكاد تصبح موضة، في حين تتواصل الحملات الإعلامية المبطنة بين فتح وحماس حول من يقوم بحفر الحفرة لأخيه، وحول من المسؤول عن تجويع الجماهير، وهذا ما يدفع الآن إلى تساؤل من نوع آخر: هل ينجح الضغط الاقتصادي خلال أربعة أشهر في تحقيق ما عجز عنه الضغط العسكري خلال أربعين عاماً: تدمير حركة التحرير الوطنية الفلسطينية؟

خياران صعبان

نعود إلى سؤالنا الأولي: ما خيارات حماس؟ ثمة خياران إثنان لا ثالث لهما. الأول، اعتراف الحركة ضمناً بإسرائيل عبر إعلان قبولها بخطة السلام التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002 والتي قايضت الدولة الفلسطينية، والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة باعتراف كل العرب بالدولة اليهودية. والثاني، رفض الاعتراف والانضمام علناً إلى محور طهران – دمشق، الذي يخوض الآن مجابهة غير متكافئة مع الغرب.

سيضع الخيار الأول حماس في حضن الرياض والقاهرة واللجنة الرباعية الدولية المنوط بها تنفيذ خريطة الطريق في الضفة وغزة. والثاني، سيقذف بها إلى عربة الثنائي السوري – الإيراني المحاصَـرة بدورها غربياً.

حين نفذت حركة “الجهاد الإسلامي” الشهر الماضي أول عملية استشهادية لها في تل أبيب منذ عام، واستقبلتها حكومة حماس بالتبرير والموافقة، تساءل المحللون: هل هذه إشارة إلى أن حركة الإخوان المسلمين الفلسطينية على وشك خلع رداء السلطة الأنيق والعودة إلى رداء سلطة المقاومة المرقط؟

لكن الجواب آنذاك لم يكن واضحاً، خاصة وأن رد فعل “حماس” على العملية لم يكن متساوقاً في مستواه مع ردود الفعل الأخرى. فهو جاء على لسان الناطق باسمها، في حين أنه انطلق من “فتح” على لسان الرئيس محمود عباس، ومن إسرائيل من فم رئيس الوزراء أولمرت، ومن أمريكا من حنجرة البيت الأبيض، هذه نقطة.

وثمة نقطة ثانية لا تقل أهمية. برغم التصعيد الأمني الإسرائيلي الخطير منذ استلام حماس السلطة وما رافقه من ضغوط اقتصادية ودبلوماسية غربية أخطر، واصلت الحركة الحديث بلغة الحوار في الداخل عبر إبداء استعدادها لتشكيل حكومة ائتلاف وطني، ولغة التحاور في الخارج، وهذا أطلق العديد من الرسائل في شتى الاتجاهات حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه “حماس” في براغماتيتها.

لكن، وفي حال كان بيان الناطق باسم حماس الداعم لعملية الجهاد يعبّـر عن إجماع داخل قيادتها حول إنهاء الهدنة المستمرة منذ أكثر من عام، واستئناف العمليات الاستشهادية، فهذا سيفتح فصلاً جديداً كلياً في كتاب الصراع، سماته الرئيسة:

– احتمال انحياز حماس الكلي إلى إيران في المجابهة الراهنة مع أمريكا، (هنا لا يجب أن ننسى أن حركة الجهاد الفلسطينية إيرانية التمويل والهوى).

– تخلي الحركة عن مشروعها التنموي – الاقتصادي في السلطة، وعودتها إلى مشروع الكفاح المسلح، سواء بقيت في السلطة أم لا.

الأمور لم تصل منذ ذلك الحين إلى هذه المرحلة. فحسابات “حماس” الداخلية وتوازناتها الخارجية، خاصة بين إيران والدول العربية الرئيسية، تجعلها تتريث قبل اتخاذ أي قرار نهائي في هذا الشأن.

وبالتالي، لا يزال من المبكّـر للغاية وضع “حماس” في سلةّ إيران، رغم أن الطرفين يتشاطران الشكاوي نفسها من الضغوط الغربية، ويتقاسمان المواقف الإستراتيجية العامة ذاتها من مسألة صراع الحضارات في العالم.

الأسباب؟

إنها عديدة: علاقات “حماس” الوطيدة مع السعودية والإمارات وإخوان مصر، مما يدفعها إلى تجنب الظهور بمظهر من يُـدير الظهر للأصدقاء. المواقف الأيديولوجية الخاصة التي تمنع حماس من الاعتراف بإيران كزعيمة للعالم الإسلامي (على عكس حزب الله). وأخيراً، التاريخ المحدود للتعاون بين هذه المنظمة الإسلامية العربية وبين إيران، حيث لم تقدم هذه الأخيرة للأولى سوى حفنة من ملايين الدولارات طيلة العقدين الماضيين، وفضلّت عليها حركة “الجهاد”.

لكن، حتى لو افترضنا أن إيران قفزت فوق كل العقبات وقررت إعتماد “حماس” كحليف إستراتيجي آخر لها في الهلال الخصيب، فهل ستكون مستعدة لتمويلها وإنقاذها من الحصار الاقتصادي الغربي – الإسرائيلي؟ كلا.

فالسلطة الفلسطينية، التي باتت الآن في عهدة حماس، تنفق سنوياً أكثر من 2 مليار دولار يذهب معظمها كرواتب إلى 174 ألف موظف، بينهم 56 ألفاً في أجهزة الأمن. 400 مليون دولار من هذا المبلغ تأتي من جباية الضرائب التي تقوم بها إسرائيل، و300 مليوناً كمساعدات أوروبية وأمريكية وعربية، ونحو مليار دولار كمساعدات إضافية دفعتها أوروبا وأمريكا خلال عام 2005.

إيران لن تكون مستعدة، لا الآن ولا غداً، لدفع ربع أو خمس أو حتى عشر هذا المبلغ الكبير، فهي تعاني أصلاً من متاعب اقتصادية كبرى، برغم ارتفاع أسعار النفط، ولديها عشرات ملايين الشبان العاطلين عن العمل، وعشرات مليارات الدولارات التي يجب إنفاقها سنوياً على عمليات الدعم الاجتماعي. وعلى أي حال، كان الزعيم الإيراني خامنئي واضحاً حين أبلغ خالد مشعل أن مسؤولية دعم حكومة حماس في وجه الحصار الغربي “تقع على عاتق كل العالم الإسلامي”، في حين كان الرئيس الإيراني أحمدي نجاد يحيل مشعل إلى عناية السماء عبر تطمينه بأن “الخزائن الإلهية لا تنضب”، ثم أن طهران مشهورة ببخلها.

فبرغم أن حزب الله اللبناني قدّم لها انتصاراتها الوحيدة في السياسية الخارجية طيلة ربع القرن المنصرم، بدءاً من حرب الرهائن في الثمانينات إلى حرب تحرير الجنوب وانتهاء الآن بدوره كحاجز صاروخي لردع أي هجوم إسرائيلي على منشآتها النووية، إلا أنها لا تقدم له سوى 50 أو 75 مليون دولار سنوياً.

بالطبع، حماس لم تذهب إلى إيران مراهنة عليها وحدها لتمويل “الجهاد المالي” الذي توشك خوضه. فلديها، كما قلنا، أصدقاءها العرب الأغنياء، وقوة الإخوان المسلمين المالية العالمية، إضافة إلى رهانها على كسر الحصار الغربي عبر البوابتين، الروسية والأوروبية.

بيد أن هذه المعركة المالية التي أطلقها فوز “حماس” تثير، بالنسبة لإيران وحلفائها في المنطقة، سؤالاً في غاية الدقة: هل ستكون الجمهورية الإسلامية في وارد تمويل التكاليف الباهظة للمجابهة العامة التي تخوض الآن ضد الغرب، خاصة في سوريا والعراق ولبنان؟ وحتى لو كانت راغبة، هل هي قادرة؟ ولئن كانت قادرة، هل في مستطاعها إقامة توازن قوى مالي مع المعسكر الآخر؟ كل الأرقام المتوافرة لا توحي ذلك.

إلى أين؟

كما هو واضح، الحركة في أزمة صعبة، وربما تكون تاريخية وقد تعرّضها هي نفسها إلى انفجار داخلي، ما لم تتحرك سريعاً لمجابهتها.

المعضلة الكبيرة صنعتها حماس لنفسها بنفسها حين قبلت ممارسة اللعبة السياسية في إطار مؤسسات سلطة أوسلو، ظناً منها أنها قادرة على استخدام السلطة من دون أوسلو، وهذا يتبدى الآن على أنه كان وهماً قاتلاً.

بالطبع، لا تزال ثمة كوات ما تستطيع حماس النفاذ منها للهرب من الخيارين، الإيراني أو الأمريكي، مثل تشكيل حكومة وحدة وطنية تتخلى بموجبها هي عن السياسة (وبالتالي التفاوض مع إسرائيل والغرب) للتفرغ للاقتصاد أو الانسحاب كلياً من السلطة والعودة إلى الكفاح المسلح.

لكن، وأيّـاً كانت القرارات التي سترسو عليها الحركة، ثمة حقيقة لم يعد بالإمكان القفز فوقها: حماس لن تخرج من حمّـام سلطة أوسلو.. كما دخلته!

سعد محيو – بيروت

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية