حوارات واشنطن مع الجماعات المسلحة .. مستمرة
ليس غريبا أن تجري واشنطن حوارات مع المسلحين في العراق، من أجل أن تشركهم في العملية السياسية، وتخفف أو توازن بهم هيمنة قبضة الشيعة والأكراد على مفاصل السلطة.
ومن خلال متابعة متأنية لما يحدث عمليا على الأرض، يتضح أن البراجماتية الأمريكية ومقتضيات الواقعية السياسية والعسكرية لا تتوقف عند أي “محرمات” أو “تابوهات”.
لقد سبق لواشنطن أن أجرت مثل هذه الحوارات مع منظمات كانت وما تزال تصنفها في خانة الإرهاب، ووصلت الى نتائج مع العديد منها كما نجحت في ايجاد انشقاقات داخلها وحصدت الكثير من النتائج لصالح مباديء الاختراق والتسلل والهيمنة.
في لبنان، أجريت حوارات مع حزب الله ومنظمات أخرى كانت بشكل أو بآخر تعمل ضد الوجود الأمريكي في المنطقة، للافراج عن رهائن أمريكيين وغربيين، وشاركت ايران في تلك الحوارات فيما أصبح يعرف بـ”ايران غيت” التي شهدت مقايضة أسلحة أمريكية برهائن إبّان الحرب العراقية الايرانية.
أما في مصر والاردن فان الحوارات باتت مستمرة وهي امتداد لمؤتمر عقد في مارس من العام الماضي حمل عنوان “الاسلام والديمقراطية”، رعته وزيرة الخارجية الأمريكية كونزاليزا رايس، وبحث ايجاد مصالحة بين الغرب والأحزاب الاسلامية التي تقبل بالديمقراطية والمشاركة، لمواجهة تيارات التشدد، وتجنب الوقوع فيما يشبه “المصيدة الجزائرية”.
هذا النوع من الحوارات شارك فيها أعضاء في التنظيم الدولي للاخوان المسلمين، وتوصلت الادارة الأمريكية الى أن مشاركة الاسلاميين في اللعبة السياسية بات ضرورة في ضوء ماجرى في العراق لأن أصل العملية السياسية الراهنة ماكان لها أن تمضي في مشروع اسقاط نظام صدام حسين من دون مشاركة اسلاميين اصوليين شيعة وسنة في المجلس الأعلى للثورة الاسلامية، وحزب الدعوة الاسلامية والحزب الاسلامي العراقي وآخرين.
لكن يظل السؤال يُطرح بقوة عما إذا كانت مثل هذه الحوارات تعني تحولا حقيقيا في الموقف الأمريكي من الإسلاميين أم أنها تجري على قاعدة “مكره أخاك لا بطل” واستخدام الاسلاميين كحصان طروادة لتحقيق مكاسب استراتيجية تخدم “الشيطان الأكبر” حسب تعريف السنوات الأولى من الثورة الإيرانية في كل أصوله ومبادئه ومنها أيضا الضغط على الأنظمة العربية في إطار التغيير الشامل.
الأمثلة عديدة والعراق يبقى مفتاحا لأي تغيير قد يطرأ على طريقة تفكير الادارة الأمريكية.
لقاءات داخل العراق وخارجه
هنا يجدر التذكير بأنه حتى قبل سقوط نظام صدام بمشاركة الاسلاميين (!)، فقد قامت الولايات المتحدة باتصالات بالواسطة أو مباشرة، مع قيادات فاعلة داخل النظام السابق لخطب ودها، ولايخفى أن العديد من القيادات الرسمية المطلوبة على قائمة الـ55 تم اعتقالها بالمفاوضات وفي إطار صفقات لم ينفذ أي منها بعد.
كما أن المفاوضات استمرت داخل المعتقل مع شخصيات نافذة في النظام السابق، لم توفر صداما لتهدئة التمرد في العراق حتى في ظل استمرار محاكمة الرئيس السابق وأعوانه.
في زمن الحكومة المؤقتة السابقة اقتنعت سلطة الاحتلال بشقيها العسكري والسياسي، بأفكار قدمها رئيس الوزراء السابق أياد علاوي، للبدء في حوار مباشر مع جماعات مسلحة تعتبر الأكثر تأثيرا في المواجهات الأمنية.
وتمت بالفعل لقاءات مباشرة في الموصل، بين قيادات من المسلحين، وعلاوي، ومسؤولين أمريكيين، ولم تحقق شيئا بسبب “غدر” المفاوض الأمريكي إذ تعرض المشاركون من المسلحين لمحاولة اغتيال بعد خروجهم من الاجتماع، وصور الأمر حينها وكأن علاوي نصب لهم فخا لتصفيتهم.
طبعا قبل ذلك التقى علاوي شخصيات بعثية عراقية في عمان، وفي عواصم عربية أخرى، وحصل على ضوء أمريكي خافت، سرعان ما خفت بريقه بسبب رفض الزعامات الشيعية المشاركة في الحكم والتي اعتبرت التفاوض مع “أركان النظام السابق” خطا أحمر لن يتساهلوا بشأنه مهما حصل.
خلال كتابة الدستور، رضي الشيعة بالجلوس وجها لوجه مع بعثيين سابقين في لجنة الصياغة التي شهدت سجالات حول البعثيين انتهت بانتصار الفريق الذي يصر على ضرورة التمييز بيبن البعثيين العقائديين أو المنتمين قهرا، وبين الصداميين الموالين للرئيس السابق المتهم من قبل أوساط واسعة من البعثيين بأنه استولى على الحزب وحوله الى منظمة سرية لتعزيز ديكتاتوريته ليس الا.
لكن لم تتوقف الاتصالات، وانبرى أحد البعثيين السابقين ممن شاركوا في الحكومة العراقية المؤقتة، وأعلن أنه كان الوسيط في حوار لم ينقطع، بين الأمريكيين وسبع جماعات مسلحة، ما دفع بجماعات أخرى الى هدر دم “أيهم السامرائي” وزير الكهرباء السابق، ليس لأنه عمل على شق صف الجماعات المسلحة، وحسب، بل لأنه لم يعترف بوجود تأثير لجماعات أخرى عدى التي جرت مع ممثليها المفاوضات.
حوارات .. حوارات
لقد توصلت سلطة الاحتلال في العراق الى قناعة بأن عليها لكي تعيد التوازن المطلوب من وجهة نظرها بعد أن أصبح الشيعة والأكراد يمسكون بمعظم مفاصل الدولة، وأن تعمل على التفريق بين الاسلاميين المتشددين من تنظيم الاردني أبي مصعب الزرقاوي ومنظمات عراقية صغيرة أخرى “سلفية”، وبين باقي الجماعات وهي في الغالب من البعثيين، خصوصا العسكريين ممن كانوا في مؤسسات الجيش والمخابرات والأمن بكل تشكيلاتها.
في أنقرة وقبل الانتخابات التشريعية الأخيرة، حصل اجتماع لافت بين السفير الأمريكي في العراق زلماي خليل زادة، وأربعة فصائل سنية أبرزها الحزب الاسلامي، ومهد للقاء مباشر بين ممثلين عن جماعات مسلحة وخليل زادة وأمريكيين آخرين، أو غطى عليه.
ممثلو الجماعات المسلحة رفضت اجراء لقاء في العراق، مستفيدين من تجربة لقاء الموصل التي رعاها علاوي، وأصروا على الاجتماع بالأمريكيين خارج العراق.
وتؤكد المعلومات التي تسربت أن الحكومة التركية ذات التوجهات الإسلامية المعتدلة (والتي عادة ما تقدم على اعتبارها نموذجا على قبول أمريكي بالحوار مع الاسلاميين)، هي التي رعت الاجتماع الذي اقتصر – حسبما يبدو – على “مقاومين من الاسلاميين السنة”، ليتوسع ويشمل بعد الانتخابات، منظمات كان قادتها من البعثيين.
ومن الملفت أن حزب العدالة والتنمية هو الذي يحكم اليوم في تركيا ملتزما بكل تفاصيل معادلات العلاقات الدولية والإستراتيجية الأمريكية في المنطقة. في الوقت نفسه، تختلف تصورات الادارة الأمريكية اليوم عما كانت عليه بُعيد أحداث 11 سبتمبر 2001، وقد اقتنعت بضرورة إشراك الإسلاميين في مشروع “الشرق الأوسط الكبير”، وهي تمد أذرعها لمصافحة من يقبل من الاسلاميين بالعمل السياسي السلمي ويرفض العنف.
هذه التوجهات تنسحب بالضروة على مسلحين من البعث السابق، في محاولة لاحراج منظمات السلفيين وقاعدة التوحيد والجهاد وعزلها تمهيدا للقضاء عليها أو لممارسة نفس اللعبة معها، أي فتح قنوات اتصال لحوارات قادمة… هذا إن لم تكن مفتوحة أصلا.
نجاح محمد علي – دبي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.