حوار مصيري على نار هادئة
بدأت بعض مراكز البحث والأوساط الأكاديمية الأمريكية تشعر بثقل وخطورة المأزق الذي أدّت إليه سياسية الرئيس بوش.
ولا يتمثل ذلك فقط في العراق، ولكن المأزق اتخذ أبعادا أكثر اتساعا ليشمل علاقات الولايات المتحدة بالعالم العربي والإسلامي.
لا يعود هذا الشعور بالقلق فقط إلى المقاومة المفاجئة التي أصبحت تحصد يوميا أرواح جنودهم، وإنما أيضا لإدراكهم المتزايد بأن العراق على الأرض مختلف كثيرا عن العراق كما صورته ورسمته الأجهزة ومراكز القرار.
وفي هذا السياق، تؤكّـد السيدة مارينا أوتاواي المساهمة الرئيسية في مشروع “الديمقراطية وحكم القانون” التابع لمعهد “كارنيغي للسلام الدولي” (ومقره نيويورك)، على أن “المعضلة الرئيسية أمام الإدارة الأمريكية في العراق، ليس في اختيار السلطة بشكل انتخابي حر، ولكن فيما قد تقوم به هذه السلطة بعد انتخابها، ومدى عملها بالنظام الديمقراطي”.
وأضافت السيدة مارينا في مؤتمر “دور الجماعات الإسلامية في الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط” الذي احتضنته دولة الكويت قبل أيام، أن بعض مسؤولي الإدارة الأمريكية ومستشاريها توّهّـموا خطأً بأن حزب البعث قد نجح في تحويل العراق إلى دولة علمانية، لكن الولايات المتحدة “عرفت بعد الاحتلال، أن هناك رجال دين شيعة، وأن المجتمع العراقي ليس علمانيا، وأن هناك تيار إسلامي شيعي متنام”.
هذا “الاكتشاف” أوقع هذه الإدارة في التناقض، فهي من جهة تعلن بأنها متمسكة بإرساء الديمقراطية في العراق، لكنها عمليا “لا ترغب في تحقيق ذلك خوفا من وصول تلك الجماعات الإسلامية إلى الحكم”.
وقد تكون هذه المعضلة السياسية في العراق هي التي بدأت تدفع هذه المراكز والأوساط الأكاديمية، ربما بتشجيع من الإدارة الأمريكية، إلى محاولة إرساء قنوات حوار فكري وسياسي مع بعض الحركات الإسلامية التي توصف بالمعتدلة.
“ماذا يريدون”؟
والحقيقة أن مثل هذا الحوار كان قائما منذ فترة طويلة، لكن جاءت أحداث 11 سبتمبر وتداعياتها لتُـطيح به أو تجمِّـده بعد أن ساد شكّ لدى الدوائر الأمريكية حول الجدوى منه، وتغلّـبت الأصوات الداعية إلى وضع جميع الإسلاميين في سلة واحدة.
ورغم الدلالات الرمزية والهامة لتجدد رغبة الجهات الأمريكية في محاورة الجماعات الإسلامية بالعالم العربي، إلا أن وقائع مؤتمر الكويت أثبتت بأن أزمة الثقة عميقة، وأن المسافة الفاصلة بين الطرفين شاسعة إلى حدّ جعلت أحد الشخصيات الأكاديمية الأمريكية المعروفة بنزاهتها العلمية وتعاطفها مع العالم الإسلامي، جون اسبوزيتو يُـعلن بأن ما سمعه من هجمات متلاحقة ضد بلاده جعله يشعر بالإحباط.
فقد برزت دفعة واحدة كل العوائق الفكرية والسياسية والنفسية التي غالبا ما تجعل الحديث بين الطرفين أشبه بحوار الصم: القضية الفلسطينية، والملف العراقي، وتصفية الحساب المستمرة بين الغرب والمسلمين على جميع الأصعدة، الثقافية، والدينية والاقتصادية إلى جانب مشاعر الرفض والشك المتبادل.
ومما زاد في ذهول الأمريكيين المشاركين في الحوار، ذلك الهجوم العاصف ضد مشروع (باول) الخاص “بنشر الديمقراطية في العالم العربي”، وهو ما جعلهم يتساءلون عما يريده محاوروهم.
فهؤلاء، من جهة ينتقدون الولايات المتحدة بسبب دعمها السابق للدكتاتوريات المحلية، والآن يرفضون قبول أي شكل من أشكال المساعدة للتّـعجيل بإجراء إصلاحات سياسية هامة سيكونون هم أول المستفيدين منها.
ورغم هذا الجدار النفسي والأيديولوجي، فإن الأمريكيين لا يرون بديلا آخر عن مواصلة الحوار. فهم بحسهم البراغماتي يعتقدون بأن ليس من المصلحة أو المنطق تجاهل حجم الإسلاميين المتصاعد في كثير من الدول.
تسليم السلطة إلى “معتدلين”!
وما حدث في تركيا، من شأنه أن يغريهم بأهمية الاستمرار في المحاولة. فالسيد هنري باركي، رئيس قسم العلاقات الدولية بجامعة “ليهاي” في بنسلفانيا، يعتبر أنه من سخرية الأقدار أن يكون حزب العدالة والتنمية التركي الحليف الأساسي للولايات المتحدة في هذه المرحلة بالذات.
وأضاف في مداخلته، أن هذا الحزب حقّـق عديد الإنجازات، ومن أهمها توثيق العلاقة بأمريكا، معتبرا ذلك “دليل قوي على أن الأحزاب الإسلامية قادرة على القيادة في حال ابتعادها عن التطرف واتّـباعها الوسطية”.
لكن ما تحقق في تركيا، هل يمكن أن يتكرر في البلاد العربية؟ هذا ما تحاول الإدارة الأمريكية القيام به حاليا في العراق، رغم اختلاف الظروف وتباين المسارات. فبعد أن تأكّـد لها أن الساحة العراقية تفتقر حاليا لأحزاب علمانية قوية وغير معادية لها، أخذت تعمل على توفير الظروف الملائمة لتسليم السلطة لأطراف شيعية “معتدلة” غير موالية لإيران، ومستعدة للتعاون مع الأكراد والسنة.
ومن هذه الزاوية، فإن مؤتمر الكويت الذي شاركت فيه شخصيات تمثل عددا هاما من تيارات الإسلام السياسي غير الراديكالي في منطقة الشرق الأوسط، قدمت بالخصوص من العراق والبحرين والسعودية ومصر واليمن والأردن، رغم أنه لم يُـسفِـر عن بيان مُـشتَـرك، ولم تصدُر عنه توصيّـات، نظرا للتفاوت الملحوظ في وجهات النظر، فقد يشكل بداية لسلسلة من المبادرات في اتجاه دعم الحوار بين أطراف أمريكية وأخرى ذات توجه إسلامي حركي، من أجل تذليل الصعوبات بحثا عن أرضية ومصالح مشتركة قد تقود إلى مرحلة جديدة.
فالمؤكد أن واشنطن غير مطمئنة لقدرة الأنظمة القائمة على مواجهة المشكلات، والتحولات، وتحقيق الاستقرار على المدى المتوسط. ولهذا، فإن مطابخ الفكر الاستراتيجي داخل الولايات المتحدة سيتزايد اهتمامها بالقوى الاجتماعية والسياسية المرشحة للعب أدوار أساسية خلال العشرين سنة القادمة.
صلاح الدين الجورشي – الكويت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.