الأطباء يدقون أجراس الخطر من الإفراط في تعاطي أدوية الأمراض النفسية
ظهرت في السنوات الاخيرة انواع متعددة من الادوية تدعي الشركات المنتجة لها انها تساعد على التخلص من كافة الامراض النفسية و بلغت مبيعات شركات الأدوية من هذه العقاقير في سويسرا خلال العام الماضي مائةً و ثلاثةً و ثمانين مليون فرنك سويسري و من المنتظر أن تتزايد هذه المبيعات بنسبة 20% خلال هذا العام.
علاج الامراض النفسية بواسطة العقاقير معروف منذ وقت طويل و لكن كان قاصرا على علاج حالات الاكتئاب النفسي الشديد أو الانهيار العصبي الحاد أو انفصام الشخصية، و الأطباء المعالجون يتحدثون عن آثار فعالة في علاج غالبية مثل هذه الحالات.
و لكن الظاهرة الجديدة في علم النفس تتجه إلى تشخيص جديد للسلوك الانساني و اصبحت تنظر إلى الخجل و الخوف و التردد على اساس انها نقائص في النفس البشرية يجب علاجُها بواسطة العقاقير.
و يتفق غالبية الأطباء النفسيين في أن ظاهرة تشخيص سلوك انساني كالخوف و التردد و الخجل على اساس انه حالة مرضية هى ظاهرة غير صحية و لها عواقب غير محمودة على الفرد و بالتالي على المجتمع.
عن الأسباب التي أدت إلى ارتفاع نسبة المصابين بالأمراض النفسية في سويسرا بصفة خاصة و أوروبا بصفة عامة تقول الدكتورة فرتنشلاغ أن العصر الحالي يشهد زيادة في بعض الأمراض او الاضطرابات النفسية مثل الأرق و الاكتئاب و قلة الصبر و التوتر، و يؤيد هذا إقبال الناس على استهلاك الأدوية التي يُعْتَقَدُ أنها تساعد على التقليل من هذه الظواهر أو علاجها.
و السبب يرجع إلى التغيير الذي طرأ على المجتمع في أوروبا بصفة عامة و في سويسرا بصفة خاصة، فالتوتر الذي يعاني منه الناس الآن و عدم الاستقرار النفسي يختلف مع تغيير المجتمع في السنوات الخمسين الأخيرة تغييرا كليا، و تعتبر الدكتورة فرتنشلاغ أن تزايد استهلاك الأدوية المضادة للاكتئاب في سويسرا ظاهرة مخيفة جدا، و كذلك ارتفاع حالات الانتحار التي تكاد تصل في سويسرا إلى المرتبة الثانية في العالم.
و السبب وراء ذلك هو المجتمع و أسلوب الحياة، و تعترف بأن الحياة في سويسرا الآن ليست مريحة كما كانت قبل خمسين أو ثلاثين عاما، و ذلك على الرغم من ارتفاع المعيشة و توفر كل شيء فلا يعرف الناس معنى الحرمان أو الجوع أو أية مشكلة من المشاكل التي تعاني منها الدول النامية أو الفقيرة.
و السبب وراء ذلك هو تغيير فلسفة المجتمع، فنجد الآن المجمعات الاستهلاكية الضخمة و طغيان حياة المدينة على حياة القرية، و التوتر اصبح شديدا جدا في العمل، فأصحاب العمل يطالبون برفع كفاءة الاداء لرفع جودة الانتاج إلى صورة مثالية، و كل هذه المتطلبات تفوق قدرة النفس البشرية.
و يمكن القول أن هذه الظواهر ولدت مع ميلاد عصر الصناعة، و جاء ذلك العبء الكبير على النفس البشرية مصحوبا بظهور نظريات فلسفية جديدة تشكك في الاديان و الكتب المقدسة، مما ادى إلى ضياع القيم و المبادئ المتعارف عليها و ابتكار قيم جديدة غير ثابتة و من ثم أدى هذا إلى نوع من عدم الثقة بالنفس و زعزع الاستقرار النفسي الداخلي للانسان.
و النتيجة هى ضياع الذات، فكثير من الناس اصبحوا يعيشون بدون هدف و لا يعرفون المعنى الحقيقي للحياة و يرجع هذا إلى فقدان الدين لمعناه في المجتمع و اصبح الانسان يدور في فلك العمل فقط و السويسريون يفتقرون إلى الغذاء الروحي الذي تقدمه الاديان، فهؤلاء الذين يعانون من اضطرابات نفسية كالعطشى الذين لا يعرفون انهم عطشى و يبحثون عن شيء آخر في مكان مختلف تماما.
و لا تتفق الدكتورة فيرتنشلاغ مع الاتجاه الحديث الذي يرى في المشاعر البشرية الطبيعية كالخجل و التردد و الخوف ظواهر مرضية يجب التخلص منها فهى صفات انسانية لكل انسان تماما كاختلاف اشكال الناس و ألوانهم، و هذا الاتجاه يجرد الانسان من طبيعته البشرية و يتجه إلى التعامل معه و كأنه آلة.
و محاولة التغلب على هذه المشاعر البشرية يعتبر هجوما على النفس البشرية سيؤدي حتما إلى اختلال التوازن النفسي للانسان و هذا هو مكمن الخطر ، لان هذه العقاقير تبدو للوهلة الاولى و كأنها محسنات وقتية و لكنها تترك آثارا مدمرة، و خاصة عندما تأخذ هذه الظاهرة شكل موضة ليتبعها العديد. و أيضا عندما يتدخل الطبيب العام الغير متخصص في الأمراض النفسية لينصح مرضاه بتعاطي هذه الادوية، فيتعاطاها المرضى دون تفكير و يتناسون أنهم بذلك يبدءون اولى مراحل ادمان تعاطي هذه الادوية.
المخاطر التي قد تنشب من انتشار هذه الظاهرة تراها المحللة النفسية السويسرية في تحويل الانسان إلى مدمن لهذه الأدوية و يفقد الشعور بما يدور حوله، و ينعكس هذا على المجتمع ككل فتسود حالة من عدم الاستقرار، لكنها تعتقد أن النفس البشرية أقوى من هذا، فهي ليست متشائمة تماما، و ذلك لان الإنسان سيشعر بهذا الخطر و أنه لابد و أن يتخلص من هذه التقليعة، لان النفس البشرية لن تخضع بصورة كاملة إلى هذه الظاهرة.
المجتمع الحديث يتجه بقوة إلى اعطاء الانطباع بان الانسان لا يمكن أن يقبع تحت سيطرة الضغوط الخارجية فتدفعه إلى البحث عن حياة جميلة خالية من المشاكل، مما سيدفع بالتالي إلى عدم تقبل الظروف الصعبة التي يعيشها الانسان ، فعلى سبيل المثال كثير من العلاقات الانسانية تنهار الآن بسبب اية مشكلة بسيطة ، و بالتالي يفقد الانسان القدرة على معايشة الصعوبات و المشاكل و التغلب عليها انطلاقا من مبدأ ان الحياة يجب أن تكون جميلة و بدون اية مشاكل.
إذن فمن خلال تعليق الدكتورة فرتنشلاغ يمكن القول بأن الصورة التقليدية للطبيب النفسي الذي يجلس امام مريض ممتد على الاريكة ينصت إليه و يتحاور معه لن تختفي تماما من الواقع، بل ستظل كما هى عليه، فظاهرة استخدام العقاقير في القضاء على سلوك نفسي طبيعي و عادى لن تدوم طويلا على ما يبدو، و عسى أن ينتبه الناس إلى خطورتها في الوقت المناسب قبل أن يتحول الانسان في المجتمع الغربي إلى آلة مجردة من كافة المشاعر و الأحاسيس، تتحكم فيه مجموعة من العقاقير و الأدوية لتقول له متى يحب و متى يكره ، متى غضب و متى يكون لطيفا.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.