مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

الصليب الأحمر يُكيّف أنشطته وفقا لتغيّر طبيعة النزاعات

أطباء أفغان يُعاينون تركيب جهاز لتقويم العظام لدى مريض في مركز مختص تابع لمستشفى اللجنة الدولية للصليب الأحمر مخصص لضحايا الحرب في العاصمة كابُـل. Reuters

بعد أن قضى إثنتي عشر عاما على رأس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، يسلّم جاكوب كيلينبرغر المشعل إلى بيتر ماورر، دبلوماسي سويسري آخر، بعد أن أصبحت هذه المنظمة تتمتّع بميزانية صلبة، وتقدّم خدمات قيّمة لضحايا النزاعات، لكنها أصبحت أيضا أكثر عرضة للخطر في مناطق النزاعات المسلحة في الآونة الأخيرة.

وكان كيلينبرغر، الذي هو في الأصل دبلوماسي سويسري، تولى قيادة اللجنة الدولية للصليب الاحمر من مقرّها بجنيف قبل اثنا عشر عاما، وفي  سنة شهدت تفجّرا للعنف في العديد من المناطق، لا سيما في القرن الإفريقي.

بلغت ميزانية الصليب الأحمر في عام 2000، ما مقداره مليار فرنك بزيادة بلغت 30% مقارنة بالسنة التي سبقتها، لكن تلك الميزانية شهدت منذ ذلك الحين تراجعا طفيفا، ثم استقرت عند مستوى أعلى في عهد كلينبرغر.

وأوضح الرئيس المنصرف خلال آخر مؤتمر صحفي له كرئيسا للجنة الدولية: “إن الميزانية الآن تزيد بنسبة 40% عما كانت عليه في التسعينات، وهذا يعكس الزيادة في حجم العمل الإنساني الذي تضطلع به المنظمة منذ ذلك الحين”.

لا يقبل حجم الإغاثة الإنسانية القياس المباشر، ولكن إلقاء نظرة على تقرير اللجنة الدولية  للصليب الأحمر لعام 2002 يبيّن أن 400.460 شخص قد زاروا مكاتب اللجنة الدولية لطلب المساعدة في ذلك العام (في عام 2011، بلغ ذلك العدد 703.807 نسمة). وفي عام 2002، استطاعت وفود اللجنة الدولية زيارة 448.063 سجينا ومعتقلا، في حين بلغ هذا العدد سنة 2011 ما يزيد عن 540.828 سجينا. وخلال هذه الفترة نفسها، ارتفع عدد العمليات الجراحية من 90.361 إلى 138.200 حالة. 

تزامن هذا التوسّع في أعمال اللجنة الدولية مع تفاقم مظاهر عدم احترام رمز حياد الصليب الأحمر والامم المتحدة. ويضطر العاملون في المجال الإنساني في العديد من الصراعات اليوم  إلى التعامل مع الجماعات المسلحة المنخرطة في حروب طاحنة، لا تلتزم فيها بالقواعد والمعايير التي وضعها المجتمع الدولي.

وأوضح كيلينبرغر في حديث إلى swissinfo.ch: “لم أعتبر يوما من الأيام أن شارة الصليب الأحمر هي العنصر الرئيسي في إجراءات حماية بعثاتنا”.

ثم يضيف المسؤول الدولي: “الشارة مهمة. ولكن الحماية الحقيقية هو أن تتأكّد من توفّر الإحترام اللازم لبرامجك وانشطتك. وفي كل الاحوال السياسة التي تتبعها اللجنة الدولية للصليب الاحمر، والفدرالية الدولية للصليب الأحمر، والجمعيات الوطنية للصليب الاحمر، هو إعادة وتكرار التأكيد  على احترام اتفاقيات جنيف”.

السرية والتكتم

من أكثر الاعمال الميدانية التي تقوم بها اللجنة الدولية للصليب الاحمر هو زيارة  السجون، وتقديم العلاجات الطبية. وهذه المساعدات تقدمها “وفود” تقوم بإعلام المقر الرئيسي بجنيف بما تعاينه وتراه ميدانيا وتشير تقارير تعود إلى زمن الحرب العالمية الاولى ان مندوبي الصليب الأحمر كانوا يقيسون مساحات الزنزانات التي يحتجز فيها المساجين، ويجرون اختبارات على الأغذية المقدمة لهم.

جيل كاربوناي، الذي يعمل حاليا كأستاذ لاقتصاديات التنمية بالمعهد العالي لدراسات التنمية والعلاقات الدولية بجنيف، وسبق له ان كان مندوبا للصليب الأحمر في العراق والإكوادور، وسيريلانكا، وأثيوبيا ما بين 1989 و1991.  

هذا المندوب السابق لا يستطيع الخوض في تفاصيل ما شاهده حتى الآن، لأن المعطيات التي يجمعها العاملون في الميدان يجب ان تظل معلومات سرية.

وقال كاربوناي: “كان لدي شعور بأنني أقوم بعمل مفيد، ولكن كان هناك احباط في بعض الأحيان ايضا، عندما لا نتمكّن من الوصول إلى المحتاجين للمساعدة”. ثم أضاف متحدثا إلى swissinfo.ch: “كل النجاح على سبيل المثال كان عندما نتمكّن من الوصول إلى مكان لم يسبق لنا الوصول إليه، عندئذ يمكنك تجاوز بعض الإحباط”.

ووفقا للمندوب السابق،  لا يأتي نجاح اللجنة الدولية في هذا المجال من حيادها، بل من كفاءتها. وأضاف: “لو كانت اللجنة الدولية محايدة، لكنها غير نشطة، لا أعتقد أنها كانت ستقترب من النجاح”.

دبلوماسيون هادئون و عمال جديّون

إذا كانت أساليب عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر على المستوى الميداني تشهد تغيّرا بطيئا، فإن سياسة التحفّظ تظل بدون أي تغيير. وتحرص اللجنة الدولية على ألاّ يتحوّل موظّفوها إلى هدف مفضّل للمحاربين، وهو ما يمكن ان يحدث فعلا إذا خشي اولئك المحاربين أن يقدّم مندوبو الصليب الاحمر شهاداتهم لإدانتهم أمام  المحاكم.

التزام التكتّم والصمت هو الثمن الذي يجبر الصليب الأحمر على دفعه في أغلب الأحيان لكي يسمح له في المقابل بان يكون حاضرا على الميدان، هذا على الرغم من إشارة كلينبرغر إلى وجود “فرق كبير بين أن تكون على أرض الواقع، وتقوم بفعل ما، والحديث او تنظيم مناقشات”.

لكن كلينبرغر ينفي نفيا قاطعا أن تتنازل اللجنة الدولية عن مبادئها خلال عملها من أجل الدخول إلى بلد ما: “نحن لا نتنازل عن مبادئنا عندما نكون حاضرين على الميدان. نعم نحن نعمل في سوريا، ولكن لا يرافق فرقنا حراس مسلّحون. نحن نقوم بجولاتنا برفقة الهلال الاحمر السوري من دون حراسة مسلحة. وندعو إلى أن تتم زيارة المعتقلين في احترام تام للقواعد المعمول بها في الاماكن المختلفة. ولكن هذا الامر لا يحدث دوما بالضرورة”.

إن حضور اللجنة الدولية لوحدها في الميدان، مثلما هو الحال حاليا في سوريا، فهذا لا يعني أنها حصلت على كل ما تبغيه وتسعى إليه. ويقول كلينبرغر في خطابه الذي توجّه به إلى ممثلي وسائل الإعلام في ما كان يبدو أنه مؤتمر توديعي : “لقد كنت شاهدا على العديد من الحالات التي يكون المدنيون فيها مستهدفين ، فقط لعدم بذل الاطراف المتنازعة جهود بجدية لتمييزهم عن المحاربين. وهذه مشكلة موجودة على نطاق واسع”.

وبعبارة اخرى، هذا الامر لا يمثّل صداعا كبيرا بالنسبة للجنة الدولية، والتي كان ديدنها بإستمرار ضمان المزيد من الحماية لضحايا الحروب الذين ليسوا طرفا في الصراع على أي جبهة كانوا.

ابتكار الحلول

خلال العقديْن الأخيريْن، اقتحمت اللجنة الدولية للصليب الاحمر فضاءات جديدة للعمل الإنساني. ومن خلال خريطة لبلدان جنوب الصحراء الكبرى، تشير ماري –سيرفان ديجونكار، الناطقة الرسمية بإسم اللجنة الدولية بحماسة بإصبعها إلى المناطق التي يقوم فيها الصليب الاحمر بتوليد بعض الفيروسات المقاومة للكاسافا في المناطق الوسطى بالكونغو. 

ويهدف هذا المشروع إلى تمكين المقيمين في منطقة ليكوالا من توفير امداداتهم الغذائية. وقد فرّ عدد كبير من اللاجئين عبر حدود جمهورية الكونغو الديمقراطية بعد انفجار أعمال عنف بالمنطقة في عام 2009.

ولكن القادمين الجدد دخلوا في تنافس وصراع مع السكان الأصليين بسبب النقص الكبير في مخزون الغذاء. وترافق ذلك أيضا مع إصابة الكاسافا، مصدر الغذاء الرئيسي في المنطقة، بفيروس فسيفساء، المعدي والذي يصيب النباتات فيتلفها. وتضيف سيرفان ديجونكار: “في حالة كهذه، جلب أكياس من الأرز إلى هذه المنطقة، لا يمثّل حلا مجديا”.

في المقابل، قامت اللجنة الدولية بتوزيع نباتات مقاومة لفيروس الكاسافا، فضلا عن أدوات الصيد، لتحقيق استقرار في الإمدادات الغذائية. انتهت اللجنة الدولية من انجاز هذا المشروع في عام 2011، وتقدّر عدد المستفيدين منه بحوالي 100.000 نسمة.

وبعد 12 عاما على رأس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، هل يشعر كلينبيرغر بأي ندم على ما فعله سابقا وهو يسلّم المشعل إلى دبلوماسي سويسري آخر، هو بيتر ماورر؟ يردّ الرئيس المنصرف قائلا: “أترك هذه المنظّمة وهي قائمة على أسس صحيحة، وتتمتّع بميزانية صلبة، وبين يديْ رئيس جديد يتميّز بالدربة والحكمة”. فما هي التحديات الأكثر إلحاحا بالنسبة للرئيس الجديد؟ “حتما هو لا يجهلها”.

 تأسست اللجنة الدولية للصليب الاحمر انطلاقا من الرغبة في تخفيف آثار الحرب على كل من جانبيْ الصراع. وتسعى هذه المنظمة الآن إلى منع المعاناة الإنسانية وتخفيفها بغض النظر عن العرق او الدين أو الجنسية او الخيارات السياسية للضحايا. 

في عام 1859، قادت الاقدار هنري دونان، رجل أعمال سويسري من جنيف، لزيارة موقع معركة سولفرينو بإيطاليا عقب حرب طاحنة، فأصيب بالصدمة لهول ما رآه، ودوّن كتاب “ذاكرة سولفرينو”، والذي انتشر ووزّع على نطاق واسع. وسبّب استياء كبير من همجيّة ما يرتكبه الإنسان خلال الصراعات والنزاعات المسلحة.

قرّر دونان العمل على اقناع الدول لدعم منظمة او جمعية التي ستجعل من الدفاع عن المعاملة الإنسانية لضحايا الحروب، بغض النظر عن أي جبهة من الصراع كانوا، المحور الأساسي لعملها. وشهدت جنيف سنة 1863 نشأة لجنة إغاثة الجرحى، وكان الحياد وعدم التحيّز المرتكزات الاساسية لهذه المنظمة منذ قيامها. واتخذت من العلم السويسري مقلوبا رمزا لها.

غيّرت اسمها لاحقا ليصبح اللجنة الدولية للصليب الاحمر، وبالتحديد في عام 1876.

أنشأت جمعيات وطنية للصليب الأحمر وللهلال الأحمر في أكثر من 188 بلدا، وتتعاون اللجنة الدولية بشكل وثيق مع هذه الجمعيات الوطنية، ولكن تقوم اللجنة الدولية من حين لآخر بتجاوز هذه الهيئات الوطنية وتقدّم المساعدات مباشرة للحكومات.

تقدّم اللجنة الدولية المواد الإغاثية في شكل أدوية واغذية وبطانيات والمأوى وغيرها من الخدمات الضرورية. وهي تحاول كذلك زيارة أماكن الإحتجاز لضمان توفّر الحد الادنى من شروط احترام الكرامة الإنسانية فيها. وعندما تلاحظ تجاوزات، تقوم بإبلاغ السلطات بها وتدعوها لتحسين تلك الأوضاع، وهي تراهن كثيرا على استعداد الدولة بنفسها للتغيير.

في حالات نادرة جدا تقوم اللجنة الدولية بنشر تقاريرها على الملء، هذا على الرغم من انها لا تقوم بتلك التقارير بالتعاون او التشارك مع البلدان المعنية.

تتميّز اللجنة الدولية عن غيرها من المنظمات بما يُعرف عنها من حياد ونزاهة واستقلالية القرار وتكتّم. وتعتقد هذه اللجنة أنه من واجبها معاملة الضحايا كانوا من كان بمساواة، وتحاول تثقيف الأنظمة والجيوش طبقا لذلك.

تستمّد هذه اللجنة قوّتها على الساحة الدولية من ارتكازها على اتفاقيات جنيف الاربع وعلى الإتفاقيات الدولية الاخرى المتعلقة بمعاملة ضحايا الحروب. وقد تضمّنت الاتفاقية الاولى من اتفاقيات جنيف اسم اللجنة الدولية للصليب الاحمر، بوصفها منظمة إغاثة محايدة ونزيهة، ولا يجب أن تكون مستهدفة من أي جهة كانت.

(نقله من الإنجليزية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية