جبل سان جيورجيو.. قطعة من إفريقيا في قلب التيتشينو
يحمِـل جبل سان جيورجيو تاريخ 300 مليون سنة، وتمّ إدراجه في شهر يوليو من عام 2003 على قائمة التراث العالمي، وهو جبل مُشجّـر يمتاز بشكله الهرمي وينتصب على ارتفاع أكثر من ألف مِـتر فوق مستوى سطح البحر، ويقع على الساحل الجنوبي لبُـحيرة لوغانو في كانتون تيتشينو، جنوب سويسرا.
اعتُـبر واحدا من أهمّ المواقع على وجه الأرض لدراسة الحيوانات الأحفورية في الدّور الأوسط من الحِـقبة الثلاثية، أي ما بين 245 إلى 230 مليون سنة. كما يُـتيح للدّارسين تتبّـع مرحلة زمنية، مداها 15 مليون سنة بصورة متّـصلة ومُـتتابِـعة ليس لها مثيل في أي مكان آخر، فلذلك، استحق بجدارة أن يكون من بين مواقِـع التراث العالمي.
فلا غرو إذن، أن نجد عالِـما من علماء الجيولوجيا مثل ماركوس فيلبر يأخذ على عاتقه مسؤولية تقديم جبل سان جيورجيو كمرشّـح لقائمة اليونسكو ويقوم بنفسه بإعداد الملف الخاص بهذا الشأن، وأن يجود في سبيل ذلك بأثمن أوقات فراغه. واعترافا له بالجميل ومكافأةً له على جهوده، تمَّ اطلاق اسمه على نوع من السمك الأحفوري، يدعى فيلبيريا إكسيلسا، قام باكتشافه اثنان من الباحثين الإيطاليين وتمّ إيداعه في متحف التاريخ الطبيعي لكانتون تيتشينو.
وبدوره اعتبر فيليبو رامباتسي، مدير متحف التاريخ الطبيعي لكانتون تيتشينو، أن “اعتراف اليونسكو، ليس مسألة تشريف فقط، بل ينضوي على مسؤولية حقيقية، أساسها ضرورة ضمان استمرارية الأبحاث العلمية”.
يوم كان الجبل بُـحيرةً شاطئية
والغريب في الأمر، أن جبل سان جيورجيو لا تنقضي عجائبه، إذ يعتقِـد العلماء بأن أقدَم صخور هذا الجبل في الأساس، هي صخور من القارة الإفريقية أو من جُـزء من أجزائها يسمّـى الطبق الأدرياتيكي. وبرأي عالِـم الجيولوجيا ماركوس فيلبر أن: “هذا يفسِّـر لماذا يتمّ غالبا ربْـط صخور منطقة سوتوتشينيري بالقارة الإفريقية”.
وأضاف: “كلَّـما حفرنا كلَّـما عثرنا على أدلّـة جديدة تساعد على فهْـم الظروف البيئية التي كانت تسود كوكبنا الأرضي في تلك الآماد البعيدة، يوم أن كان جبل سان جيورجيو لا يزال بُـحيرة شاطئية”، ولذلك، فإن وجود أحافير كامِـلة حُفِظت طوال هذه المدّة، وفريدة من نوعها وقادرة على توضيح الأسباب التي أدّت منذ 230 مليون سنة بتجويف عُـمقه 100 متر، لأنْ يتحوّل إلى قمّـة فوق سطح الأرض، كان له عظيم الأثر في قبول جبل سان جيورجيو ضمن قائمة التراث العالمي.
وجدير بالذكر، أنه تمّ في هذه المنطقة المحمِـية من اليونسكو، والتي تبلغ مساحتها 849 هكتارا، العثور على أكثر من 10 آلاف عيّـنة أحفورية، منها 30 نوعا من الزواحف و80 نوعا من الأسماك، ومعظمها محفوظة لدى متحف المتحجّـرات في زيورخ، بينما أودِعت مجموعة قليلة منها لدى متحف ميريدي في كانتون تيتشينو، جنوب سويسرا. مع العلم بأن أعمال التنقيب بدأت منذ عام 1924، في حين أن الدِّراسات والأبحاث الخاصة بجبل سان جيورجيو صار لها أكثر من 150 عاما وهي تُـجرى تحت إشراف معهدَيْ المتحجِّـرات في كلٍّ من جامعتَـيْ زيورخ وميلانو.
آثار قيّمة جديرة بالتّـقدير
أما بصدَد إمكانية زيارة مونتي (أي جبل) سان جيورجيو، العظيم بكنوزه التي تمّ اكتشافها، ناهيك عن الكنوز التي لا زالت لم تُكتشف بعدُ، فإن الوصول إليه مُـمكن مَـشيا على الأقدام من جهتيْـن في منطقة ميندريزيوتُّـو، الواقعة أقصى جنوب كانتون تيتشينو.
الأولى، من قرية ريفا سان فيتالي المطلّـة على بُـحيرة تشيريزيو، حيث يمكن الصعود في هذا الدّرب بسرعة، ولكنه مخصَّـص لمُـستكشِـفي المتحجِّـرات، ولا ينصح به لغير المتدرِّبين أو لغير أصحاب الخِـبرة.
الثانية، من قرية ميريدي، وهي طريق مُـشاة سالكة ومُـشمسة ومُـتاحة للجميع، وقد تمّ رصفها بصورة مميّـزة بواسطة أحجار، حتى لِـتبدو وكأنها عمود فِـقري لأحد حيوانات ما قبل التاريخ. وفي أوائل السبعينات، وفي هذه القرية بالضّـبط التي يبلغ عدد سكانها 300 نسمة فقط، تمّ افتتاح متحف أحفوري جوار مبنى بلدية ميريدي، ولعلّـه يكون من المبالغة وصفه بأنه متحف.
فقد تمّ الاكتفاء بتثبيت لوحة تُذكّـر السياح باعتراف اليونسكو بهذه المنطقة كتراث إنساني عالمي وفي دفتر تدوين الملاحظات وفي الصفحة المقابلة لرسومات لديناصورات بأيدي أطفال، كَـتَـب بعض من زار المنطقة مُـبدِيا رأيه بالمتحف، واصفا إياه بأنه: “صغير، ولكنه مُـهم”، وكَـتَـب زوجان من أصل هولندي قائليْـن: “من الصعب الاستدلال عليه”.
فيما يتِـم عرض المُكتَشَفات الحديثة من المتحجّـرات والتعريف بها بواسطة لوحات ورقية مكتوبة باللغتيْـن، الإيطالية والألمانية، تُـمثل لمْـسة حداثة فوق زُجاج صناديق العرض القديمة، حيث تظهر كتابة مَـضى عليها زمن طويل، فيها اعتذار عن رداءة العرْض، بيْـد أن هنالك برنامج لإنشاء متحف جديد يُتوقّـع له أن يجتذِب ما يقرب من 6500 زائر سنويا، سيعهد القيام به إلى المهندس المعماري – من أهالي تيتشينو وذو المكانة العالمية – ماريو بوتا.
من أجل تعزيز مكانة الموقع من كافة الجوانب، فقد تمّ مؤخّـرا إنشاء مؤسسة مونتي سان جيورجيو كي تتولّـى هذه المهمّـة، ويُذكَـر في هذا المقام وعلى سبيل المثال، أنه قبل بِـضع سنوات، برزت جمعية مُـنتجي النبيذ في مونتي سان جيورجيو، فقامت باعتماد علامة جَـوْدة خاصة بالنبيذ المُنتَج من عِـنب هذا الموقع المُـدرج على قائمة التراث العالمي.
كما أن الوضع على أرض الواقع شهِـد تحسنا، إذ تم وضع نظام لافتات حديث يشمَـل جميع المسارات الثمانية الموجودة في الجبل، وطِـبقا لما قاله ماركوس فيلبر أنه: “لتجنُّـب ملْءِ المسارات باللّـوحات، فقد تمّ اعتماد نظام قراءة البيانات بصيغة MP3 وCD، وببساطة، صار بالإمكان تحميل المعلومات مُـباشرة من خلال شبكة الإنترنت”.
صخور رُخامِـية
ومن بين الكُـنوز التي يذّخِـر بها جبل سان جيورجيو، احتواؤه على تشكيلة كبيرة ومتنوِّعة من الصخور، هذا الثّـراء في جوف الجبل أثرى المنطقة بمِـهنة تقليدية تعاقبت عليها الأجيال، وهي العمل في تقطيع الصخور وشغلها، وعلى الرغم من أن التّـعدين أو استخراج الصخور انحصر اليوم في محجَّـريْ آرتسو وسالتريو، إلا أن الماضي كان شاهدا على وجود عشرات المقالِـع الفَوْق والتّحت أرضية، التي لَـطالما استفاد منها الفنّـانون والنحّـاتون والمِـعماريون.
عِـلما بأن رُخام آرتسيو – الذي تزهو ألوانه الطبيعية المميّزة بعد جَلْيِة وصقله – له صِـيته ومكانته في أوروبا، وهو اليوم يُزيّـن العديد من القصور والسرايا والكنائس، ليس في كانتون تيتشينو فحسب، بل أيضا في عدد من مقاطعات ومُـدن إيطاليا، مثل لومبارديا وبييمونتي، فضلا عن البندقية وجنوة وروما ونابولي.
فرانسواز غيهرينغ – مونتي سان جيورجيو – swissinfo.ch
“يُـعتبر جبل سان جيورجيو أفضل تجسيد للحياة البحرية في العصر الثلاثي (الترياسي)، كما يقدم شواهد هامة عن الحياة البرية أيضا”.
“أمكن العثور في الموقع على العديد من المتحجّـرات الأحفورية، الكثير منها كاملة وتامّـة الحفظ وفريدة من نوعها”.
“ساعدت الدراسة المتأنِّـية للموقع، في إيجاد تشكيلة مرتّـبة ومصنّفة وموثَّـقة من العيِّـنات الأحفورية التي لا مثيل لها”.
“وعليه، فإن جبل سان جيورجيو هو مرجِـع رئيسي يمهِّـد الطريق لمستقبل الاكتشافات في عالَـم الحَـفريات البحرية من العصر الترياسي”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.