عشرون كيلومترا من الذكريات التي تروي مآسي الماضي
منذ تأسيسها في عام 1863، حافظت اللجنة الدولية للصليب الأحمر على جميع ما لديها من وثائق حول عملياتها الإنسانية في شتى أنحاء العالم، مما أسفر عن تراكم تراث استثنائي من الوثائق، والصور والأفلام والتسجيلات الصوتية، التي لم يُبحَث البعض منها حتى اليوم.
“الإحتفاظ بالذكريات هو أسلوب لاسترجاع الماضي وإعادته إلى الحياة، لدراسته بشكل نقدي وشامل وملاحظة مدى إنعكاسه على الحاضر”، كما يقول فابريتسيو بينزي، أحد أمناء الأرشيف والمؤرخين العاملين في اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وخلال نشاطاتها الممتدة لقرن ونصف من الزمان، جمعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بحوزتها الملايين من الوثائق. وهكذا، تشكّل على مدى العقود المنصرمة، توثيق فريد من نوعه يضطلع بمسار هذه المؤسسة ونشأة وتطور القانون الدولي الإنساني وعمليات التدخل الإنسانية عموماً.
يعمل بينزي في قسم الأرشيف بالفعل منذ 23 عاماً، ويمكن وصفه بالموسوعة الحية لهذه المؤسسة الإنسانية. هو “متدرب متواضع ما زال أمامه الكثير ليتعلمه”، كما يقول عن نفسه. في الوقت نفسه، يشكل الشغف بالتاريخ المعاصر، الدافع اليومي للمؤرخ المنحدر من بلدية “جيوبياسكو” بكانتون تيتشينو (جنوب سويسرا). هذا الشغف الذي نشأ عند بينزي وهو في سن الثالثة أو الرابعة عشر، والذي عمل تاليا على صقله أثناء دراسته الجامعية في جنيف.
“أنا لست فأرة أرشيف”، كما يقول بابتسامة خفيفة، بل “أنا شخص مختص يُغذي ما لديه من عِلم ويرغب بنقله لاحقاً إلى الزوار والباحثين، كي يجدوا طريقهم وسط هذه الغابة من الوثائق. إن أكثر لحظاتي السعيدة، هي عند عثورهم على وثيقة مثيرة لاهتمامهم”.
ليست وثائق فحسب
منذ عام 1863 واللجنة الدولية للصليب الأحمر تحتفظ بعناية بكافة الوثائق المتعلقة بعملها. وفي البداية، كانت هذه الوثائق شاهداً على الأعمال الخيرية لهذه االمؤسسة الإنسانية. واليوم، وبعد مرور 150 عاماً، تشكل هذه الأرشيفات (المحفوظات) العامة، مصدراً غنياً للبحوث التاريخية والعلوم الإجتماعية.
“أكثر فترة تجذب الباحثين، هي تلك الممتدة من عام 1930 وحتى 1960، حيث ما تزال حِقبة الحرب العالمية الثانية مُـثيرة للكثير من الإهتمام”، كما يقول فابريتسيو بينزي. “كما تجد الصراعات المسلحة التي حدثت قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، كالحرب الإثيوبية والحرب الأهلية الإسبانية وإنهاء الإستعمار والحرب الباردة، العديد من المهتمّـين”.
ولا يتضمّن هذا الأرشيف ملايين الوثائق الورقية فحسب، ولكنه يحتوي على أكثر من 100,000صورة ونحو 3500 فيلم و6000 ساعة من التسجيلات الصوتية أيضاً.
ولتثمين بعض من هذه المصادر ومشاركتها مع الجمهور، أقامت اللجنة الدولية منصّة إلكترونية على شبكة الإنترنت، تتيح لمستخدميها الوصول إلى مختلف المواد الأرشيفية والمتضمنة لبعض التسجيلات القيّمة حول عمل هذه المؤسسة على مدى العقود الماضية.
وينتمي جزء من هذا الأرشيف إلى الوكالة الدولية لأسْـرى الحرب. وبالإمكان العثور هناك على الملايين من بطاقات الفهرسة المتضمنة لمعلومات حول ضحايا النزاعات، مثل أسرى الحرب والمعتقلين المدنيين والأشخاص المفقودين واللاجئين، وما الى ذلك.
“توفّر الأعداد الكبيرة لبطاقات الفهرسة منذ عام 1870 الفرصة للجنة الدولية لأداء مهمَّتها الإنسانية وتسهيل جمْع شمل الأسَـر”، كما يقول أمين الأرشيف.
“وعلى سبيل المثال، تضم مجموعة البيانات الشخصية الألمانية في الحرب العالمية الثانية وحدها، تسعة ملايين بطاقة”. كما يقول بينزي، الذي يُذَكَّر بأن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، قد وضعت الوثائق الخاصة بالوكالة الدولية لأسْرى الحرب الممتدة من عام 1914 وحتى 1923 في سجِل “ذاكرة العالم” في عام 2007، بهدف صونها وحمايتها من التدهور والضياع.
تعود معظم الملفات الصوتية المتواجدة في أرشيف اللجنة الدولية بشكل خاص إلى الحقبة الممتدة من عام 1950 وحتى عام 2000.
صُمِّمَت التسجيلات التي أنتجت في المقر الرئيسي في جنيف بشكل أساسي للنشر عبر إذاعة “Radio-Inter-Croix-Rouge”، التي أصبحت فيما بعد “إذاعة الصليب الأحمر” (RCBS)، كما أنها كانت تهدف إلى الحفاظ على تاريخ المؤسسة الشفوي أيضاً.
عملت اللجنة الدولية للصليب الأحمر على مدى عدة أعوام مع إذاعة سويسرا العالمية، التي أصبحت تسمى اليوم swissinfo.ch، سعياً منها لتحقيق نشر أفضل للأخبار والمعلومات المتعلقة باللجنة الدولية.
ابتداءً من القرن الحادي والعشرين، أقرت اللجنة الدولية بضرورة إعداد نُسخ رقمية لتسجيلاتها الصوتية، بغية المحافظة عليها للمستقبل أيضاً.
قامت المكتبة الصوتية السويسرية بدعم مشروع تأمين ورقمنة الوثائق السمعية، كما تمّ تمويل المشروع من قِبَل مؤسسة Memoriav (جمعية الحفاظ على التراث السمعي والبصري السويسري).
بعد اختتام هذا المشروع في موفى عام 2013، ستكون آلاف التسجيلات الرقمية متاحة للجمهور ولوسائل الإعلام والباحثين عموما.
بمناسبة مرور 150 عاماً على تأسيسها، أطلقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر منصّة إلكترونية على شبكة الإنترنت، تتيح للمستخدمين إمكانية البحث والإستماع والإطلاع على مجموعة مختارة من الوثائق الصوتية والصورية وأفلام الفيديو والوثائق المكتوبة.
(المصدر: اللجنة الدولية للصليب الأحمر)
“ما من شيء نُخفيه بعد الآن”
على مدى عقود من الزمن، أحاطت هالة من الغموض بأرشيف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ما أدّى إلى إذكاء الجدل حول دور المؤسسة في بعض الحالات الإستثنائية من التاريخ الحديث، وبالأخص خلال الحرب العالمية الثانية. وفي الواقع، لم يكن الأرشيف متاحاً للجمهور حتى عام 1996، باستثناء بعض الحالات الخاصة.
في الأثناء، “كان إفتتاح أحد أجزاء الأرشيف للجمهور في العام الماضي، أحد أهم لحظات نشاطاتي في اللجنة الدولية”، كما يقول فابريتسيو بينزي، ثم يُضيف “من خلال قرارها هذا، وافقت المنظمة على وضع نفسها في مواجهة المراجعة النقدية والمستقلة للمؤرخين، وبشكل أعَمّ، مراجعة المختصين في مجال العلوم الإجتماعية. وبالنسبة لي، كانت هذه ضربة البداية لتعاون نشِط ومثير للإهتمام مع العالم الأكاديمي خارج جدران اللجنة”.
في الواقع، كانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر راغبة بالإنفتاح على العالم، لتلبية الإهتمامات المتزايدة للمؤرّخين، وبالأخص أولئك الأشخاص الباحثين عن البيانات الشخصية أو إفادات الشهود من ضحايا الحرب.
مع ذلك، أعلنت المؤسسة قبل افتتاح الأرشيف، عن بعض القواعد الدقيقة: 40 عاماً فترة حَظر على نشر الوثائق ذات الطابع العام و60 عاماً من الحظر لتلك المتعلقة بضحايا النزاعات. “لقد وُضع هذا الحَظر كي لا تُعيق الأنشطة البحثية مهمّة اللجنة الدولية، التي تُدعى للإضطلاع بولايتها في دول تكون متورّطة في أحد الصراعات”، حسب بينزي.
وباستطاعة الباحثين في الوقت الراهن، تقييم المصادر المُتاحة من عام 1893 وحتى عام 1965. واعتباراً من غرّة يناير 2015، ستُعَمَّم الفترة الزمنية من عام 1966 وحتى 1975. وفي هذا السياق، يقول أمين الأرشيف: “كانت هذه فترة حافلة بالأحداث، مع حرب الأيام الستة أو حرب يوم الغفران في الشرق الأوسط، والحرب الأهلية النيجيرية (حرب بيافرا) في إفريقيا والدكتاتورية العسكرية في اليونان وحرب القوات المسلحة الأمريكية في فيتنام وانقلاب بينوشيه في شيلي أو نهاية الإمبراطورية الإستعمارية البرتغالية. وسوف يُؤجج الإفتتاح المقبل دراسات ونقاشات حول هذا العقد من القرن العشرين”.
لو أردنا وضع الصناديق الحاوية لهذا العدد الذي لا يُـحصى من الوثائق في صفٍّ واحد، سيتحتَّـم علينا قياس مسافة بطول نحو 20 كيلومتراً. إنها 150 عاماً حافلة بالذكريات، وخط متواصل من الصراعات والحروب والمآسي الإنسانية، أي ما يشبه نصف الماراثون، الذي يتحرك أمين الأرشيف فابريتسيو بينزي ضمنه، ليس بدقة الجرّاح فحسب، ولكن مع عاطفة لا حدود لها أيضا.
يبدأ تاريخ اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عام 1859، عندما أصبح هنري دونان، رجل الأعمال أصيل جنيف شاهداً على معركة سولفيرينو (بين الإيطاليين والفرنسيين من جهة، والنمساويين من جهة ثانية). وقد دفعته الصدمة التي أصابته نتيجة هذه التجربة الكارثية، الى تأليف كتاب “ذاكرة سولفيرينو“، الذي نُشر في عام 1862.
في عام 1863، أسست مجموعة من مواطني كانتون جنيف هم “غوستاف موانيي” و”غيوم – هنري دوفور” و”لوي أبيا” و”تيودور مونوار”، فضلاً عن دونان نفسه “اللجنة الدولية لإغاثة الجرحى“، التي أصبحت تسمى ابتداء من عام 1876، اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC).
منذ تأسيسها، وضعت المنظمة لنفسها شارة ممثلةً بصليبٍ أحمر، أي العلم السويسري بألوان معكوسة. ومن خلال هذا الرمز الأول، ظهر الهلال الأحمر والكريستالة الحمراء لاحقاً.
في 22 أغسطس من عام 1864، وقَّعت 12 دولة على الإتفاق الخاص باحترام وحماية الجنود الجرحى والموظفين الذين يقدِّمون الإسعافات الأولية، ومثلت هذه الخطوة ولادة اتفاقية جنيف الأولى.
في عام 1901، حاز هنري دونان على جائزة نوبل للسلام مناصفة، عندما مُنِحَت للمرة الأولى.
توفي أبو اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عام 1910 في بلدية هايدن في كانتون أبّـنزل رودس الخارجي، عن إثنين وثمانين عاماً.
في عام 1949، اعتُمِدت أربع اتفاقيات لجنيف بشأن حماية المدنيين وضحايا الحرب. وتم التصديق في عام 1977 على بروتوكولين إضافيين لحماية المقاتلين في حركات التحرر.
(المصدر: اللجنة الدولية للصليب الاحمر)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.