“قضية تينّـر” تتمخّـض عن مواجهة غير مسبوقة بين الحكومة والقضاء
تحوّلت قضية تينّـر من مُـجرّد اتِّـهام بتهريب معدّات حربية إلى معركة لَـيِّ ذراع بين الحكومة السويسرية والقضاء. وبعد سابقة عملية التفتيش في مكاتب الشرطة الفدرالية، شدّدت وسائل الإعلام، الصادرة يوم الجمعة 10 يوليو 2009، على ضرورة توضيح هذه القضية الشائكة.
لا يوجد شكّ بأن سويسرا بلد ديمقراطي وبأن الفصل التام بين السلطات، مُـضمّـن فيها في الدستور والقوانين الأساسية، لكنها المرة الأولى التي تشهدُ فيها الكنفدرالية مواجهة مفتوحة بين الحكومة والسلطة القضائية.
فقد شهِـد يوم الخميس 9 يوليو، لجوء مكتبِ قُـضاة التحقيق الفدراليين إلى القيام بإجراء غير مسبوق، لكنه شرعي تماما، خصوصا وقد سبق للمحكمة الجنائية الفدرالية نفسها أن اقترحت إمكانية إجراء تفتيش في مكاتب الشرطة الفدرالية، لوضع الوثائق المتعلِّـقة بقضية تينّـر في مكان آمن. وهذا ما حدث بالفعل.
فبعد ظهر يوم الخميس، تحرّك أعوان من شرطة برن بناء على تكليف من مكتب قُـضاة التحقيق الفدراليين، وقام بتفتيش مكاتب الشرطة القضائية الفدرالية والجهاز الفدرالي للأمن في العاصمة السويسرية. وأسفرت العملية عن احتجاز صندوق توجد فيه المفاتيح، التي تسمح بالوصول إلى الوثائق الشهيرة، التي عُـثِـر عليها عند عائلة المهندسين من سانت غالن، المتّـهمين بالاشتراك في عمليات لتهريب معدّات نووية باتجاه ليبيا، (وهي تصاميم لأسلحة نووية أمرت الحكومة الفدرالية بإتلافها باسم المصلحة العليا للدولة).
وأوضح يورغ زينغلي، رئيس مكتب قُـضاة التحقيق الفدراليين، أن عملية الحجز تهدِف إلى تمكين المحكمة الجنائية الفدرالية من اتِّـخاذ قرار حول إمكانية الاطّـلاع على هذه الوثائق وتوقيت ذلك. في المقابل، يُـمكن للحكومة الفدرالية أن تعترض على هذا الإجراء، لكن ذلك لا يُـؤدي عادةً إلى وقف سيْـر الإجراءات التي أطلقها قُـضاة التحقيق.
حجْـز “باطِـل”
في الوقت الحاضر، تبدو المواقف بين الطرفين المتقابلين، متباعدة، لذلك، فإن توقّـع التوصّـل إلى حلٍّ للأزمة، يظل ضئيلا. فالحكومة السويسرية مُـصمِّـمة على إتلاف الملف، وتستند في قرارها إلى الصلاحيات التي يمنحها لها الدستور الفدرالي، حيث يسمح لها الفصل 185 باتّـخاذ إجراءات لحماية أمن سويسرا الخارجي واستقلالها وحيادها.
تبعا لذلك، أعلنت الحكومة أن عملية الحجز “باطلة”، فيما ذكّـرت وزارة العدل والشرطة بأنه قد تمّ التوصّـل “بشكل نهائي” إلى أن خُـطط إعداد أسلحة نووية، لن يُـتاح الوصول إليها (من طرف أي كان)، باعتبارها أدلّـة، لذلك، فإن الإجراء برمّـته يُـعتبر “بلا تأثير”.
تأييد واسع من البرلمان
على عكس الموقف الحكومي، لقِـيت الإستراتيجية التي اعتمدتها السلطة القضائية، تأييدا واسعا داخل البرلمان، الذي طالبت مفوضية لِـجان التصرف فيه (المتخصصة في مراقبة الأداء الحكومي) مِـرارا وتِـكرارا بالحصول على الوثائق المتنازَع عليها. وفي تصريح للإذاعة السويسرية الناطقة بالفرنسية، استنكر بيير فرانسوا فييون Veillon (من حزب الشعب السويسري عن كانتون فو) “تصلّـب الحكومة الفدرالية” في هذه القضية.
في الواقع، لا تفهَـم السلطة التشريعية السبب الكامِـن وراء عدم اتِّـباع الحكومة الفدرالية لتوصيات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي سبِـق أن اقترحت على برن اتخاذ إجراءات تحُـدّ من الوصول إلى الوثائق وتضمن الحِـفاظ على سريتها، كما وافقت على الاحتفاظ بها، باعتبارها أدلّـة يُـمكن استخدامها في محاكمة، مثلما أوضح Veillon، الذي يُـضيف “عند هذه النقطة، لم تعُـد نفهم موقف الحكومة”.
المزيد
المحكمة الفدرالية الجنائية
حكومة متعطِّـشة للسلطة؟
هذه المواجهة النادرة وغير المسبوقة بين القضاء والسلطة السياسية، أثارت استغراب الصحافة السويسرية، التي أجمَـعت على الدعوة إلى ضرورة توضيح كلِّ ما يتعلّـق بهذا الخلاف، الذي يكاد يكون غير معقول. ففي الوقت الذي يتوجّـب على سويسرا أن تواجه فيه الأزمة المالية والخلاف المرتبط بالسر المصرفي، يحتاج البلد إلى شيء من الوِحدة في النوايا، مثلما تّـشدّد صحيفة بازلر تسايتونغ.
وتضيف الصحيفة، الصادرة في بازل، إن الأسئلة العديدة التي لا زالت مطروحة، يجب أن “يتِـم توضيحها بأسرع وقت ممكن، لأن سويسرا لا يُـمكن أن تسمح لنفسها بقطيعة عنيفة بين السلطتين، التنفيذية والقضائية”.
نفس الانشغال، أثارته صحيفة 24 ساعة، الصادرة في لوزان، في افتتاحيتها وذهبت إلى حدّ الحديث عن “صِـراع خنادق” بين السلطات الفدرالية الثلاث، وهي مواجهة تبدو في بداياتها فحسب..
الانتقادات صدرت أيضا عن صحيفتيْ تاغس أنتسايغر، الصادرة في زيورخ ودير بوند، الصادرة في برن، التي اعتبرت أن الحكومة الفدرالية تبدو وكأنها أصيبت – في قضية الجوسسة وتهريب التكنولوجيا هذه – بـ “تعطّـش للسلطة”. فقد صرّح هانس رودولف ميرتس، رئيس الكنفدرالية يوم الأربعاء 8 يوليو، “الملف يبقى سِـريا. لا اعتراض على ذلك، لأن الدولة هي نحن ويكفي”، وهو تصرّف “يُـذكِّـر بالملِـك الشمس” (في إشارة إلى الإمبراطور الفرنسي نابوليون 14) أكثر من رئيس للكنفدرالية، مثلما تقول الصحيفتان.
قرار مُـتسرِّع
الصوت الوحيد، الذي شذّ عن هذا الإجماع، صدر عن صحيفة نويه تسورخر تسايتونغ الرصينة، التي شدّدت على أن المحقِّـقين في هذه القضية، لم يأخذوا بعين الاعتبار الصلاحيات التي يمنحها الدستور عمليا إلى الحكومة فيما يخُـصّ أمن الدولة.
وفي معرض التأييد لوجهة نظرها، استجوبت الصحيفة الصادرة في زيورخ، عددا من خبراء القانون السويسري، حيث ذهب جورج مولّـر، أستاذ القانون، إلى أن حجز الصندوق لا يؤدّي إلى بروز نزاع بشأن الفصل بين السلطات فحسب، بل يدفع إلى التساؤل حول “مَـن له الأولوية بين العالم السياسي والقضائي؟”.
أخيرا، يُـلاحِـظ طوبياس ياغ، الأستاذ بجامعة زيورخ، أن عملية الاحتجاز هذه غيرُ موجودة في القانون، لكنها تستنِـد إلى حُـكم صادر عن المحكمة الفدرالية (أعلى هيئة قضائية في سويسرا) في عام 1999.
ستيفانيا سومّـرماتر – swissinfo.ch مع الوكالات
في عام 2004، سلمت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قائمة للسطات السويسرية تتضمن شركتين و15 فردا متهمين بالتورط في معاملات مع إيران وليبيا في المجال النووي.
اتهم الشقيقان المهندسان السويسريان أورس تينّر وماركو تينّر بالمشاركة في تهريب تكنولوجيا نووية سرية إلى ليبيا. وخضعا للإعتقال التحفظي منذ عدة سنوات.
أُعتقل أورس تينّر في أكتوبر 2004، في ألمانيا. ثم سُلّم لاحقا إلى السلطات السويسرية عام 2005. أما شقيقه فقد أُعتقل في سبتمبر 2005. وكذلك خضع أبوهما، المتهم بدوره في نفس القضية، إلى الاعتقال التحفظي، ثم أطلق سراحه في مستهل سنة 2006.
ويُرجّح أن يكون أفراد هذه العائلة قد عملوا لصالح عبد القدير خان، الأب المفترض للقنبلة النووية الباكستانية، ما بين سنتيْ 2001 و2003.
وظهرت القضية إلى العلن سنة 2004، عندما اعترف عبد القدير خان بتهريب أسرار التكنولوجيا النووية إلى كل من إيران وكوريا الشمالية وليبيا.
في عام 2007، سمحت الحكومة السويسرية بإتلاف وثائق مُـرتبطة بعملية التهريب المزعومة للمعدّات النووية، لتجنُّـب سقوط “معلومات خطيرة” بأيدٍ غير سليمة، ما يؤدي إلى إلحاق الضرر بالأمن القومي والدولي.
لا زالت العديد من نِـقاط الظل تُـحيط بهذا الملف القضائي والسياسي. فطِـبقا لمكتب الادِّعاء العام الفدرالي، فإنه من المُـحتمل أن يكون أفراد عائلة تينّـر قد عمِـلوا لفائدة وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA)، في حين تزعَـم الصحافة أنهم قد يكونوا حصلوا على ملايين الدولارات لتعاونهم مع الوكالة الأمريكية.
يسمح الدستور الفدرالي السويسري في بعض مواده للحكومة الفدرالية الحق في اتخاذ قرارات ضرورية عندما تفرض مصلحة البلد ذلك وفي سياق مراعاة “الأمن الخارجي” لسويسرا.
ويبدو أن هذه الإجراءات تشكل القاعدة القانونية التي استندت إليها الحكومة في قرارها بإتلاف نصف الملفات الجنائية في التحقيق الذي تورط فيه ثلاثة سويسريين ضمن شبكة تهريب معدات نووية لصالح أب القنبلة النووية الباكستانية عبد القدير خان.
وكانت روت متسلر، وزيرة العدل والشرطة السويسرية في عام 1999 قد أثارت موضوع الحفاظ على المصالح الوطنية من أجل طرد موريس بابون الموظف السامي السابق في حكومة فيشي الفاشية الفرنسية المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بعد أن لجأ إلى سويسرا بصورة سرية.
ولو لم تتصرف السيدة ميتسلر بتلك الطريقة لتطلب الأمر إجراءات قانونية مطولة من أجل إعادته الى فرنسا، لذلك يمكن القول بأن قرارها ساعد على تجنيب تدهور العلاقات الفرنسية السويسرية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.