“لو قام كل واحد منا بواجبه.. لأنجزنا الكثير”
"يتعاظم مصب النهر بتكاثر روافده، ويتحقق الإنجاز الكبير بقيام كل فرد بواجبه".. تلك هي الخلاصة التي توصلت إليها عائلة ناجي عواد الفلسطينيية السويسرية، بعد عشرين عاما من العمل الخيري ضمن "جمعية مساعدة بيت ساحور -فلسطين" التي أنشؤوها بأنفسهم شعورا منهم بالغيرة على الأهل والوطن.
لا تنفصل سيرة هذه الجمعية عن تاريخ القرية التي تحمل إسمها، فجزء من أفراد هذه العائلة لازالوا يعيشون في بيت ساحور، هذه المدينة الواقعة بالضفة الغربية، والتي قرر سكانها سنة 1989 التوقف عن دفع الضرائب لإدارة الإحتلال الإسرائيلي، فتدهورت أوضاعهم المعيشية ما حرّك سواكن عائلة عواد، فنهضوا لنجدتهم. منذ تلك اللحظة وإلى اليوم لم تتوقف هذه العائلة الصغيرة في البحث عن أنجع الوسائل لجمع المساعدات وإرسالها إلى سكان بيت ساحور، والمناطق المجاورة لها.
ولكي يكون هذا العمل شفافا، ومستفيدا من خبرة سويسرا، وتقاليد سكانها في التنظم والعمل التطوعي، تنادى ناجي وأصدقاؤه من السويسريين والعرب المهاجرين إلى عشاء، انبثقت عنه جمعية “مساعدة بيت ساحور”، مدعومة من عدد كبير من المتبرعين الخيّرين، ومن الكنائس السويسرية لتبدأ مشوارها برعاية طالب بأحد المدارس عبر نفقة شهرية لا تتجاوز 100 دولار، ثم لتتحوّل اليوم إلى مشاريع متعددة المنافع والتخصصات، وإلى معونات سنوية تجاوزت العام الماضي 350.000 دولار.
عن طبيعة هذه الجمعية، يقول ناجي عواد: “هي هيئة خيرية ليس لها طابع سياسي، ويتوجه عملها إلى دعم المستشفيات، وطلاب المدارس، فتخف نفقات التعليم عن كاهل العائلات الفقيرة، وتتوفّر في نفس الوقت موارد إضافية للمدارس الأهلية”. وهي أيضا عضو في “جـمعية المساعدة الصحية السويسرية للفلسطينيين” التي يوجد مقرها بجنيف، وتوزع مساعداتها على التراب الفلسطيني كله.
من العائلة والأقرباء إلى الوطن
في البداية كان ناجي عواد وزوجته جميلة ينتهزان المناسبات والأعياد، فيصنعان أطباقا من الفلافل وأصنافا متنوعة من الأطعمة الشرقية ليبيعانها في الأسواق والمراكز التجارية، أو خلال المهرجانات والتظاهرات الثقافية التي لا تكاد تخلو منها مدينة فريبورغ السويسرية طيلة السنة. وكانت الأموال التي تتجمع توزع على الأقرباء، لكن الحلم كبر مع تعاظم مأساة الشعب الفلسطيني، فتوسعت المساعدات لتشمل بيت جالا وبيت لحم، والمناطق المجاورة.
وفي معرض شرح ناجي عواد لأولويات العمل الذي يقومون به يقول: “تتركز جهودنا على المجاليْن الصحي والتعليمي، فقد زوّدنا أخيرا عيادة المدينة بجهاز تصوير بالليزر اقتنيناه بمبلغ 65.000 فرنك سويسري، يستفيد منه كل المرضى من دون تفريق بين مسلم ومسيحي”. وتقدّم هذه الجمعية الفلسطينية السويسرية معوناتها أيضا لأربع مدارس ابتدائية ببيت ساحور.
وعن الحاجة الملحة لهذه المساعدات تقول السيدة جميلة عواد: “تبلغ نسبة البطالة مستوى مرتفعا جدا في بيت ساحور، وفي الضفة الغربية عامة، لكن لأننا من تلك المنطقة نشعر بوطأتها على المواطنين أكثر من غيرنا”، أما زوجها ناجي فيقول: “لو قام كل واحد منا بواجبه، لأنجزنا الكثير”.
المشكلة هو أن هذه المساعدات التي تتوصل الجمعية الفتية لحشدها تعترض سبيلها مصاعب جمة قبل أن تصل إلى مستحقيها، وتضيف السيدة جميلها بلباسها الشرقي المطرز والأنيق: “تشترط سلطة الإحتلال مرور المساعدات عبر مطاراتها وبواباتها، ولابد أن يكون لديك عنوان في إسرائيل، لكي يُسمح لك بذلك. هذا الأمر ليس بسيطا بالنسبة للمؤسسات الخاصة مثلنا”.
تكريما للكشافة والكشافين
هذا العام تخصص مساعدات هذه الجمعية لدعم الكشافة في بيت ساحور تقديرا للأدوار الهامة التي تقوم بها هذه المنظمة في حياة المجتمع الأهلي الفلسطيني، فهي تؤطر عددا كبيرا من الشباب والأطفال الذين يفتقدون إلى ملاعب ومحلات للترفيه، ويقومون بأعمال طوعية مهمة خاصة في الأعياد والمناسبات حيث يشاركون في تنظيم حركة المرور في مواسم الحج إلى بيت ساحور، ويقدمون الهدايا والمساعدات إلى دور العجزة، ويشاركون في إحياء أعياد الأم.
إضافة إلى ذلك، يتكفّل شباب الكشافة في حالات الطوارئ وما أكثرها في الأراضي الفلسطينية بأنشطة عديدة كتعليم الأطفال عندما يُغلق الإحتلال المدارس، ومكافحة الأمية في صفوف الكبار، وإيصال المساعدات الطارئة لكل بيت في أيام الحصار.
تضيف السيدة جميلة واصفة أهمية هذا الدور: “عندما فرض المحتل الحصار على بيت ساحور سنة 1987 على مدى شهريْن كاملين، خرج شباب الكشافة بالليْل يوزّعون المواد الأساسية على كل بيت، مما خفف على السكان آلام الفاقة والجوع، وكانوا يأخذون المرضى إلى المصحات، واستفادت من خدماتهم حتى المناطق النائية”.
هؤلاء الشباب، إذا لم يتلقوا دعما منا ومن الهيئات المماثلة، فإنهم “سوف يغادرون المنطقة، وهذا ما يهدف إليه المحتل” مثلما يقول ناجي عواد. وهذا الأمر صحيح إلى حد كبير، إذ تؤكد الإحصاءات أن نسبة المسيحيين في المجتمع الفلسطيني قد تقلصت من 12% في الضفة الغربية و40% في مدينة القدس سنة 1948 إلى حوالي 2% حاليا، كما تحوّلت مدن كانت ذات غالبية مسيحية في السابق مثل بيت لحم وبيت جالا، إلى مناطق ذات غالبية مسلمة اليوم.
أسرار النجاعة والفعالية
يشرف على أنشطة هذه الجمعية مكتب يتشكل من عائلة ناجي عواد ومن السويسريين المحليين، وتخضع أنشطة هذا المكتب إلى المراجعة والتقييم والمحاسبة مرة كل سنة.
ومن الطرائف التي يتوقف عندها ناجي عواد بعد 20 سنة من العمل والنشاط، ما حصل معه في اليوم الثاني لتأسيس هذه الهيئة مع المسؤول المالي فيها، وكان سويسريا في الثمانين من العمر: “جاءني هذا الأخير، ليطلب إثباتات عن كل النفقات، وتوقف عند خمسة سنتيمات، وطالبني في ماذا صُرفت”.
وعن طريقة عمل هذه الهيئة، يضيف: “داخل مكتب الجمعية، يستمر الجدل ساعات وساعات حول أدق التفاصيل. وعندما أتوجه في مهمة إلى الأراضي المحتلة في فلسطين، أذهب ببرنامج واضح ومسطّر ومتفق عليه”.
هذا الأمر يختلف جدا عن العقلية الشرقية كما يقول ناجي: “حيث يكون الشأن كله بيد الرئيس. بعد 45 سنة من الإقامة في سويسرا، أصبح لدينا عادات وتقاليد هذا البلد، وأصبح العمل مع العرب، بالنسبة لي، أمر لا أطيقه”. يقول ذلك متأسفا ويشدد: “نحن نفتخر بعروبتنا وبشرقيتنا، ونحن موجودون من قبل المسيح هناك في أرض كنعان”.
ورغم أن علاقات هذه العائلة محدودة بالجالية العربية هنا في سويسرا، فإن علاقاتها بمحيطها السويسري قوية ومتينة، وقد ساعدها ذلك على الوصول إلى حشد دعم أزيد من 300 متبرع سويسري ملتزمون بتقديم الدعم والمساعدة دوريا. وترجع السيدة جميلة عواد سر هذا النجاح إلى التواصل مع السكان المحليين: “تعرفنا على شخصيات سويسرية مهمة اشتغلت من قبل في الشرق الأوسط في مجاليْ الأعمال والدبلوماسية. وتواصلنا مع كتاب ووزراء في حكومات كانتونية. ما كسبناه من علاقات بني بتدرج ولكن بثبات”.
ثم من عوامل النجاح التي لا يخفيها القائمون على هذه الهيئة الخيرية الدعم الذي يلقاه هذا العمل من الكنائس والهيئات المسيحية في مدينة فريبورغ المعروفة تاريخيا بطابعها الكاثوليكي، فضلا عن أن هذه العائلة الفلسطينية تنحدر من بيت ساحور، وهي مدينة يحج إليها الكثير من السويسريين المسيحيين كل سنة، مما يزيد في معرفتهم بالواقع الميداني هناك.
احترام تقاليد الضيافة
مقابل الدعم الذي يجده هذا الجهد الخيري من طرف السويسريين المحليين، تشتكي هذه العائلة الفلسطينية من عدم تعاون أبناء الجالية العربية، فقد رفضوا بحسب جميلة عواد في البداية الإنضمام إلى الجمعية، ورفضت البعثة الفلسطينية الرسمية في العاصمة برن التعاون معهم، فضلا عن الصورة السلبية التي تتداولها وسائل الإعلام عن العنصر العربي في سويسرا.
وبالنسبة لهذا الثنائي، فإن إصلاح هذا الوضع يمر عبر احترام المهاجر العربي لأصول الضيافة، ومن ذلك احترام قانون وتقاليد المجتمع السويسري، ويضربان على ذلك مثالين: الأوّل، يقول ناجي عواد: “بنيت العام الماضي أوّل كنيسة في قطر، فلم يوضع عليها لا صليب ولا جرس، ولم يعترض أحد على ذلك، وحدث ذلك من خلال حوار هادئ بين روما ودولة قطر”.
وهنا في سويسرا، يضيف عواد: “إذا لم تكن تعرف كنيسة الروم الأرثودوكس بجنيف مسبقا، تمر بجانبها ولا تشعر بأنها كنيسة، ولا تميّزها عن أي بناية أخرى، وبعد حوار استمر خمس سنوات مع حكومة جنيف، أضفيت عليها هندسة الكنيسة، ولكن بالتصميم الذي أرادته الحكومة المحلية!”.
إنه نضج التجربة التي تمتد لأربعة عقود ونيف، وفقه الواقع الذي صقلته تجربة الحياة اليومية والعمل الميداني المتواصل، وتقدم سنوات العمر التي تزيد الرؤية نضجا وتضفي عليها مسحة أكيدة من العقلانية والواقعية والفهم.
عبد الحفيظ العبدلي – فريبورغ – swissinfo.ch
نشأت جمعية “مساعدة بيت ساحور”، لاحقا “مساعدة بيت ساحور- فلسطين” رسميا سنة 1990، بمدينة فريبورغ السويسرية بمبادرة من ناجي وجميلة عواد من اجل تقديم المساعدة المادية والطبية لسكان بيت ساحور.
عمليا تتوزع المساعدات على النحو التالي:
مركز بيت ساحور الطبي: الذي تاسس في عام 1989، والذي يوظف أزيد من 100 عاملا ، والمعتمد لدى وزارة الصحة التابعة للسلطة الفلسطينية، ويقدم خدماته لجميع المحتاجين للعلاج من بيت ساحور على الخليل، من دون أي تمييز بسبب الجنس او الدين، وبأسعار منخفضة جدا بالمقارنة مع المرافق الطبية الأخرى في المنطقة، بل ومجانية بالنسبة للمحتاجين والفقراء.
رعاية الطلبة بالمدارس بالنسبة لابناء العائلات الفقيرة، وتصل المساعدات مباشرة إلى غدارة المدارس المعنية من دون أن تمر بأولياء الأطفال، ويتعلق الامر هنا بالمدارس المسيحية، وقوائم المستفيدين تحددها إدارات تلك المدارس.
المشاريع المؤقتة: ومن ذلك مشروع عام 2010، وهو المتعلق بمنظمة الكشافة ببيت ساحورن نظرا للدور الحيوي والمساعدة الكبيرة التي يقدمها شباب هذه المنظمة للمجتمع الأهلي الفلسطيني وللإعمال الطوعية القيمة لصالح الفئات الإجتماعية الضعيفة او أصحاب الاحتياجات الخاصة .
تقع بيت ساحور بالضفة الغربية على بعد بضعة كيلومترات جنوب مدينة القدس، وشرق بيت لحم.
بحسب التقاليد المسيحية، في بيت ساحور بشّر احد الملائكة راعي الأغنام بمولد المسيح.
يقطن مدينة بين ساحور وضواحيها حوالي 17.000 ساكن اغلبهم من المسيحيين. وهي آخر مدينة فلسطينية تقطنها غالبية مسيحية.
من أهم الموارد الاقتصادية لهذه المنطقة السياحة والصناعات التقليدية خاصة من الخشب والصدف. أوضاع المعيشة في المنطقة حاليا صعبة للغاية بسبب الإحتلال، والحواجز والجدار العازل، وصعوبة التنقل من منطقة إلى أخرى.
رغم ذلك تظل نسبة التمدرس في المنطقة مرتفعة جدا، وتوجد بها العديد من المنظمات والجمعيات الاهلية التي تعتني برعاية الأطفال والشباب، وأيضا بالعجزة وأصحاب الإحتياجات الخاصة، والعديد منها ايضا تعمل من اجل الحفاظ على البيئة والتقريب بين الأديان والمجموعات المختلفة.
عبر العقود المتتالية للإحتلال، عرف سكان بيت ساحور بمقاومتهم السلمية للإحتلال الإسرائيلي . في عام 1989 مثلا، رفض السكان المحليون دفع الضرائب لإدارة الإحتلال، مما عرّض المنطقة لحصار شديد، وأدى إلى تأسيس العديد من المنظمات الساعية إلى تقديم العون للمواطنين.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.