مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

منية بناني الشرايبي: “وظيفة الباحث فـهـمُ الوقائع لا تغييرها”

swissinfo.ch

مفارقات هذا العالم كثيرة لا تُـعد ولا تُـحصى.. ومن ذلك مثلا، أن الحصول على فرصة للتّـدريس في إحدى الجامعات العربية، يتطلّـب سجلاّ عدليا "نظيفا" وموافقة وزارات الداخلية هناك، وأما في العالم الغربي، فيكفي اجتياز مناظرة شفافة والخضوع لتقييم عِـلمي صارم.

وليس في هذا أي تحامل على الحقيقة، فمُنية بنّاني الشرايبي، المغربية المهاجرة في فرنسا والتي تشتغل أستاذة جامعية في سويسرا منذ فترة طويلة، حازت على وظيفتها بعد مباراة دولية مفتوحة سنة 1999.

ولا تخفي هذه الباحثة المغربية سعادتها بالعمل في جامعة لوزان، من ناحية، لقُـربها من فرنسا حيث درست ولا تزال تربطها بالعديد من مؤسساتها مشروعات بحثية متعدّدة، ومن ناحية أخرى، لما يبديه الطلبة السويسريون من “رغبة في التعرف عن الآخر، لا يُـعيقهم عن ذلك الاختلاف الثقافي أو التنوع الحضاري”.

وهذا الانفتاح، بحسب الباحثة، يعود إلى عدم ارتباط سويسرا بتاريخ استعماري مع العالم العربي، وشعور السويسريين بانتمائهم إلى بلد صغير، يدفعهم إلى البحث عن تجارب أخرى في بلدان، كالمغرب ومصر وسوريا.. والتنوع اللغوي والعِـرقي والدِّيني الذي تزخَـر به بلادهم، يجعلهم أكثر انفتاحا، وإن تغيّـر المشهد شيئا ما في السنوات الأخيرة”.

وعندما تسأل السيدة مُنية بنّاني عن سبب مغادرتها المغرب وحرمان بلدها من خِـبرتها، تجيبك بضحكة ساخرة: “أنا لم أكره العمل في بلادي، ولكن هل هناك فُـرص للعمل في تلك البلدان أصلا، لا تستطيع بلداننا توظيف كل الخرّيجين من جامعاتها أو من جامعات أخرى، وهذا ليس في مجال العلوم الاجتماعية أو الأدبية فقط، بل في الفيزياء أيضا.. طبيعة الدولة في بلداننا تجعلها تحتاج إلى صِـنف معيّـن من التقنيين”! ولعلها تشير بذلك إلى جيوش من الإداريين وأصحاب المهمّـات الخاصة.

“المثقف مواطن كالآخرين”

ولكن تقصير الدولة تُـجاه نُـخب المجتمع، هل يبرِّر تخلـّيهم عن واجبهم تُـجاه أوطانهم؟ هذا الواجب الذي كتب حوله وألّف فيه المفكر الإيطالي غرامشي، لا معنى له بالنسبة للأستاذة البناني “لأن المثقّـف مواطن كالآخرين، والمثقفين الذين يعتقدون بأن لهم أدوارا سياسية استثنائية، لابد أن يؤدّوها، يخطئون، فلا هم نجحوا في أن يكونوا باحثين وعلماء حقا، ولا كانوا سياسيين ناجحين”.

ومن وحي تجربتها البحثية التي كرست لها حياتها، تعتقد السيدة منية البناني أن على الباحث العالِـم المحافظة على مسافة كافية بينه وبين الظاهرة التي يدرسها وأن لا ينصّب نفسه مرشِـدا أو واعظا، وعليه أن ينصت بتواضع للجميع، مهما اختلفت انتماءاتهم السياسية أو العقائدية، وهي تعتقِـد جازمة: “أن الدور الذي أسند للمثقف في العالم الثالث بعد الاستعمار، قد تجاوزه الزمن”.

لكن هذه الصرامة العلمية، وهذا الالتزام الأكاديمي لا يمنع الباحثة من القيام بأدوار اجتماعية، وقالت في تصريح لسويس انفو: “أحاول من خلال عملي في سويسرا تشكيل رؤية مختلفة لدى طلبتي حول قضايا العالم العربي والإسلامي، واجتهد في وضع برامج تعليمية متوازنة، وفي إيجاد مِـنح دراسية لطلبة من بلدان مختلفة للدراسة في الجامعات الأوروبية، ومن خلال ذلك كله، أشعر بأنني لم أنسى من حيث أتَـيت”.

وتطغى على نبرة خطابها مسحة من التواضع، اكتسبتها من التمرس بالبحث العلمي، لأن الباحث بالنسبة إليها: “يتّـسم بالتواضع ويكتفي بالعمل الميداني وتحليل المعطيات ومحاولة فهم الواقع، في حين يدّعي المثقف أنه قادِر على الفهم والتغيير في نفس الوقت”.

موضوعية الباحث العِـلمي

انخراط الأستاذة الشرايبي في العديد من المؤسسات البحثية المتقدمة ورغبتها في الوصول إلى حقائق الظواهر دون ميل أو تحريف جعلها تنآى بنفسها عن الانخراط أو التموقع ضمن قطبية أو انتماء بعينه، وربما هذا أيضا ما سمح لها يتنويع مجالات اهتمامها، فدرست قضايا الشباب وتحوّلات المجتمعات العربية، وحاولت فهم بِـنية الحركات الاجتماعية وآليات تفكيرها، وهي اليوم تُـتابع البحث في مسارات وتجارب فاعلين سياسيين، ينتمون إلى عائلات فِـكرية مختلفة، وتقود بحثا حول “ديناميات الإسلام في سويسرا”.

وللأستاذة مُنية بنّاني رؤية منهجية مخالفة للرؤية الاستشراقية، التي تكرّس الفوارق بين المناهج بحسب المجتمعات، وترد على ذلك بقولها: “أنا ضدّ هذه الرؤية، وأدعو إلى استعمال نفس الآليات المنهجية في دراسة المجتمعات العربية أو المجتمع الفرنسي أو الأمريكي”.

وتهدف هذه المنهجية إلى “إخضاع مجتمعاتنا، برغم أنها غير ديمقراطية، إلى آليات البحث المعتمّـدة في العلوم السياسية والاجتماعية، ولا أكتفي بتوظيف مناهِـج علمية جاهزة، بل أسعى إلى فتح آفاق جديدة في مجال هذه العلوم، أغفلتها التجربة العلمية حتى اليوم”، والأمر بالنسبة إليها، يتجاوز مقولات التقليد والاستعارة إلى مستوى الحوار والتبادل بين العلماء والمختصين، فلا يمكن بعدها اختصار قضايا العالم الإسلامي في ظاهرة الإرهاب أو العنف، وحِـراكه الاجتماعي في الحركات الدِّينية ومدارسها المختلفة.

أطروحات جريئة

هذه الصّرامة العِـلمية، وهذه الحيادية تجاه الموضوعات المطروحة للتقصي والنظر تجعل الباحثة ترفض تفسير ظاهرة العُـنف السياسي الموجودة في المنطقة اليوم، بالعامل الدّيني حصريا، وتدعو إلى فهمها وتحليلها، كما تحلّـل أي ظاهرة اجتماعية نتجت ضِـمن صيرورة اجتماعية، وعلى عالِـم الاجتماع، تقول السيدة بنّاني، أن يتساءل “كيف تطوّرت أشكال العمل النِّـضالي من الإضراب إلى الاعتصام إلى رمي الحجارة، لكي تصل اليوم إلى العمليات الجهادية”، وهذه الصيرورة ما كان من السهل إدراكها لو لم تنظر الباحثة إلى الأوضاع في صورتها الماكروسكوبية العامة.

والظاهرة سياسية، أي ظاهرة، محكومة بمتغيِّـرات جهوية إقليمية، وأخرى محلية داخلية، ولذلك، العنف مثلا في فلسطين يختلف في معناه ودلالته عن العنف في الشيشان أو في العراق أو الأحداث التي شهِـدتها أمريكا في سبتمبر 2001، وكل ظاهرة لها سِـياقها الدّولي والاجتماعي الخاص، وهي تدعو كذلك إلى فهم ظاهرة العنف بارتباطها مع عنف الدولة، وتقول: “لا ننسى أن الدولة في شمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، لم تنبثق من إرادة مواطنيها ولا تستند في استمراريتها إلى شرعية انتخابية، بل إلى دعم خارجي، سياسي واقتصادي”.

وترفض القول بأن هناك إجْـماع على رفض العنف في العالم اليوم، فدراساتها الميدانية في المغرب مثلا، أثبتت دعم ومساندة الشباب “للعمليات الاستشهادية” في فلسطين، وأكدت فئة من الشباب استعدادها للتضحية بالنفس لو مرّوا بنفس الظروف التي يمرّ بها الفلسطينيون اليوم”، بل وأكثر من ذلك تقول السيدة بنّاني: “بعض الطلبة السويسريين الذين زاروا الأراضي الفلسطينية المحتلة، أعربوا عند عودتهم عن تفهّـمهم للعنف الذي يصدر عن الفلسطينيين”.

ولكن هل الحركات الإسلامية في جوهرها مسؤولة عن ظاهرة العُـنف؟ تنفي السيدة بنّاني ذلك، وتقول: “الإخوان المسلمون في عهد حسن البنّـا، كانوا حركة سِـلمية تربوية، وعملهم كان اجتماعيا أساسا، ولكن التشدّد ظهر مع بداية التضييق عليهم وممارسة التعذيب في السجون، أي أنهم لم يلجؤوا إلى العنف، إلا من بعد ما عرفوا عنف الدولة وغلقت أمامهم كل أبواب العمل الشرعي، والدولة نفسها كانت ترغب في أن يكون لها إرهابيين، حتى تشرّع عنفها ضد المجتمع، وكان بالإمكان الحوار معهم وإشراكهم في العملية الديمقراطية”.

واليوم، “الظاهرة مرتبطة بعوامل كثيرة ومعقّـدة، منها فشل اتفاقيات أوسلو والتواجد الأمريكي في العراق وسيادة نظام القُـطب الواحد، الذي يريد أن يُـهيمن على العالم بعملية قيْـصَـرية وعنيفة”.

“الحركات الإسلامية جزء من المجتمع المدني”

هذه القراءة السوسيولوجية المتأنية للمجتمعات العربية الحديثة، جعلت الأستاذة مُنية بناني الشرايبي ترفض عن وعي وإصرار، واستنادا إلى مناهج دراسية متطورة تقسيم الحركات السياسية في المجتمعات العربية إلى حركات مدنية وحركات دِينية، وبالنسبة إليها “الحركات الدّينية جزء من المجتمع المدني”. وتؤكِّـد الباحثة أن خِـبرتها جعلتها تُـدرك أن الكثير من القواسم والمطالب مشتركة بين مختلف التشكيلات السياسية، على الأقل في المغرب، “وقد يكون من الإسلاميين المغاربة مَـن هم أقرب إلى اليسار من أشقائهم الإسلاميين في الجزائر مثلا، لأن الحركات السياسية في المغرب تشكّـلت في نفس الإطار المخزني، وهي مُـنغرسة في بيئتها وتتأقلم معها”.

والأمر نفسه يمكِـن قوله عن الحركات الإسلامية التي تقول عنها بنّاني “إنها ليست سوى حركات سياسية تستخدِم الرمزية الإسلامية، لكن توظيف هذه الرمزية يختلِـف من جماعة إلى أخرى، ومنها “الراديكالية” ومنها “المعتدلة”، وفي هذه الحالات، الإسلام ليس سوى لغة يعبِّـر من داخلها فاعلين اجتماعيين عن مطالب مختلفة”.

وتعتقد الباحثة أن الحركات الإسلامية المعتدلة اليوم، تلعب دورا إيجابيا، ولو أنها تُـعيد إنتاج القِـيم المحافظة، وبحسب قراءتها “إعادة اختراع التقليد، يُـمهّد لهضم التحوّلات المتسارعة ويجد فيه المجتمع آليات دفاعية”، وبالتالي، لم يبقَ مِـعيار “التقدمية والرجعية” ثابتا عما كان عليه من قبل، و”من الإسلاميين اليوم، من هو “تقدّمي” أكثر من بعض اليساريين في الجانب السياسي”، وتعتقد الأستاذة الجامعية “أن التحوّلات العميقة التي عاشتها وتعيشها المجتمعات العربية في العقود الأخيرة، قد ذهبت بكل أسُـس ومبررات الاستقطاب الثنائي، الذي حكم نظرتنا إلى المجتمع”.

وتختتم محاورتنا بدعوة الباحثين والدارسين لأوضاع المجتمعات العربية إلى التسلح بالعلم والمعرفة والمناهج الدقيقة، وتجنب الخلط بين متطلبات البحث ومقتضيات التغيير الإجتماعي.

سويس انفو – عبد الحفيظ العبدلي – لوزان

ولدت منية بناني الشرايبي، الأستاذة المشاركة بمعهد الدراسات السياسية والعلاقات الدولية التابع لجامعة لوزان سنة 1965 بالدار البيضاء، بالمملكة المغربية، وهي متزوجة ولها ابنان. حصلت على الدكتوراه في العلوم السياسية بالمعهد العالي للعلوم السياسية بباريس، وعلى الإجازة في مجال تاريخ اللغة والحضارة العربية بجامعة السربون.

وترأس السيدة البناني اليوم اللجنة البيداغوجية في مجال العلوم السياسية بجامعة لوزان، ونائبة رئيس القسم المشترك بين عدة كليات في مجال تاريخ وعلوم الأديان بجامعة لوزان، وترأست كذلك بين 2002 و2004 برنامج الدراسات العليا حول العالمين العربي والإسلامي المعاصرين في جامعة لوزان وجامعة جنيف وبمعهد دراسات التنمية بجنيف أيضا.

أصدرت العديد من الدراسات خاصة حول قضايا الشباب في البلدان العربية، وحول الحركات الإحتجاجية وأيضا حول الحياة السياسية في المغرب والعمليات الانتخابية. وهي تشرف اليوم على العديد من البحوث العلمية مثل “بحث حول “ظاهرة تنظّم الإسلام في سويسرا”في إطار برنامج PNR 58، وبحث حول “العمل الجماعي على المستوى المحلي بالمغرب”، وبحث آخر حول “الحركات المناضلة في المغرب”، بالإضافة إلى انتهائها من انجاز دراسة حول “المراهقين في المغرب والأحداث الدولية”.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية