حيرة منظمات المجتمع المدنـي
اتخذت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان قرارا بمقاطعة دورة تدريبية خاصة بالنساء المغاربيات، نظمت مؤخرا في تونس من طرف جهات أمريكية.
ويكشف القرار عن وجود تباين في المواقف والرؤى بين منظمات المجتمع المدني في بلدان المنطقة حول أسلوب التعاطي مع مبادرات الجهات الأمريكية الرسمية وغير الحكومية.
اتخذت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان قرارا بمقاطعة دورة تدريبية خاصة بالنساء المغاربيات، نظمت فيما بين 19 و 22 جويلية بتونس العاصمة. ويعود سبب المقاطعة إلى أن الدورة نظمها “المعهد الجمهوري الدولي” (IRI) بالتعاون مع مكتب “مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية” المعروفة اختصارا باسم MEPI التابع لوزارة الخارجية الأمريكية والمكلف بنشر الديمقراطية في العالم العربي والشرق الأوسط.
وقد خصصت الدورة لتدريب تسعة وستين (69) ناشطة، ينتمين إلى تخصصات مختلفة إعلامية وحقوقية ونقابية، على فن القيادة في المناصب العامة وخوض الانتخابات.
وقد نفى جورج فوريول، نائب رئيس المعهد الجمهوري الدولي (والمسؤول عن التخطيط الإستراتيجي والتقييم فيه) وجود أية صلة عضوية بين المنظمة والحزب الجمهوري الأمريكي، مؤكدا على أن المعهد “غير منحاز لأي طرف من أطراف السياسية الأمريكية، وأن مجلس إدارته يضم مستقلين إلى جانب أعضاء في الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي ومسؤولين سابقين بالإدارة الأمريكية”، غير أن السيدة إيلان فابري، مسؤولة الدورة ذكرت بأن الورشة تندرج ضمن البرامج المقررة في إطار “مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية” التي افتتح مكتبها الإقليمي قبل ثلاث أشهر في تونس.
متغيرات سياسية وتسهيلات لوجيستية
في واقع الأمر، لم تكن واشنطن تعطي أهمية كبرى للشأن السياسي في المغرب العربي، حيث اكتفت بتوفير وبناء علاقات تاريخية وثيقة، خاصة مع النظامين المغربي والتونسي، مبدية نوعا من الموافقة على اعتبار هذه المنطقة مندرجة ضمن الفضاء الحيوي الاستراتيجي الفرنسي.
هذه الرؤية انتهت عمليا مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وبالأخص بعد التغيير الواسع الذي طرأ على السياسة الخارجية الأمريكية على إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وكانت بداية توجيه الاهتمام نحو المغرب العربي قد انطلقت عمليا مع إدارة الرئيس كلنتون، التي طرحت على حكومات المنطقة مشروع شراكة أمريكية مغاربية، وهو المشروع المعرف باسم صاحبه “إيزنستات”.
لكن مفهوم “الشراكة” سرعان ما توسع ليقع إدراج “المغرب العربي” مؤخرا ضمن ما سمي بالشرق الأوسط الكبير. لكن هذا الإدماج الاصطلاحي والجغراسياسي لم يغير من استمرار واشنطن في تطوير علاقاتها الثنائية مع كل نظام على حدة.
فالرئيس بوش أطلق على المغرب صفة “الحليف الاستراتيجي” من خارج الحلف الأطلسي، كما وصف النظام التونسي بكونه “نظاما صديقا”. وفتح البيت الأبيض أبوابه لاستقبال الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مرتين في فترة وجيزة، وذلك من أجل دعم الحضور الأمريكي الاقتصادي وربما العسكري في قلب المغرب العربي. كما قلبت هذه الإدارة جزء من المعادلة عندما قررت أن تحول القذافي من عدو مرشح للشطب والإسقاط إلى حليف محتمل. وتوج هذا الرهان باختيار العاصمة التونسية مقرا للمكتب الإقليمي للشراكة المعروف باسم “MEPI”.
هذه المتغيرات النوعية التي طرأت على التوجه الأمريكي الرسمي نحو المغرب العربي، لفتت اهتمام المنظمات غير الحكومية الأمريكية، التي شرعت بدورها في تسجيل حضورها بهذه المنطقة التي تبدو مرشحة لأدوار هامة، بعد حالة الإعياء والتفكك التي أصابت المشرق العربي.
وفي هذا السياق تعددت الزيارات التي قامت بها وفود تمثل كبرى هذه المنظمات، مثل “NED ” و”NDA” و “IRI “. وتشترك هذه المنظمات في أهدافها التي تتمحور حول “دعم التحولات الديمقراطية” من خلال “تشجيع المجتمعات المدنية المحلية” و “تنمية قدرات المنظمات غير الحكومية المحلية على الصعيدين اللوجستيكي والعملي”. ولهذا تعمل أغلب هذه المنظمات حاليا على افتتاح مكاتب لها في دول المنطقة.
فبعد التسهيلات التي تلقتها كل من “IRI” و “NDA” في المغرب الأقصى، وربما في الجزائر، فإنهما بصدد إجراء اتصالات بالجهات الرسمية التونسية لتمكينها من فتح مكتب لكل منهما في تونس. ولعل ذلك هو الذي يفسر تجنب هذه المنظمات الاقتراب من الملفات التي قد تبدو حساسة وقد تولد ردود فعل سلبية من قبيل التفكير في إجراء “دورة تدريبية لمراقبة الانتخابات الرئاسية والتشريعية” التي ستنظم في تونس يوم 24 أكتوبر القادم.
مقاربات متباينة
المشكل العويص الذي تواجهه هذه المنظمات الأمريكية يتعلق بمدى قدرتها على كسب ثقة المجتمع المدني المحلي، خاصة منظماته المستقلة والمدافعة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويعود ذلك إلى أن السياسات الراهنة للإدارة الأمريكية تجاه المنطقة العربية تتناقض في الكثير من جوانبها مع المبادئ المعلنة في الخطاب الرسمي.
وهو ما يفسر حالة الحرج الشديد الذي تشعر به المنظمات غير الحكومية الأمريكية، بما في ذلك تلك التي تعتبر محسوبة على الحزب الجمهوري الحاكم في البيت الأبيض. لذلك تجد هذه المنظمات نفسها مدعوة إلى بذل جهود كبيرة لتأكيد “استقلاليتها وحيادها السياسي”، بل إن بعض كوادرها لا يتردد في الإقرار بخطأ سياسات إدارة الرئيس بوش، خاصة فيما يتعلق بالعراق وفلسطين وملف حقوق الإنسان.
في المقابل، يبدو أن المنظمات غير الحكومية والأحزاب المغاربية متفاوتة في نظرتها لمسألة التعاون والتنسيق مع المنظمات والمؤسسات الأمريكية غير الحكومية. وقد تجلى هذا التباين في الدورة التدريبية الأخيرة للنساء المغاربيات.
فبينما قدمت بعض الجمعيات كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان الاعتبارات السياسية لتبرير مقاطعتها لأشغال الدورة، تعاملت الأطراف المغربية المشاركة بطريقة براغماتية، وقدمت الجدوى على هوية المنظمين للدورة. فقد كان من بين المشاركات على سبيل المثال المسؤولة على ركن المرأة في صحيفة “الاتحاد الاشتراكي”، وعضو بلدية منتمية لحزب “التقدم والاشتراكية” (الحزب الشيوعي سابقا) والتي ذهب في ظن البعض أنها جاءت إلى تونس ممثلة لحزب العدالة والتنمية (نظرا لأنها كانت متحجبة)، كما شاركت مسؤولة بالاتحاد الديمقراطي (وهو ثالث حزب سياسي في المغرب).
تساؤل “تونسي”..
كذلك لم تر عضوات “التجمع الدستوري الديمقراطي” الحاكم في تونس والجمعيات المرتبطة به أي حرج في المشاركة، وقد أكد بعضهن خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد بعد الاختتام على أن الدورة كانت مفيدة بالنسبة لهن.
نفس الموقف اتخذته بعض المشاركات التونسيات غير التجمعيات والمعروفات باستقلاليتهن. كما لفت الأنظار مشاركة “المعهد العربي لحقوق الإنسان” (مقره تونس) الذي يتمتع بمصداقية عالية، وكذلك منظمة “كوثر” وهي منظمة دولية غير حكومية أنشئت عام 1993.
لا شك في أن هذه الدورة الإقليمية التي خصصت للنساء المغاربيات في مجال فن القيادة، ليست سوى فاتحة لنشاطات ومبادرات ستتكثف خلال الفترة القادمة، والتي ستقوم بها منظمات أمريكية عديدة.
ولم يكن صدفة أن تفتتح هذه الدورة بحضور السيدة “ألينا رومانوفسكي” نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومديرة برنامج “الشراكة الأمريكية–الشرق أوسطية ” (MEPI)، وهو البرنامج الذي قام بتمويل هذه الدورة، والذي يستعد لتنظيم تظاهرات عديدة خلال الأشهر القادمة في تونس والمنطقة العربية عموما.
والسؤال الذي يطرحه البعض: هل ستستمر مقاطعة بعض المنظمات المستقلة التونسية لمثل هذه النشاطات تاركة المجال لأنصار الحزب الحاكم، أم أنها قد تتخلى عن أسلوب ” الكرسي الشاغر ” وتستبدله بمنهج المشاركة النقدية؟
صلاح الدين الجورشي – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.