حُـكـم مع تـأجـيـل التنفيذ
اجتاز رئيس الحكومة اليمنية عبد القادر باجمال امتحانا عسيرا أمام مجلس النواب، عندما تجنّـب سحب الثقة من حكومته بطريقة فاجأت مختلف المراقبين.
بيد أن نجاح باجمال في الإختبار البرلماني لم يضع حدا للتكهنات بسقوط الوزارة اليمنية في وقت لاحق في ظل تزايد الحديث عن الفساد.
إن الطريقة التي جنّـبت رئيس الوزراء اليمني سحب الثقة من حكومته لم تُـنه الإشكال الذي كان سببا لطلب عدد من النواب، بينهم أعضاء في المؤتمر الشعبي العام “الحاكم”، سحب الثقة من حكومته. كما أنها لن تَـحُـول دون تغيير حكومي مرتقب، باتت تفرضه معطيات الواقع ومتطلباته.
وكان رئيس الوزراء اليمني عبد القادر باجمال استُـدعي يوم الأربعاء 15 سبتمبر الماضي للمثول أمام مجلس النواب، بعد المطالبة بسحب الثقة من حكومته، لكنه فاجأ الجميع عندما أعلن انصياعه لمطالب السلطة التشريعية وألغِـي بقرار (قال إنه صدر في 25 يوليو 2004 ) ما طالب به مجلس النواب في وقت سابق من فسخ اتفاقية البيع لقطاع نفطي، مُـنهيا بذلك ما اعتبر أزمة بين حكومته وبين المجلس النيابي على خلفية خلاف بين السلطة التشريعية والحكومة، يعود إلى ثمانية أشهر خلت، حول بيع الحكومة اليمنية لنسبة 60% من حصة الشركة اليمنية “تحت التأسيس” في القطاع النفطي رقم “53” في منطقة “سار” بمحافظة حضرموت، في عملية اعتبرها المجلس النيابي غير قانونية ومُـجحفة بحق الجانب اليمني لصالح شركتي “باسفيك” و”الترا” المستفيدتين من هذه العملية.
وتطور الخلاف بين مجلس النواب والحكومة اليمنية بعد أن تجاهل رئيس الحكومة مطالبة المجلس النيابي بإلغاء تلك الصفقة، وأهمل توصياته المتعلقة بمحاسبة المسؤولين الضالعين فيها، إذ بلغ ذلك الخلاف ذروته عندما اتهم باجمال أعضاء المجلس بعدم الفهم والدراية في المسائل التي تدخل في صميم اختصاصات حكومته.
وكاد أن يمر استدعاء حكومة باجمال من قبل 110 نواب من أعضاء السلطة التشريعية (البالغ عددهم 301 عضو)، دون اهتمام يُـذكر من قبل المحللين والمتابعين للشؤون اليمنية، لولا أن من بين المطالبين بسحب الثقة والمتحمسين لهذا المطلب، أعضاء بارزون في المؤتمر الشعبي العام “الحاكم”، الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة باجمال من ناحية، ولولا الظرفية الراهنة، التي كثر فيها الحديث عن تغييرات مرتقبة، قد تطيح برئيس الحكومة الحالي.
انتقادات الرئيس و.. البنك الدولي
ويذهب مراقبون إلى أن طلب سحب الثقة من حكومة عبد القادر باجمال أتى في ظرفية كثُـر فيها اللغط عن تفشي الفساد المالي والإداري، وظهرت مؤشرات تدل على أن ثمة إرادة سياسية عُـليا تروم وضع حد لبعض الممارسات السلبية، لما عُـرف من اختلالات وتجاوزات مالية وإدارية تزايد الحديث عنها، خاصة خلال المحنة العصيبة التي مرت بها البلاد بسبب الأحداث الدامية التي شهدتها محافظة صعدة مؤخرا.
فقد انتقد الرئيس اليمني علي عبد الله صالح علانية بعض التجاوزات الخطيرة للوزارات، بل وذهب إلى أبعد من ذلك بتذكيره ببعض الممارسات الخاطئة، والعبث بالمال العام من قبل بعض المسؤولين، وطالبهم بأن يحكموا ضمائرهم في مراعاة المصلحة الوطنية، مشيرا إلى أنه على علم مُـسبق ببعض التجاوزات، لكنه ترك الأمر، اصطبارا منه، على أولئك الذين يقومون بمثل تلك الأعمال، علّـهم يقومون بمراجعة سلوكياتهم تلك، ويعدلون عنها.
وبالتزامن مع انتقادات الرئيس اليمني تلك، عبّـر البنك الدولي بدوره، ومن خلال بعثته في صنعاء، عن عدم رضاه عن سير الإصلاحات الإدارية مؤكّـدا أن سياسة البنك المقبلة ستقوم على تقليص سقف الدعم المقدم لليمن، نتيجة لبُـطء الحكومة في توظيف المخصصات المالية المرصودة للبلاد في المشاريع المجدولة زمنيا، وهو ما يَـعيه جيّـدا رئيس الوزراء، وجاء ذكره خلال مُـثوله أمام المجلس النيابي مخاطبا ممثلي الأمة “.. تعلمون أننا نواجه مشكلات كبيرة، وتحدثتم كثيرا عن قضايا الإصلاح الاقتصادي والمالي والخدمة المدنية وغيرها، وليست هذه مطالب وطنية داخلية..”.
الفساد: قضية رئيسية
كل تلك المؤشرات والإرهاصات بدت كافية لحمل المتابعين للشأن اليمني على الاعتقاد، إما بدُنو نهاية حكومة باجمال، التي لم يمض على تشكيلها سوى أقل من عام ونصف، والتي كثر اللغط حول تزايد الفساد المالي والإداري منذ تشكلها في مايو 2003، وذلك على عكس الوعود المنتظرة منها والتي وردت في برنامجها، حيث جاء حافلا بالوعود بالقضاء على الفساد ومحاربته ومكافحته، إلى درجة دفعت المحللين حينها أن يصفوا تلك الحكومة، بـ “حكومة القضاء على الفساد”، نظرا لتمحور الجزء الأكبر من برنامجها حول هذه الآفة، وتقديم الوعود باجتثاثها واستئصالها، حسبما ورد فيه.
وتُـعتبر قضية استشراء الفساد من القضايا التي تفرض نفسها بإلحاح كبير على مختلف الفاعلين في الساحة اليمنية. ففي ظل حرية الصحافة، أصبح من المألوف، خاصة في صحف المعارضة، طرح ملف الفساد والتعرض لقضايا تندرج ضمن هذا المفهوم، وبطريقة جعلت منه المعارضة اليمنية القضية الرئيسية تسعى من خلالها إلى سحب البساط من تحت السلطة، واستثماره في تدعيم مواقفها وسط الرأي العام الذي يكون أكثر استثارة واستمالة، لاسيما عندما يتعلق الأمر بملامسة قضايا لصيقة بحياته ومعاشه اليومي، وفي ظروف عرفت تنامي البطالة وانتشار الفقر بشكل كبير، حيث يستحوذ الـ 20% الأغنى من السكان على ما نسبته 56% من الدخل القومي، فيما لا يحصل الـ 20% الأكثر فقرا سوى على 6% من الدخل القومي، وفقا لآخر الإحصائيات.
والتركيز على قضايا الفساد من قبل أحزاب وصحافة المعارضة وما يتداوله الرأي العام بهذا الشأن، بات من وجهة نظر المراقبين مقلقا للسلطات العامة ومثيرا للشارع اليمني، وأصبحت القضايا التي تندرج ضمن ما يُـصطلح على نعته بالفساد في اليمن، الشغل الشاغل لمختلف الأوساط اليمنية في المعارضة والسلطة والشارع على حد سواء.
شـد وجـذب
وفي خضم كل هذه الإرهاصات، لم يستغرب المراقبون والمحللون، مطالبة أعضاء في المؤتمر الشعبي العام “بسحب الثقة من حكومة يرأسها أحد أعضائه، وإنما اعتبروها بمثابة مؤشر قوي على مدى التذمر وسط النواب من سوء تسيير الحكومة الحالية للشأن العام، واتهامها بالضلوع في قضايا فساد، وتبديد المال العام، والتفريط بثروة البلاد على النحو الذي جرى في عملية تفويت القطاع النفطي رقم (53)، دون اتباع للمساطر والإجراءات القانونية والإدارية المتعارف عليها، حيث يتعين أن تجتاز الاتفاقيات المتعلقة بقطاع النفط، وإحداث وإلغاء المرافق العمومية من قبل المجلس التشريعي، فضلا عن أن عملية تفويت القطاع العام للغير، تخضع لمقتضيات قانون الخصخصة الذي يُـشدد على التقييم المسبق لمؤسسات وملكيات القطاع العام، ويقضي بتوافر عنصري للشفافية وترجيح المنفعة المنتظرة من أي عملية من هذا القبيل، وهو ما لم يراع في العملية الآنفة الذكر.
وعلى ضوء تلك الخلفية، يرى المراقبون أن قضية الحكومة اليمنية الحالية التي يرأسها عبد القادر عبد الرحمن باجمال لم تنته بانصياعه لمطلب السلطة التشريعية، القاضي بإلغاء الصفقة بدون تحمل الجانب اليمني لأي التزامات مالية، حسب اشتراط المجلس النيابي، لأن القول الفصل في ذلك متروك للشركتين المعنيتين اللتين بدأتا بالضغط على الحكومة اليمنية، والتلويح باللجوء إلى القضاء، مطالبتان بالتعويض بمبالغ كبيرة قد تصل إلى ملايين الدولارات جراء فسخ عقد البيع من قبل الجانب اليمني، مما يعني أن الأزمة مرشحة للظهور من جديد، وحتما مع عودتها، سيعود الشد والجذب بين الحكومة وبين مجلس النواب. وبالتالي، عودة للمطالبة بسحب الثقة.
ويمكن القول أن الخلاصة التي وصل إليها المراقبون في صنعاء، هي أنه إذا ما أخذت في الحسبان كل تلك المؤشرات والإرهاصات التي تبشر بتغيير حكومي مرتقب، فإن حكومة عبد القادر باجمال ذاهبة لا محالة، وأن اجتيازها لمطالبة سحب الثقة هذه المرة في بادرة، هي الأولى من نوعها، اشترك فيها نواب المعارضة والحكومة على حد سواء، ليس لها من دلالة، سوى أن ثمة موجبات للتغيير، ولم يكن اجتياز رئيس الحكومة لهذا الأمر سوى اجتياز مؤقت ليس إلا.
عبد الكريم سلام – صنعاء
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.