خـطّ أحـمـر مـزدوج
جاءت زيارة الرئيس التركي احمد نجدت سيزر زيارته الرسمية الأولى الى سوريا تتويجا لتقارب بدأ بين البلدين عام 1999 وتسارعت خطواته مع وصول حزب «العدالة والتنمية» الى السلطة في نوفمبر 2002.
ومع أن أصواتا في واشنطن اتهمت سيزر بـ “العناد وتشجيع الدكتاتوريات”، إلا أن إتمام الزيارة كان أكثر من “ضرورة وطنية” بالنسبة لأنقرة.
في الأساس، لا يتمتع رئيس الجمهورية في تركيا بصلاحيات حاسمة في رسم وتنفيذ سياسات الدولة، سواء على الصعيد الداخلي أو السياسة الخارجية، إذ أن السلطة التنفيذية ورسم السياسات العامة منوطة بالحكومة.
وخلال معظم الزيارات التي يقوم بها رئيس الجمهورية التركية إلى الخارج، نادراً ما يلتقي وسائل الإعلام أو يسهب في الحديث عن مواقف أساسية، وهذا ينطبق بصورة نموذجية على الرئيس الحالي أحمد نجدت سيزير، المقلّ في الكلام، وفي السعي لتبوء موقع مهم في السياسة الخارجية.
مع ذلك، كان الإعلان، المقرر منذ مدة، عن زيارة يقوم بها إلى دمشق، مدعاة لتستنفر الولايات المتحدة كل أجهزتها وأدواتها في الإدارة والإعلام، فضلاً عن “امتدادات” أنقرة، لتُـشكِّـل جوّاً ضاغطاً يُثني سيزير عن القيام بزيارته السورية.
علاقات ثنائية مهمة
لم يأخذ الأمر وقتاً طويلاً ليبلغ سيزير “من يعنيه الأمر” أنه ذاهب حتماً إلى دمشق. ومع أن الحملات الأمريكية توالت على لسان أكبر مسؤوليها، متّهمة الرئيس التركي بالعناد وتشجيع الدكتاتوريات، إلا أن المضي في الزيارة كان أكثر من “ضرورة وطنية” تركية.
أولاً لأن إلغاءها كان سيؤذِي مكانة تركيا في المنطقة والعالم كدولة كبيرة لها دور فاعل ومؤثر وحيوي في السياسات الإقليمية والدولية، وهي التي اشتهرت بـ “حساسيتها الوطنية” حتى تجاه الأمريكيين وفي أكثر من مناسبة.
ومضت تركيا، وليس سيزير وحده، في إتمام الزيارة، لأن المرحلة التي وصلت إليها العلاقات التركية ـ السورية أكبر وأعمق وأهم من أن تؤثر فيها رغبات أمريكية مشبوهة ومكشوفة الغايات.
سنوات ضوئية
انطبعت العلاقات بين أنقرة ودمشق، حتى قبل سنوات قليلة، بتوتر وحساسيات وشكوك واسعة: بدءاً من مسألة ضم “الاسكندرون” إلى تركيا عام 1939، مروراً بالخلاف حول مياه الفرات، وصولاً إلى قضية حزب العمال الكردستاني.
ومنذ توقيع اتفاق “أضنة” عام 1998 وحتى اليوم، يمكن قياس التحسن في العلاقات الثنائية، مقارنة بعقود من التوتر، بسنوات ضوئية. وخرجت حتّى المشكلات الأساسية الثلاث: الكردية، والمياه، والحدود من أن تكون معطّلة لتطور العلاقات، ما يمكن اعتباره انجازاً تاريخياً لتركيا أولاً، ثم خطوة متقدمة لتحصين سوريا موقعها الإقليمي في ظل الخطر الإسرائيلي والضغوط الأمريكية بعد احتلال العراق، والآن تحريك “الجبهة اللبنانية”، ثانياً.
ويضاف بالطبع إلى كل ذلك الهاجس المشترك لأنقرة ودمشق من تطورات الوضع بعد العراق في ضوء ظهور النزعات المذهبية والكردية، وتقدم الأكراد نحو استقلال يبدو جاهزا للإعلان في كل لحظة تقتضيها المصالح الأمريكية.
لقد وصلت العلاقات التركية ـ السورية إلى مستوى العلاقات ما بين دولة ودولة، وخارج طبيعة السلطة القائمة في أي منهما. فحجر الأساس في “أضنه” وضعه العسكر ثم أكمله العلماني المتشدد سيزير بمشاركته تشييع الرئيس الراحل حافظ الأسد، وكل ذلك قبل وصول “إسلاميي” حزب العدالة والتنمية إلى السلطة الذين منحوا العلاقات الثنائية بلا شك زخماً استثنائياً.
“الخط الأحمر”
تُـدرك أنقرة بكل اتجاهات نظامها، أن للولايات المتحدة مطالب حول توسيع مهام استخدام قاعدة اينجيرليك أولاً، ومن ثمّ تحسين العلاقات مع إسرائيل. وتركيا في الواقع، ليست منغلقة على هذه المطالب، فهي تقود الآن مفاوضات تكاد تنتهي بالنجاح حول اينجيرليك، ويُـتوقع أن يزور اردوغان إسرائيل في مطلع شهر مايو القادم، فضلاً عن أن حكومته بدأت تمدّ خيوط تعاون مع السلطة الجديدة في العراق، وفي مقدمها جلال الطالباني.
لكن أي تنازل تركي على صعيد العلاقات مع سوريا، كائناً من كان هناك في السلطة، سيُعتبر انتكاسة قاسية لا يستطيع ولا يريد أحد في أنقرة أن يبادر إليها.
إن العلاقات الراهنة بين تركيا وسوريا، تقارب “الخط الأحمر”، ومهما غضبت إدارة بوش، فإن تركيا بكل خصائصها وميزاتها، الإستراتيجية والإيديولوجية (العلمانية ـ المسلمة)، تبقى بدورها وإلى مدى ليس بقصير، “خطاً أحمر” أيضاً لهذه الإدارة.
د. محمد نورالدين – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.