مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“خوف عظيم” في العراق؟

مع اقتراب موعد 30 يونيو، تزداد المخاوف من احتمالات المستقبل في العراق Keystone

هل اقتربت لحظة "الانفجار العظيم" في العراق؟ الكثيرون في الشرق الأوسط يتخوّفون من ذلك، رغم أنهم يتوقعونه.

فمع اقتراب موعد نقل السلطة “الشكلي” إلى العراقيين وانتهاء الاحتلال الأمريكي “الأكثر شكلية” للعراق في 30 يونيو المقبل، يتأرجح الوضع العراقي بين خيارين لا توازن قوى بينهما على الاطلاق.

يتمثل الخيار الأول، وهو الأضعف، في تشكيل حكومة إنتقالية جديدة (على الأرجح برئاسة الشيعي مهدي الحافظ، على أن يكون السنّي عدنان الباجه جي رئيسا للجمهورية، ومسعود البرزاني أو جلال الطالباني وزيرا سياديا).

مثل هذه الحكومة، التي ستحظى برعاية الأمم المتحدة وأوروبا وبعض الدول الإقليمية، تعلّـق عليها كبير الآمال بـأن تتمكّـن من نقل بلاد ما بين الرافدين من جهنم الحرب والانقسامات، إلى جنة السلام والوحدة الوطنية. لكن هذه الآمال الكبيرة لها حظوظ صغيرة من النجاح. لماذا؟ لأسباب عدة.

فليس مؤكدا على الإطلاق أن الأمريكيين سيمنحونها الكثير من حرية الحركة السيادية، خاصة فيما يتعلق بموعد استعادة العراق لسيادته، وهي لن تمتلك القوات العسكرية التي تمكنّها (كأي دولة أخرى) من احتكار ممارسة العنف في بلد بات يعجّ بكل أصناف الأسلحة وكل أنواع أمراء الحرب القبليين والطائفيين والمذهبيين، وهذا الوضع سيجعلها معتمدة في وجودها برمّـته على قوات الاحتلال.

ثم إن هذه الحكومة، التي يفترض أن تكون تكنوقراطية، لن تشبع رغبات الأطراف السياسية العديدة التي أنبثقت في عراق ما بعد صدام حسين، والتي تكرس الآن الاستقطابات الحادة بين الليبراليين والدينيين، والملكيين والقاسميين (أنصار الجنرال عبد الكريم قاسم)، والعروبيين والإسلاميين، والطائفيين والقبليين والعلمانيين.. الخ.

ففي العراق الآن 14 رابطة اتحادية قبلية، وعشرات المؤسسات المستندة إلى الطائفة (أهمها مؤسستا علي السيستاني ومقتدى الصدر)، و140 منظمة من كل ألوان الطيف السياسي، و170 صحيفة تتوزع فيما بينها توجهات الرأي العام العراقي.

وهذا التنوّع كان يمكن أن يكون صحيا وديمقراطيا، لو تواجد قطب وطني توحيدي كبير، يشكل نقطة جذب مركزية لكل أطياف قوس قزح العراقي.

3 “عراقات”؟؟

كل هذه العوامل تجعل الخيار الأول ضعيفا وهشا وعُـرضة لشتى المخاطر، وتفتح الأبواب على مصراعيها أمام الخيار الثاني: الحروب الأهلية وتقسيم العراق إلى ثلاثة عراقات، أو حتى تفتيته إلى أفغانستانات عدة.

ما زال الأمريكيون يطرحون مسألة التقسيم همسا، وهم يصرحون علنا (كما فعل السفير ديفيد ماك في ندوة عقدت مؤخرا في الكويت) بأنه ما زال في وسعهم الاختيار بين أربعة بدائل:

1- تقسيم العراق، وهو برأيه، أمر غير محتمل إلى حد بعيد حتى الآن. لكنه إذا ما حدث، سيكون كارثة على المصالح الأمريكية. فهو سيخلق اللاإستقرار في كل المنطقة، وسيتسبب بعذابات مخيفة للعراقيين. كما أنه سيجعل العراق بؤرة التوالد الرئيسة للإرهاب.

2- الحرب الاهلية. من سوء الحظ هذا الاحتمال محتمل جدا، وهو خيار يتساوى في سوئه مع الخيار الأول.


3- بروز حكومة عراقية ضعيفة. هذا الخيار قد يخلق اللاإستقرار وتباطؤ إعادة البناء الاقتصادي، ويجعل الطبقة الوسطى العلمانية، بما في ذلك العديد من العرب الشيعة المتعلمين، من كبار الخاسرين. لكنه يمكن أن يكون بديلا مُتحملا.

4- نجاح الرؤية الأمريكية بعد تطويرها. هذا ما يزال ممكنا، لكن مع كثير من الحظ.

يجدر التذكير هنا بأن ديفيد ماك كان في الأصل من كبار نقاد الغزو الأمريكي للعراق، وهذا ما قد يوحي بأن حملته على إدارة بوش ربما تتضمن قليلا من التشفي وكثيرا من التحامل.

لكن الصورة لا تكون على هذا النحو، حين نستمع إلى وجهة نظر مناقضة لباتريك كلاوسن الذي يأتي من مؤسسة الشرق الأوسط لشؤون الشرق الأدنى الوثيقة الصلة بالمحافظين الجدد الأمريكيين.

فكلاوسن يعترف بدوره أن الوضع في العراق وصل إلى مرحلة الخطر، وأن تأثيراته قد تتمدد قريبا إلى سائر أنحاء الخليج والشرق الأوسط الكبير.

كلاوسن يتحدث هنا أساسا عن الحرب الأهلية. لكن هذه الحرب، في حال اندلاعها، ستؤدي حتما إلى طرح مسألة التقسيم كأمر واقع، أو كمخرج وحيد من حمامات الدم.

فهل هذا ما يريده، أو يخطط له المحافظون الجدد الأمريكيون للخلاص من ورطتهم الكبرى في العراق، التي تهدد الآن بطردهم من البيت الأبيض وإجهاض مشروعهم الإمبراطوري الكوني؟

هذا ما حذّر منه قبل أيام كارل بيلت، رئيس الوزراء السويدي السابق والمبعوث الدولي الخاص في منطقة البلقان، حيث قال: “ثمة أصوات في الولايات المتحدة (المحافظون الجدد) وإسرائيل تداعب فكرة بلقنة العراق. إنهم يغامرون بإشعال نار قد تحرق الأخضر واليابس في الشرق الاوسط”. ويوافق العديد من المحللين العرب على هذه الخلاصة السلبية:

– ففي حال تقسيم العراق، ستنشب حروب مدمرة في مدن كبرى مثل بغداد وكركوك، وفي مناطق منابع النفط في الشمال والجنوب، وستتدفق شلالات الدم بدل إمدادات النفط لسنوات عدة في كركوك.

– وإذا ما قامت دولة كردية مستقلة، ستدخل تركيا وإيران وسوريا إلى المعمعة العراقية بقوة، إما لتصفية هذه الدولة أو لتصفية الدولة العراقية عبر تقاسم مناطقها الجغرافية.

– ولن يتوقف الأمر عند هذه الدول الإقليمية الثلاث، بل سيطال كل دول المنطقة التي ستبحث هي الأخرى عن مصالحها الخاصة في العراق.

بالطبع، تدرك الولايات المتحدة “الرسمية” هذه المخاطر. ففي ندوة عقدها مجلس العلاقات الخارجية، الذي يتمتع بنفوذ كبير على صناع القرار الأمريكيين، فاجأ مارتن أنديك الكثيرين، حين حذّر من أن دعوة الكاتب البارز ليسلي غيلب لتقسيم العراق إلى ثلاث دول شيعية وسنية وكردية، ستحّول العراق إلى بؤرة مرعبة لكل منظمات الإرهاب في العالم، وقد يُـطلق رصاصة الرحمة على النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط الكبير.

وحتى الآن، ما يزال موقف انديك الموقف الرسمي الأمريكي. لكن الأمور قد تتغير. وكما قلنا، المحافظون الجدد لن يترددوا في تغييره إنقاذا لرأس بوش ولرؤوسهم جميعا التي تتعرض قريبا إلى مقصلة المحاسبة الانتخابية.

الهوية الوطنية

ماذا في وسع العراقيين أن يفعلوا لمواجهة المخاطر التاريخية الخطيرة التي يتعرض لها وطنهم هذه الأيام؟ قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال، ينبغي التوقف أولا أمام التصريح المهم الذي أدلى به بول وولفوفيتز، المخطط الأبرز لغزو العراق، أمام الكونغرس الأمريكي مؤخرا، إذ قال “اعتقدنا أن العراقيين سيتسامحون أكثر مع فترة أطول من الاحتلال، لكن هذا لم يحدث”.

المقصود بـ “التسامح العراقي” في القاموس “الوولفوفيتزي”، كان توقع حدوث شلل طويل الأمد في مجتمع بلاد ما بين الرافدين بعد “الصدمة والرعب” اللذين سبّـبهما الغزو العسكري الأمريكي. والمقصود أيضا، تفتت هذا المجتمع إلى هويّـات فرعية عديدة تقاتل بعضها البعض بدل أن تصارع الاحتلال.

لكن هذا لم يحدث. الحرب الأهلية (حتى الآن على الأقل) لم تقع، و90% من العراقيين، بشيعتهم وسنييهم، وحتى بعض أكرادهم أعلنوا أنهم يعتبرون الأمريكيين محتلين لا محررين، ويطالبون بانسحابهم، كما أشار إستطلاع الرأي الاخير.

هذا التطور كان حدثا تاريخيا كبيرا. فهو أطلق الولادة غير المعلنة للهوية الوطنية العراقية، وإن بأشكال لا تزال بدائية أو أولية. لماذا بدائية؟ لأنها لا تزال في طور الاستجابة لتحدي الخارج الأجنبي، ولمّـا تدخل بعد في طور الاستجابة لمتطلبات الداخل الوطني، لا تزال رد فعل سلبي، ولم تتحّول بعد إلى فعل إيجابي، وهذا بالتحديد ما يجعل الآن مقتدى الصدر الشيعي المتطرف شيعيا، شعبيا في الفلوجة السنية، وهو ما يجعل مقاومي المثلث السني، أبطالا وطنيين في النجف وكربلاء.

بكلمات أوضح: الوطنية العراقية لم تخرج بعد عن كونها نبضا عاما أو تيارا كهربائيا خفيا يوحّد العراقيين بشتى مشاربهم ضد الاحتلال، لكنها لم تصبح مشروعا سياسيا – إيديولوجيا واضح المعالم. إنها أشبه بأمة تبحث عن دولة أو دولة تتلمس طريقها بصعوبة عبر حقل ألغام يلفه ظلام دامس.

لكن ثمة أملا بأن تدفع التهديدات الكبرى لوجود الوطن العراقي إلى التوحد في بوتقة هوية وطنية، كما توحدوا ضد الاحتلال. وبرغم أن هذا الأمل يبدو ضعيفا الآن، إلا أن بدائله الكارثية (الحرب الأهلية، والتقسيم)، قد تجعله بعد حين المنقـذ الوحيد من ضلال “الانفجار العظيم”.

سعد محيو – بيروت

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية