خيارات سويسرا الصعبة..
لا تجري السُّفن الأوروبية هذه الأيام بما تشتهيه الرياح السويسرية.. برُوكسل تُشَرق وبرن تُغرب.. الاتحاد يقودُ مركبه بقوانينه الخاصة، والكنفدرالية تريد الاستفادة من هذه القوانين من دون صعود المركب.
هذه هي صورة التوتر القائم حاليا بين سويسرا والاتحاد الأوروبي وعلى رأسه الجارة ألمانيا. لكن برن بدأت تتجند لتفادي أي تصعيد…
تلقـّت سويسرا في الآونة الأخيرة سلسلة من الصفعات الأوروبية والألمانية تحديدا. فمن دون سابق إنذار، أقدمت برلين مؤخرا على تعزيز المراقبة الجمركية على الحدود السويسرية.
هذا الإجراء -الذي خففته ألمانيا بعد ضغط سويسري- ذكّر أبناء الكنفدرالية فجأة بوُجود حدودٍ تناسوا وجودها رغم أنهم رسموها بأنفسهم عندما رفضوا الانضمام إلى المجال الاقتصادي الأوروبي والاتحاد الأوروبي.
ولم يكن هذا الحادث إلا آخر حلقة، وليست الأخيرة، من سلسلة المُفاجئات الأوروبية التي يخصصها الاتحاد هذه الأيام لسويسرا.
إملاءات ألمانيا وبروكسل
فمنذ فترة قصيرة، منعت ألمانيا المصارف السويسرية من توظيف عملاء على أراضيها، لأن برلين لا تريد بتاتا أن تقوم مؤسسة مصرفية من دولة غير عضو في الإتحاد بدراسة السوق الألمانية انطلاقا من الخارج. ويعني ذلك إجبار المصرفيين السويسريين على إدارة ثروات عملاءهم الألمان انطلاقا من الفروع المصرفية الأوروبية التي ستخضع قريبا لقوانين تبادل المعلومات في المجال الضريبي. ومن سيرفض هذه القوانين سيقُصى من السوق الأوروبية الكبيرة. وبذلك تلوي برلين ذراع برن التي “تُقدس” مبدأ السرية المصرفية المعمول به في الكنفدرالية.
كما تنوي برلين فرض عقوبات على المُزارعين السويسريين الذين يشترون أراضي ألمانية بأسعار مُنخفضة ثم يروجون بضائعهم في سويسرا دون دفع أية ضرائب. أما الاتحاد الأوروبي، فقد قرر فرض رسومات ضريبية على المنتجات المصنعة في أوروبا، والتي تستوردها سويسرا ثم تصدرها من جديد إلى دُول الاتحاد الأوروبي.
من جهة ثانية، أنذرت بروكسل برن بضرورة التصديق، وبسرعة، على اتفاقية جباية الضرائب على المُدخرات في دول الاتحاد وسويسرا دون المُطالبة بمُقابل على الفور. ويذكر أن هذا الاتفاق من أعقد الملفات التي يتفاوض بشأنها الجانبان في إطار رزمة الاتفاقيات الثنائية الثانية بينهما.
هذه من بين الأمثلة التي بدأت تُظهر لسويسرا أن لخيار العزلة ثمنا غاليا رُبما يزداد ارتفاعا مع ضم الاتحاد الأوروبي قريبا 10 دول من أوروبا الشرقية. فالاتحاد، وعلى رأسه ألمانيا، لا يرغبان بعدُ في التعامل مع سويسرا كما لو كانت على قدم المُساواة مع الدول الأعضاء في الاتحاد، بل يعتزمان على ما يبدو التعامل معها كـ”طرف ثالث”.
انتهى عهد الدلال..
لقد قررت سويسرا بمحض إرادتها أن تبقى خارج المؤسسات الأوروبية. ولا تغفل وزارة المالية الألمانية التّشديد على أن “سويسرا قررت بحرية البقاء بمعزل عن المجال الاقتصادي الأوروبي والاتحاد الأوروبي”.
وترى برُوكسل، أكثر من أي وقت مضى، أن برن لا يمكنها الاستفادة من مزايا الاتحاد دون القبول بسلبيات خيار الانعزال عن هذا الجهاز الأوروبي. ويضع المتحدث باسم وزارة الداخلية الألمانية الإصبع على الجرح حين يتساءل: “هل نسوا في سويسرا أن الحدود مع ألمانيا هي حدود مع مجال شينغن؟”.
نعم، لقد نسي السويسريون ذلك لأنهم اعتادوا على عبور الحدود وكأنها منعدمة أصلا. فالمُبادلات التجارية التي تعبر هذه الحدود كثيفة جدا، ولا غرابة في ذلك بما أن ألمانيا هي الشريك التجاري الأول لسويسرا في الاتحاد. لهذا السبب، استفادت سويسرا لمدة طويلة من معاملة تفاضلية. لكن برلين تقول اليوم إنه يتعين عليها تطبيق نفس إجراءات المراقبة على الحدود سواء مع سويسرا أو مع بولونيا على سبيل المثال.
ويحرص الاتحاد الأوروبي على التذكير بأن لاتفاقية “شينغن” قواعدها الخاصة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن برن وبروكسل يتوفران حاليا على نص خاص بجباية الضرائب على المدخرات. وتشترط سويسرا قبل التوقيع على هذا الاتفاق الحصول على تنازلات من الاتحاد الأوروبي بشأن اتفاقية “شينغن”. كما تشترط عدم المساس بمبدأ السرية المصرفية، والحصول على ضمانات حول بند من اتفاقية “شينغن”.
الحوار لتفادي الأسوأ
وفي محاولة لوقف مسلسل التوتر بين برن وبروكسل وبرلين، ناقشت الحكومة والبرلمان السويسريان يوم الأربعاء 17 مارس جملة من التدابير لتحسين علاقات الكنفدرالية مع جيرانها الأوروبيين واستئناف الحوار مع ألمانيا بشكل خاص.
الوزراء السويسريون برمجوا سلسلة من اللقاءات مع نظرائهم الألمان. ومن المقرر أن يقوم رئيس الكنفدرالية السويسري جوزيف دايس بزيارة إلى برلين في شهر أبريل على أبعد تقدير للقاء المستشار الألماني غرهارد شرودر بهدف تلطيف الجو بين البلدين.
أما لجنة السياسة الخارجية في البرلمان السويسري فأعربت عن أملها في إنشاء لجنة فرعية بهدف تحسين العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي على المدى البعيد. وترى اللجنة أن علاقات الكنفدرالية مع ألمانيا ومع عدد من دول الاتحاد الأوروبي ليست جيدة. كما شددت على ضرورة تكثيف الحوار مع الاتحاد من جهة، وإمكانية مناقشة التصرفات السويسرية في هذا الإطار بانتقاد من جهة أخرى.
وأوضح رئيس اللجنة إرفين جوتزيت أن مهمة اللجنة الفرعية –التي تنتظر موافقة مكتب البرلمان المكلف بإنشاء مثل هذه الأجهزة- “تكمن في إقامة الاتصالات واستعادة ثقافة الحوار في أسرع أجل مع ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والنمسا”.
ويقر السيد جوتزيت أن “العلاقات بين سويسرا وألمانيا شهدت توترا واضحا خلال الشهور القليلة الماضية”. أما توماس بورر السفير السويسري السابق في برلين فلم يتردد في القول: “إن علاقاتنا مع ألمانيا لم تكن بهذا السوء منذ ميلاد الجمهورية الفدرالية”.
من جهته، أكد البرلماني جيري مولر أن “إنشاء لجنة فرعية لن يسوي جميع المشاكل”، مضيفا أن “ذلك ليس هو الهدف”. في المقابل، قد تسمح المساعي السويسرية الجديدة لتفعيل الحوار بوقف تصعيد موجة المماحكات بين الجانبين. فهل ستتمكن برن من إقناع بروكسل بعدم إجبارها على دفع ثمن غال لعزلتها؟
إصلاح بخات – سويس انفو وصحيفة “الزمان”
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.