“خيار آخـر” في العراق
مرة ثانية، تقفز عبارة شهيرة لـ "ونستون تشرشل" إلى الواجهة.
فقد قال ذات مرة: “إن الأمريكيين يفعلون دائما الشيء الصحيح، بعد أن يكونوا قد جربوا كل الخيارات الأخرى”.. فهل يحدث هذا مجددا في العراق؟
ما يبدو حاليا هو أن الإدارة الأمريكية تتحرك في اتجاه جديد بالعراق، عبر إجراء اتصالات سرية مع قادة بعض الجماعات المسلحة، دون أن يوجد ما يشير إلى ما إذا كان ذلك هو “الشيء الصحيح” أم انه “مجرد خيار آخر.
لقد أدى تصاعد العنف المسلح بصورة غير مسبوقة في العراق خلال الفترة التي أعقبت تشكيل حكومة د. إبراهيم الجعفري، إلى ما يبدو أنه عملية إعادة تعريف جذرية للموقف، وليس مجرد إعادة تقييم له على النحو الذي أوضحته وقائع جلسة الاستماع التي جرت داخل لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي في نهاية الأسبوع الثالث من يونيو 2005.
إن الإدارة الأمريكية لم تتمكن من تقديم تقدير موقف محدد بشأن الوضع الأمني في العراق في مواجهة أصوات داخل الكونغرس، تطالب بمزيد من المكاشفة حول حقيقة وضع القوات الأمريكية، وشكوك حول ما إذا كانت لدى الإدارة فعليا رؤية سياسية لإدارة الحرب. فقد كان ما ذكره دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع حول المدى الزمني المعتاد لاستمرار حركات التمرد المسلح، والذي يتراوح بين 5 – 12 عاما، يعني أنه لا توجد لديه سوى نظرية.
كما اتضح أن هناك خلافات في تقدير ما يحدث بين المسؤولين الأمريكيين أنفسهم. فالتقييم الذي قدمه الجنرال “جون أبو زيد”، قائد القيادة المركزية أمام اللجنة، والذي أكد فيه أن عمليات التمرد المسلحة في العراق لم تضعف، لم يكن يتوافق مع تصريحات نائب الرئيس “ريتشارد تشيني” عما وصفه بتراجع العمليات المسلحة.
لكن الأهم هو أن رامسفيلد قد قدم تعريفا جديدا للموقف. فعلى الرغم من انه لا يزال يتحدث عن الانتصار في النهاية على المتمردين، إلا أن المُـلفت للانتباه أكثر هو قوله “أن من الخطأ القول بأننا بصدد خسارة المعركة ضد المسلحين”، فالمسألة حاليا لم تعد في حقيقة الأمر تحقيق النصر، وإنما تجنب الخسارة.
المغادرة
إن كلمة “الخسارة” قد مثلت المصطلح الأقل وطأة لمّـا كان عدد من أعضاء الكونغرس يفكرون فيه، وهو احتمالات ظهور سيناريو المستنقع الذي يطرح احتمالات الهزيمة، والذي أدّى إلى ضغط مباشر في اتجاه قيام الإدارة باللجوء إلى “الخيار الأخير”، وهو تحديد جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية من العراق.
ولم تثر تلك المسألة باعتبارها آلية سياسية لاحتواء التدهور الأمني على أساس أنها مطلب رئيسي للجماعات العراقية المناوئة للوجود الأمريكي، وإنما باعتبارها “إستراتيجية خروج” عسكرية لتجنب كارثة قادمة في العراق. فقد كانت التوصية هي المغادرة.
ولقد كرّرت الإدارة الأمريكية موقفها التقليدي تجاه تلك المسألة عبر التأكيد بأن تحديد جدول زمني للانسحاب سيكون “خطأً فادحا”، استنادا إلى فكرة أن ذلك سيطلق سياسيا رسائل خاطئة في اتجاه الشعب العراقي والجنود الأمريكيين و”عناصر التمرد” معا، أو أنه من الناحية العسكرية لا يزال غير ضروريا. وبالتالي، فإنه من وجهة نظر الإدارة لا يزال خيار الانسحاب من العراق في موعد زمني ما غير مطروح، إلا أن ذلك لم يكن نهاية المطاف بالنسبة لها، فهي، رغم ما يبدو ظاهريا، تُـدرك الكثير عن حقيقة الموقف.
تقديرات مختلفة
كانت الإدارة الأمريكية قد توصلت قبل تشكيل الحكومة العراقية مباشرة إلى تقديرين محددين:
الأول، هو أنه لم يعد لديها ما تقوم به عسكريا، بأكثر مما تقوم به بالفعل. فزيادة عدد القوات أصبحت متعذرة، بفعل “حدود الحجم” في القوات الأمريكية، ووصول العجز في نسب التطوع إلى 20% بالنسبة للجيش والحرس الوطني، مع عدم القدرة على دفع دول أخرى للمشاركة في القوات متعددة الجنسيات التي تتصدع أساسا، وبالتالي، أصبحت مهمتها الأساسية هي “نقل المهمة” إلى قوات الأمن العراقية مع إدراك أنها أيضا لن تكون قادرة على التعامل مع المشكلة في وقت قريب، وأكثر التقديرات تفاؤلا، وهي تقديرات الجعفري، تشير إلى عامين. فالإستراتيجية الحالية هي احتواء العنف، وليس إنهاؤه.
الثاني، هو أن الحل الأمني لم يعد ممكنا كأداة وحيدة أو حتى رئيسية. فمن الواضح أن المشكلة لن تحل إلا عبر عملية يتم من خلالها إدماج السُـنة العرب، الذين يُـدرك الجميع أنهم القوة المساندة للقطاع الأكبر من التنظيمات المسلحة في العملية السياسية، خاصة مع وجود تقديرات حول تدفّـق أعداد كبيرة من المقاتلين العرب عبر الحدود إلى العراق، وأنهم يكتسبون مجموعة جديدة من المهارات، بدءا من تجهيز السيارات الملغمة والاغتيالات إلى الهجمات المنسقة، بما قد يجعلهم أكثر خطورة من مقاتلي أفغانستان في الثمانينات، وبالتالي، فإن ثمة ضرورة لتجربة خيارات أخرى.
من خيار إلى آخر
كان أحد الخيارات الرئيسية في اتجاه الحل السياسي هو التفاهم مع السُـنة العرب، وقد جرت اتصالات مكثفة بين الجانبين، وتم السماح لمحاولات المصالحة الوطنية بالوصول إلى مدى بعيد، وصدرت تصريحات مباشرة لوزيرة الخارجية رايس بهذا الشأن، وبدا بالفعل قبل تشكيل الحكومة أن العنف يتقلّـص، إلا أن كل شيء قد انهار الآن.
فقد عادت عناصر شيعية متطرفة داخل حكومة الجعفري إلى الحديث مرة أخرى عن ضرورة اجتثاث البعث، بل أن تيارا قويا داخلها يدفع في اتجاه ما هو أخطر، وهو تسريح قطاعات كبيرة من قوات الشرطة والجيش التي كان إياد علاوي قد أعادها إلى الخدمة، وهو ما أدى إلى انفجار الموقف مرة أخرى بالصورة التي يشهدها العراق حاليا.
ومن هنا، تحركت الإدارة الأمريكية نحو البديل الأصعب بالنسبة لها، وهو إجراء اتصالات مع قيادات بعض الجماعات المسلحة في العراق، ويشير تقرير صحيفة صاندي تايمز البريطانية الذي نشر حول تلك المسألة إلى وجود مفاوضات “وجها لوجه” تهدف على ما يبدو إلى التوصل لنوع من “وقف إطلاق النار” في العراق، في إطار تستمع واشنطن فيه إلى مطالب تلك الجماعات، مقابل قيام الأخيرة بقطع كل علاقاتها مع تنظيم القاعدة في العراق.
ولقد نفت بعض تلك الجماعات حدوث اللقاءات، بما يعني أن المسألة ربما تصب في خانة الحرب النفسية ضدها، إذ أن كوادرها الميدانية سوف تشعر بأنها “تباع” من جانب قياداتها، لكن لأن تلك الجماعات أيضا لا تمثل كيانا مصمتا، وهي في النهاية أجنحة، فمن المتصور أن بعض قياداتها قد أقدمت على التفاوض بالفعل. فكما أن القوات الأمريكية تواجه مشكلة حادة في العراق، فإن بعض تلك التنظيمات قد واجه ضربات عنيفة أيضا في الفترة الأخيرة.
لكن بعيدا عن كل تلك الاحتمالات التي لن تنتهي، فإن مصادر عراقية ذات مصداقية قد أكّـدت أن مثل تلك الاتصالات قائمة، دون أن توضح بالضبط مع من تتم، لكنها صنفت جماعات العنف في العراق إلى جماعات إرهابية على غرار قاعدة الجهاد، ثم مقاتلي البعث وعشائر السُـنة العرب ثم جماعات الجريمة المنظمة، مشيرة إلى أن الاتصالات تتم مع الفئة الثانية، ليس فقط بهدف وقف القتال، وإنما أيضا لعزل القاعدة تمهيدا لتركيز النيران عليها.
عالم الواقع
إن الإدارة الأمريكية (وأطرافا كثيرة داخل وخارج العراق أيضا) تُـدرك، كما أكّـد رئيس الأركان الجنرال ريتشارد مايرز، “أن ترك العراق دون إتمام المهمة سيكون كارثيا”، لذا، فإن الانسحاب نهائيا من العراق لا يمثل خيارا حقيقيا بالنسبة لها في واقع الأمر، إلا كحل اضطراري أو سيناريو طوارئ أو ملاذ أخير، لذا، فإنها في واقع الأمر تجرب “خيارا آخر” أقل وطأة في ظل ضغط العمليات العسكرية والخسائر البشرية، والأهم انتباه الرأي العام الأمريكي بصورة غير مسبوقة لما جرى ويجري في العراق.
على أي حال، فإنه بعيدا عن أي تقييم مثالي. فإن المسألة كلها ليست أكثر من قصة تقليدية جرت مئات المرات خلال الصراعات المسلحة، وشهدت حالات مختلفة لها “مفاوضات” مع إرهابيين، وليس فقط “مسلحين”. فالغايات تُـبرر الوسائل في الصراعات ولا توجد مواقف مبدئية في السياسة.
وبالتالي، فإن التقييم الحقيقي لها يرتبط بما إذا كان من الممكن أن يتم التوصّـل من خلال تلك الاتصالات إلى شيء في ظل التعدد الهائل للجماعات المسلحة، ووجود ميول انتقامية وأفكار وقناعات دينية “لا تخضع للمساومات” على الساحة، وما إذا كان من الممكن تطبيق ما يتم التوصل إليه في ظل حنق السُـنة العرب أو تركيبة حكومة الجعفري، أو عنف “القاعدة” التي تُـدرك قياداتها ما سيحدث لها إذا تم التوصل لصفقة ما.
فهناك شك في إمكانية التوصل ببساطة إلى وقف إطلاق نار بالعراق في وقت قريب، لكن من يعلم، فربّـما تكون الأطراف المتصارعة قد أرهِـقت بدرجة أكبر مما يبدو ظاهريا للعيان.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.