نفض الغبار عن الجوهرة المنسيّة: الديمقراطية المباشرة
تزايد عدد المبادرات الشعبية التي يتعسّر تطبيقها، مثل مبادرة طرد الأجانب والمبادرة الخاصة بالمنزل الثاني وتلك الخاصة بالحدّ من الهجرة، وبات عدد من خبراء القانون الدستوري يحذّرون من إضعاف هذا الحق الدستوري المقدّس، ولذلك دعَـوا إلى إصلاح الوضع وقصر المبادرات على تقديم مقترحات مجملة، من غير تحديد ولا تفصيل.
يجب على سويسرا أن تحد من الهجرة باعتماد نظام الحِصص، المبني على أساس المصلحة الاقتصادية الكلية واحترام مبدإ الأفضلية الوطنية، هذا هو نص المادة الجديدة (121أ) التي تمّت إضافتها إلى الدستور الفدراليرابط خارجي مؤخّرا إثر نجاح المبادرة الشعبية “الحد من الهجرة الجماعية” في الاستفتاء الذي جرى يوم 9 فبراير 2014.
ومنذ ذلك الحين، والمناقشات محتدمة حول تطبيق المبادرة على أرض الواقع، فيما أبدت الأحزاب السياسية معارضتها الشديدة للمقترح الذي تقدّمت به الحكومة في فبراير 2015، والذي يحصر تطبيق نظام الحِصص على مواطني دول العالم الثالث، ويحرص على اتفاقية حرية تنقل الأشخاص رابط خارجيبأن اشترط لرعايا الاتحاد الأوروبي ودول رابطة التجارة الحرة الأوروبيةرابط خارجي، موافقة بروكسل التي ترفض حتى مجرّد الحديث في الموضوع، وفي المقابل، اعتبر حزب الشعب (يمين شعبوي) بأن المقترح مؤشّر واضح على كوْن الحكومة لا تريد النزول عند الإرادة الشعبية.
“لا أحد يعرف بالضبط ماذا يريد الـ 50٪ وزيادة، الذين صوّتوا بنعم”، وِفق قول أستريد ابينيي، أستاذة القانون الأوروبي والقانون الدولي والقانون العام في جامعة فريبورغرابط خارجي، وليس المطلوب من المُشرّع أن يُطبّق ما في نيّة الشعب، وإنما عليه أن يطبّق النص الدستوري، الذي تضمّنته المادة (121أ).
هل نصّت هذه المادة الدستورية صراحة على وجوب الحدّ من الهجرة بواسطة مبدإ الحِصص؟ “نعم”، تُجيب أستريد ابينيي، وتستطرد: “علاوة على ذلك، هي تنصّ على وجوب أخذ المصلحة الاقتصادية الكُلية لسويسرا بعيْن الاعتبار، ومن وجهة نظر قانونية بحْتة، يُمكن تفسير هذا النص الدستوري بشكل يتوافَق مع اتفاقية حرية تنقل الأشخاص، كأن يُقال إننا نريد تنظيم الهجرة، وليس بالضرورة أن يتم ذلك باستخدام المعنى الضيّق للتّحصيص”.
إذا كان حزب الشعب لا يرى إلْـزامية التقيّد بالمعنى الضيّق للنصّ، وفق قول أستريد ابينيي، فإن غيره من الأحزاب لديهم مفهوما آخر لهذا التوجّه، إذ أن: “البعض يرى بأن المبادرة لا تشمل سكان الحدود، على الرغم من أن النصّ يتضمّنهم، ويرى آخرون استبعاد اللاجئين من التطبيق، إلخ”، وكلها تفسيرات لها ما يبرِّرها.
وتقول أستريد ابينيي بأن أصحاب المبادرة لا يحتكرون تفسيرها، وأنه لابد من النظر إليها أيضا ضِمن سياق غيرها من النّصوص الدستورية والمصالِح العُليا، “وبما أن المادة (121أ) تتعارض تماما مع مواد دستورية أخرى، فلابد إذن من دراستها بعناية لمعرفة كيفية تطبيقها”.
مجموعة مبادرات عصيّة
بحسب آلان غريفل، أستاذ القانون الدستوري والإداري في جامعة زيورخرابط خارجي، ليست مبادرة الحد من الهجرة هي الوحيدة التي تثير مشاكل عند التطبيق. فمنذ إقرار هذا الحق الدستوري في عام 1891، تمّت الموافقة على 22 مبادرة شعبيةرابط خارجي، منها 10 مبادرات أُطلِقَت في السنوات الـ 13 الأخيرة، يتسبب العديد منها بإشكالات عند التطبيق: “لأنها تتضارب، بشكل أو بآخر، مع القانون الدولي أو لأنها صِيغت عَشوائيا ومن غير أصحاب الاختصاص”.
عند الموافقة على مبادرة شعبية، يتِم إدراجها نصا في الدستور الفدرالي، من دون أن يكون للبرلمان أو للحكومة حقّ في إجراء أيّ تغيير أو تعديل، ويقول غريفل عن نفسه: “أنا أحد المدافعين عن الديمقراطية المباشرة، ولكنّي أرى أن ما يحدث، إنما يُهدد بالقضاء على هذا الحقّ على المستوى الفدرالي، وهذا من شأنه أن يقود إلى تقييد حق المبادرة الشعبية”.
في السنوات الأخيرة، زادت المواد الدستورية ذات الإشكاليات، فزادت على إثر ذلك المناقشات بشأن إمكانية إصلاح المبادرة الشعبية، إما عن طريق زيادة عدد التوقيعات المطلوبة أو جعل معايير التمحيص المُسبق أكثر صرامة أو وضع أسباب جديدة للرفض.
اقتراح طواه النسيان
ثمّة اقتراح قلّ ما نوقش حتى الآن، على حدّ قول آلان غريفل، ويتمثّل في عدم السماح للمبادرة الشعبية، إلا إذا كانت مصاغة صياغة إجمالية، بمعنى أن تكون “مقترحا مُجملا”، ويصف آلان غريفل هذا النوع من المبادرة بأنه “الجوهرة المفقودة للديمقراطية المباشرة”، لأنها منذ زمان وهي طيّ النسيان على المستوى الفدرالي، ولغاية هذا الحين، بلغ عدد المبادرات حوالي 300 مبادرة، ليس منها سوى 11 مبادرة تُوصف بأنها “مقترح مجمل”، لم ينجح منها سوى 3 مبادرات في الوصول إلى صناديق الاقتراع، أما بقية المبادرات، فقد صيغت صياغة محدّدة على أنها نصّ دستوري، ولو أننا اشترطنا منذ البداية أن تكون المبادرات المقدّمة بصيغة مجملة: “لَما وجدنا أنفسنا في مشاكل جريرة تطبيق العديد من المبادرات الحالية”، وفق تأكيد رجل القانون في جامعة زيورخ.
“تدجين المبادرة الشعبية”
ومن جانبه، رفض المحلِّل السياسي أندريا غروس هذه الفكرة بشكل مُطلق، واعتبر بأنها: “ستفضي إلى نهاية الديمقراطية المباشرة”، وأوضح، بوصفه رئيس الكُتلة البرلمانية الاشتراكية في مجلس أوروبا، بأن مُقتضى تلك الفكرة أن تؤدّي إلى ترويض المبادرة الشعبية من قِبل البرلمان، وأنها: “ستكون فقط من مصلحة الأشخاص الذين يُراهنون على البرلمان، وهؤلاء ليسوا من المواطنين المسؤولين عن تقديم 98٪ من المبادرات على مدى 124 سنة”.
نوعان من المبادرات
يحق للمواطنين السويسريين الذين لديهم حق التصويت أن يتقدّموا بمبادرة يُطالبون من خلالها بتعديل الدستور الفدرالي، ويشرط لهذه المبادرة لكي تطرح على التصويت أن تتمكّن خلال 18 شهرا من جمع توقيعات 100 ألف مواطن ممّن لديهم الحق في التصويت.
يمكن صياغة المبادرة على وجه العموم، أي “مقترح مجمل”، وإلا كما في كل الحالات تقريبا، بصيغة نصِية مفصّلة، أي “مقترح تفصيلي” لا يمكن تغيير نصّه من قِبل الحكومة ولا البرلمان.
من مجموع 11 مبادرة شعبية صِيغت صياغة إجمالية، لم تصل إلى صناديق الاقتراع سوى 3 منها، تتعلّق إحداها بفرض ضريبة على للدفاع الوطني على شركات القطاع العام (في عام 1951، رُفضت)، أما الثانية فتتعلّق بمكافحة الإدمان على الكحول (عام 1966، رُفضت)، وتتعلّق الثالثة بإلغاء الامتيازات الضريبية للأثرياء (عام 2014، رُفضت).
(المصدر: المستشارية الفدرالية)
ويقرّر غريفل بأن بعض الناس قد ينخدِعون بمصطلح “مقترح مُجمل”، قائلا بأن: “مَن ليست عنده دراية بالقانون الدستوري، قد يتوهّم بأن هذا الأسلوب في المبادرات ضعيف الإلزام، وليس الأمر كذلك”.
ويستند الأستاذ غريفل إلى حُكم المحكمة الفدرالية في مايو الماضي بشأن مبادرة كانتون زيورخ حول حماية الأراضي الزراعية، والتي تمّ إيداعها على هيئة “مقترح مجمل” ووُوفِق عليها في الاستفتاء الشعبي في عام 2012، ثم حصَل أن قام أصحاب تلك المبادرة برفْع قضية إلى المحكمة الفدرالية، يعترِضون فيها على قرار المجلس التشريعي للكانتونات، القاضي بعدم الحاجة إلى التقيّد بالنصّ ما دامت الخطّة المعتمَدة من قِبل الكانتون تحقِّق أهداف المبادرة، فكان أن رفض قُضاة المحكمة الفدرالية بالإجماع هذا التفسير وألْزموا السلطة التشريعية في زيورخ بسَن تشريع خاص بتنفيذ جملة ما نصّت عليه المبادرة.
فقرار المحكمة الفدرالية إذن، كما يؤكّد غريفل، واضح في أن: “المبادرة تبقى مُلزمة حتى وإن صِيغت بصياغة مجملة، شأنها شأن الصيغة النصية”. فالمحصّلة واحدة، وإنما الفرق في ترك مجال للمناورة أمام هيئات ومؤسسات تنفيذ القرار.
فضلا عن ذلك، حسبما ألحظ غريفل، ليس كل المبادرات النصيّة يتِم تطبيقها بحذافيرها، وأصدق مِثال على ذلك، مبادرة جبال الألب ومبادرة المنزل الثاني، وإن من شأن ذلك أن يُسيء للديمقراطية المباشرة، لكن: “لو عملنا بالمبادرة بالصياغة المُجملة، لما تخلّفت تلك المشاكل أو الآثار السلبية التي نشاهدها اليوم”.
وتتّفق أستريد ابينيي، أستاذة القانون في جامعة فريبورغ، مع زميلها غريفل، أستاذ القانون في جامعة زيورخ، وتُوصي للحدّ من الأثار السلبية التي تنجُم عن العمل بمبدإ المبادرة الشعبية، بأن تكون المبادرات على المستوى الفدرالي ذات صياغة مجملة، وأن لا يُسمح بالمبادرة التي تمت صياغتها نصيا: “وهكذا، يمكن احترام المصالح العليا والحيلولة دون أن تجد مبادرات مصاغة صياغة سيئة طريقها إلى الدستور”، وفق قول ابينيي.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.