بلدية كلوتن.. حيث تُنسف حدود الديمقراطية
بإحصائه لأكثر من 31 مليون مسافر في عام 2018، يُعتبر مطار زيورخ ـ كلوتن بوابة سويسرا نحو العالم. أما على المستوى السياسي، فقد وجدت مدينة كلوتن، وهي أكبر مركز مروري عالمي في الكنفدرالية، طريق العودة نحو اللبنة الأساسية للديمقراطية المباشرة: وهي المؤتمر البلدي (أو لاندسغماينده). أما مفهومها عن هذا المؤتمر، فهو أمر يبدو جديرا بالاقتداء.
هذه المساهمة جزء من منصة #الديمقراطية المباشرة DearDemocracy# التي تخصّصها swissinfo.ch لطرح ومناقشة قضايا الديمقراطية المباشرة محليا ودوليا.
طائرة ركاب تحلق في هذا اليوم من أيام السبت الصيفية فوق ميدان المؤتمر ببلدية كلوتن التي يقع بها مطار زيورخ. بل إن هذا التحليق كان منخفضاً لدرجة تجعل المرء يتخيّل أنه سيتمكن من الإمساك بها. أما الميدان الذي يجتمع به حوالي سبعمائة شخص، فهو مرصوف بأحجار طبيعية، وتحيط به مبانٍ شاهقة تتطلع نحو السماء.
هنا ترتفع منصة، وهناك تجلس فرقة موسيقية محلية وتعزف مقطوعة من موسيقى الجاز المعروفة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي باسم “سوينغ”. بينما يبيع أحدهم الحلوى الإسبانية، ويبيع آخر فطائر “الكريب” الفرنسية. حضر بعض السكان رجالاً ونساءً مصطحبين كلابهم في أيديهم، بينما أمسك آخرون بأطفالهم ـ في جو أشبه ما يكون بالاحتفالات الشعبية.
ينعقد المؤتمر البلدي في بلدية كلوتن. ومع أنه ليس مؤتمراً سياسياً رسمياً، إلا أنه يتطابق تماما مع الفكرة الأساسية التي قامت عليها الديمقراطية المباشرة. فالهدف الرئيسي الذي يسعى إليه المنظمون يتلخص في فتح المجال أمام هؤلاء الأشخاص الذين لا يتم إدماجهم عادةً في سويسرا، كي يدلوا بآرائهم.
“ففي هذا المؤتمر البلدي يُسمح للجميع بالمشاركة”، على حد قول دانيال نويكوم، رئيس جمعية المؤتمر البلدي بكلوتنرابط خارجي. والمقصود بالجميع ليس فقط الناخبين والناخبات من أبناء سويسرا البالغين سن الثامنة عشر عاماً على الأقل، بل كذلك سكان المدينة رجالاً ونساءً، من جميع الجنسيات والأعمار.
المزيد
الشاب الذي بدا منتصرا في كلوتن
إنها في الواقع مناسبة ريفية
إن المؤتمر البلدي (أو لاندسغماينده)، وهو الصورة الأقدم للديمقراطية، يتهدده في سويسرا خطر الإنقراض (أنظر الإطار المعلوماتي بالأسفل). إلا أن بلدية كلوتن أقدمت على إحياء هذه الآلية الديمقراطية، في صيغة احتفال متنوع للمجتمع السويسري الذي يتميّز بالتعدد والعالمية.
لقد وضعت مدينة كلوتن التي تحتضن مطار زيورخ بصمتها الخاصة، حينما أحيت المؤتمر البلدي بصيغته الحديثة. فالإطار غير الرسمي يتيح الانضمام والمشاركة من بعض الفئات، التي لم تتمكن – لسبب أو لآخر – من الانضمام إلى عالم السياسة الرسمي، أو التي تم استبعادها منه أصلا.
ينطبق هذا في المقام الأول على النساء، ومحدودي الدخل، والشباب دون سن الثامنة عشرة، وكذلك الأجانب. فالفئتان الأخيرتان لا تتمتعان بأية حقوق سياسية داخل سويسرا.
تتناسب الديمقراطية المحلية مع بعض الصيغ الحديثة الخاصة بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي، أي أنها الأكثر ملاءمة لتحديث ممارسة الديمقراطية المباشرة. فعلى مستوى الكنفدرالية والكانتونات لا توجد إمكانية لتوسعة الحقوق السياسية كي تشمل الشباب دون الثامنة عشرة أو الأجانب.
تجدر الإشارة هنا إلى أن المؤتمر البلدي (لاندسغماينده) كان يُحتفى به قبل 150 عاماً في العديد من الكانتونات، إلا أنه يقتصر اليوم على اثنين من الكانتونات فقط: وهما أبنزل رودس الداخلية وغلاروس.
في الواقع، كان المؤتمر البلدي يُعتبر هناك ـ بل كذلك في نشأته الأصلية ـ مناسبة ريفية، وكانت تغمره حتى وقت قريب رائحة السماد المنبعثة من الحقول القريبة. وبعد الانتهاء من المؤتمر البلدي كان المواطنون يجلسون في الحانات القديمة حول المناضد الخشبية، ويدخنون السجائر اليدوية المتعرجة، ويتناولون الشراب، وفي زاوية ما يبدأ أحدهم في ترديد أغنية تقليدية بعفوية، بينما يقوم آخر بالعزف على الأورغ السويسري الذي يحمله على رجله.
أما في آبنزل، فتحيط بعض المنازل العتيقة والجميلة بالميدان الذي يلتقي فيه سكان الكانتون كي يقوموا باتخاذ قرارات سياسية بصورة علنية.
الرد على العولمة
في الفترة الأخيرة، أرست بلدية كلوتن مفهوماً جديداً للمؤتمر البلدي، حيث أصبح يُمثل الرد العملي على السؤال المطروح حول تطور المدن المتأثر بشدة بظاهرة العولمة.
في المؤتمر البلدي بصيغته غير الرسمية، قامت بلدية كلوتن كذلك بتوسعة مجال الحقوق السياسية. وبشكل خاص، أصبح الشبان والأجانب رجالاً ونساءً ـ أي الفئتان اللتان لا يحق لهما الاقتراع ولا الانتخاب ولا الترشح – محل ترحيب في المؤتمر البلدي. حيث يُعتبر التنوع العالمي هنا جزءً من الحياة اليومية، إذ ينتمي السكان إلى 120 جنسية مختلفة.
“فأغلبهم جاء إلى هنا للعمل. وهم يبقون هنا لعدة سنوات، ومن ثَمَّ يرتحلون مرة أخرى”، على حد قول دانيال نويكوم. أما أن ينشأ بهذه الصيغة للمؤتمر البلدي أساساً للشعور بالانتماء، فإنه أمر غاية في الصعوبة. حيث أن المؤتمر البلدي ما هو إلا محاولة لتقوية الترابط.
إذن فهذا المؤتمر البلدي لا يعتبر آلية حكومية رسمية. لكن لديه سلطة توزيع الأموال. وفي هذه المرة بلغت تلك الأموال 30000 فرنك، أي بزيادة عشرة آلاف فرنك عن الأعوام السابقة.
31 مليون مسافر، 19647 مقيم: إنها كلوتن مدينة المطار، الملاصقة لزيورخ (إحصاءات عام 2018).
من يحق لهم التصويت: حوالي 11000 نسمة.
نسبة الأجانب رجالاً ونساءً: 32،8% (في سويسرا بأسرها: حوالي 25%).
عدد العاملين: أكثر من 36500 شخص، منهم حوالي 30000 يعملون في المطار وحده.
وبخلاف الأموال المقدمة من مدينة كلوتن نفسها، تضاف كذلك قيمة الجائزة، وهي جائزة الديمقراطيةرابط خارجي المقدمة من الجمعية الهلفيتية الجديدةرابط خارجي. وقد منحت هذه الجمعية بلدية كلوتن تلك الجائزة في العام الماضي، بناءً على دور “مدينة الطائرات” – كما تلقب -في إعادة الروح لتقليد “المؤتمر البلدي” أو “لاندسغماينده”.
المُستبعدون حاضرون
يقوم المشاركون بالتصويت حول العديد من الأفكار. وبعض هؤلاء ما كان لهم أن يجدوا آذاناً صاغية داخل العملية السياسية التقليدية. وذلك بكل بساطة لأن جماعات المصالح المعنية تلك، لا تحظى بتمثيل سياسي. وعلى طاولة المقترحات، نجد هناك مثلاً دورة لتعلم اللغة الألمانية عن طريق اللعب، أو إقامة مهرجان شبابي. أما نادي تنس الطاولة فيطالب بتوفير المزيد من طاولات اللعبة في الأماكن العامة.
من ناحيته، ينادي الطالب سالفادور بإقامة المزيد من محطات استئجار الدراجات الهوائية المسماة بـ “فيلوفليك”، بحيث تصبح موزعة على المدينة بأكملها. كما طالبت إحدى الجماعات بتوسعة ملعب الأطفال لألعاب الاستكشاف.
“أمر شيّق”
لا يجري الاقتراع في هذا المؤتمر البلدي برفع الأيادي، كما هو الحال عادةً. بل يُمنح كل مشروع منطادا كبيرا، يجتمع تحته الداعمون له رجالاً ونساءً. وهكذا تتبلور أربع مشروعات فائزة وتصبح مرئية بوضوح للجميع. أما المشروع الذي يتحصل في نهاية المطاف على المبلغ الأساسي والذي يقدر بعشرة آلاف فرنك، فهو ما يُجرى بشأنه اقتراع كتابي.
وعلى إيقاع معزوفات الفرقة الموسيقية الكبيرة، قام أبناء بلدية كلوتن المجتمعين رجالاً ونساءً بالإدلاء بأصواتهم، ومن بينهم يان، ابن الرابعة عشرة، وهو أحد النشطاء الذين يعود إليهم الفضل في إقامة المهرجان الشبابي. “إنها المرة الأولى، التي أتصل فيها بالسياسة، إنه أمر شيّق”، على حد قول هذا الشاب المراهق.
في نهاية المطاف، تحصل مقترح المهرجان الشبابي على المركز الأول. وهكذا ذهبت العشرة آلاف فرنك إلى لجنة الطلاب المنظمة للمهرجان، والتابع لها ذاك الشاب.
لقد عايش هؤلاء الطلاب تجربتهم الأولى، وأدركوا أن كل صوت له قيمته في الديمقراطية المباشرة.
إنها واحدة من أقدم وأبسط آليات الديمقراطية المباشرة في سويسرا. حيث يجتمع كل من له حق الانتخاب والاقتراع من أبناء أحد الكانتونات مرة واحدة في العام، وفي الهواء الطلق، لانتخاب الحكومة المحلية (بكانتون آبنزل رودس الداخلية) وكذلك لوضع الدستور والقوانين أو لفرض رسوم ضريبية (بكانتوني آبنزل رودس الداخلية وغلاروس). وهم يفعلون ذلك برفع أيديهم أو برفع بطاقات حق الانتخاب الملونة.
وهذان الكانتونان هما آخر الكانتونات التي لا يزال يُمارس فيها تقليد “لاندسغماينده”.
يرى المنتقدون للمؤتمر البلدي أن هذه الآلية الديمقراطية لا توفر الحق الديمقراطي الأساسي المتمثل في سرية التصويت.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.