مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

تونس: انتخابات رئاسية زمن حكم الرجل الواحد… مجدّدًا  

Khalil Arbi

بينما تستعدّ تونس لتنظيم انتخابات رئاسية يوم 6 أكتوبر الجاري، تبدو البلاد كما لو أنها لم تغادر مربّع السؤال الرئيسي، وهو دور الشعب وسيادته، في ظلّ عودة النزعة الاستبدادية من حيث التصوّر والممارسات. ما يجعل إمكانية الاستفادة من التجارب المقارنة، كالنموذج السويسري، صعبة جدا بالنظر إلى عدم رسوخ الممارسة الديمقراطية أو استبطانها. 

تعدّ انتخابات 6 أكتوبر في تونس الأولى في ظلّ نظام البناء القاعدي، المشروع الذي يراهن عليه رئيس الجمهورية قيس سعيّد وأنصاره. وهو يدّعي اتّخاذه من استعادة إرادة الشعب وسيادته عنوانا له، وذلك عبر الاستفادة من مفاهيم وتجارب مقارنة، لعل أبرزها الديمقراطية المباشرة كالتي في سويسرا.  

غير أنّ ممارسات سعيّد الذي يجمع بيده كل السلطات منذ 25 جويلية 2021، تجعلنا نتساءل، من الناحية النظرية والعملية، عن حقيقة تمثيل الشعب، وعمّا إذا كانت الانتخابات تُمثل فعلا انعكاسا لتطلعات الشعب التونسي ورغباته. 

المزيد
أمل المكي

المزيد

أمل المكي: معركتي مع وزارة الداخلية التونسية وثمنُ الحقيقة

تم نشر هذا المحتوى على عندما حقّقت صحفيّتنا أمل المكي نصرًا قضائيًّا ضدّ وزارة الداخلية التونسية عام 2018، كانت متفائلة بشأن تعزيز النفاذ إلى المعلومة في بلدها. واليوم، بصفتها صحفية في سويس إنفو، تراقب المكي الوضع من سويسرا، وتدرك أن قرارًا قضائيًا واحدًا لا يصنع ربيع الصحافة.

طالع المزيدأمل المكي: معركتي مع وزارة الداخلية التونسية وثمنُ الحقيقة

​​​​​الديمقراطية المباشرة في مشروع البناء القاعدي 

أحد المفاهيم المركزية التي يروّج لها مشروع البناء القاعدي لسعيّد هو الديمقراطية المباشرة. تعود بدايات ظهور ما سُمّي بــ”خلايا التفكير” التي وضعت مشروع البناء القاعدي إلى الفترة الأولى لما بعد الثورة في تونس، أي بعد 14 يناير 2011. وقد جمع هذا التنظُّم ناشطين من خلفيات إيديولوجية متعددة (يسارية أساسا). وقد وجدت في أستاذ القانون قيس سعيد الشخصية المناسبة لتمثيله.  

لم يكن المشروع مكتملا من الناحية النظرية، حيث لم يُعثر على مدونة كافية تُغطي تفاصيله النظرية والعملية. حيث اقتصرت هذه المدوّنة على جملة من المقالات لأبرز الناشطين أو المداخلات الإعلامية. لذلك يمثل مسار تركيز المشروع منذ 25 جويلية، بصبغته غير التشاركية، أبرزَ المؤشرات على طبيعته النظرية وخياراته التطبيقية.  

وتمثّل الديمقراطية المباشرة أحد المفاهيم التي استند عليها المدافعون عن مشروع سعيّد، إلى جانب أفكار نقدية للديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية. يؤكد المشروع على ضرورة الاستفادة من جميع هذه المفاهيم والتجارب المقارنة لتركيز مشروع سياسي جديد، يعتبره مناصروه قادرا على تجاوز جميع هنات أنظمة الحكم ومؤسساتها لصالح تمثيل حقيقي لإرادة الشعب وسيادته. 

يمكن اختزال جوهر المشروع في “فلسفة” التصعيد من الأسفل إلى الأعلى، بما يقتضيه ذلك من تبنٍّ لإجراءات وأطر تشريعية مناسبة، ووضع مؤسسات وهياكل من المستوى المحلي إلى الوطني. 

ومن أهم الروافد النظرية لمشروع البناء القاعدي، برزت الشعبوية اليسارية كعمق ايديولوجي مُؤطّر. فقد تم استعادة التمييز بين النُّخب والشعب، الذي يعتبر كيانا وجوهرا مستقلا لا يحتاج إلى وسائط للتعبير عنه. ما يتطلب، حسب المشروع، تجاوز كل المنظمات الوسيطة القديمة من أحزاب ونقابات ومنظمات مهنية. 

المزيد
امرأة ترتفع لافتة كتب عليها أنقذوا ديمقراطيتنا

المزيد

تونس.. ديمقراطية عربية رائدة في طريقها إلى موت بطيء

تم نشر هذا المحتوى على في تونس، يقوم الرئيس قيس سعيّد حاليًّا بدفن كلَّ حقوق الشعب التي خِيض من أجلها صراعٌ مرير، بينما لم يبقَ سوى القليل من الجهود التي تبذلها سويسرا لدعم التحول الديمقراطي.

طالع المزيدتونس.. ديمقراطية عربية رائدة في طريقها إلى موت بطيء

بالمجمل، أدّى ذلك إلى تغيير مفهوم الديمقراطية المباشرة وآلياتها. فهي مفهوم قديم تم الحفاظ على فكرته العامة في المشروع (الشعب كفاعل يعبّر عن إرادته بنفسه)، مع وضع آلياته في سياقات نظرية وعملية خاصة به. 

يلاحظ هذا التغيير في المفاهيم مثلا فيما يتعلق بالحكم المجلسي. فهو لا يتشابه، من حيث المضمون والتطبيق، مع النموذج السويسري على سبيل المثال. ففكرة المجالس المتداولة في المشروع (في الحملات التفسيرية قبل وصول الرئيس قيس سعيد إلى السلطة)​​​​ بعيدة عن نموذج النظام السويسري الذي يتماشى مع شكل الدولة الفدرالي. فبينما تتمتّع الكانتونات السويسرية بالاستقلالية القانونية والسياسية، تعدّ وظائف المجالس وفق تصوّر سعيّد الشعبوي محدودة ضمن نظام الدولة الواحدة.  

ولا تنطلق فكرة المجالس من تصوّر حول مبدأ الفصل بين السلطات (مرن/صلب) لتنظيم السلطات السياسية داخل الدولة، بل تبدو ترجمة لفكرة المجالسية الماركسية، ودون مضمونها الطبقي، وذلك لصالح مضمون شعبوي لمفهوم السلطة. 

ويبلغ عدد أعضاء المجالس، من المحلي إلى الوطني، 2814 عضوا وعضوة في أربع مستويات. تتمثل اختصاصاتهم.نّ أساسا في بلورة المشاريع التنموية وتصعيدها إلى المجلس الوطني. 

من المؤشرات العملية أيضا على تغيير مفهوم الديمقراطية المباشرة، من مفهوم وإجراءات بيد الأفراد إلى أداة استشارية بيد السلطة، هو الاستشارة الإلكترونية لسنة 2022 التي أطلقها قيس سعيّد. فقد قدّمها على أنها استفتاء لعموم الشعب حول المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية لبلورة خياراته حولها. غير أن انخفاض نسبة المشاركة لم يؤثر على قيمتها السياسية. بل ذهب رئيس الجمهورية إلى اعتبار العزوف عن التصويت دليلا على تجاوز الشعب للأطر التقليدية. ما ينطبق أيضا على الاستفتاء الدستوري في نفس السنة. فمرة أخرى لم يكن لتراجع نسبة المشاركة أية تأثير على النتائج. ما يسمح بالتأكيد أن الطابع الشعبوي المُتجاوز للهياكل والمؤسسات والإجراءات هو الحاسم في تبني تلك الموجودة في المشروع. 

6 أكتوبر: أول انتخابات رئاسية في نظام البناء القاعدي 

تعيش تونس منذ أشهر على وقع التحضير للانتخابات الرئاسية بإشراف الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. شهدت هذه الفترة جدلا واسعا سببه عملية الإقصاء الممنهج للمنافسينرابط خارجي بجميع الطرق الممكنة مثل التضييقات الأمنية على الحملات الانتخابية والتتبّعات القضائية للمترشحين، وضرب صفتهم وأحقيّتهم في الترشّح المكفول قانونيا وسياسيا، ، وليس آخرها رفض الهيئة تطبيق حكم قضائيرابط خارجي صادر عن القضاء الإداري ينص على إعادة مرشحين إلى السباق الإنتخابي.  

ويُعتبر هذا الإقصاء للمنافسين السياسيين متوافقًا مع التوجه العام للمشروع السياسي لسعيّد ككلّ. فمنذ انطلاق مسار 25 جويلية، كان التوجّه واضحا نحو إقصاء النقابات والمنظمات المهنية وسائر فاعلي المجتمع المدني، وأصحاب التوجهات المخالفة. ليس أولها الاتهامات بالعمالة والفساد لمنظمات المجتمع المدني، وليس آخرها زعم مناصري المشروع بانتهاء دور المجتمع المدني وعدم الحاجة إليه.  

لا يخرج تمثُّل السياسة في مشروع سعيّد ككلّ عن الهياكل الرسمية وفضائها. فقد مثّل الإستفتاء أو الإستشارة الشعبية شرعنة لخيارات تتبلور عمليا في أعلى هرم السلطة، أي من قبل سعيّد نفسه. أما نسب المشاركة الضعيفة ونتائجها فلا دلالة ولا نتائج مؤثرة لها على الفضاء السياسي أو اللعبة السياسية. 

وهكذا، فإنه بين جوهر الشعب والرئيس كفاعل فردي، لا يمكن إلا إنتاج سياسة رسمية أحادية. وفي غياب صناعة البدائل خارج الفضاء الرسمي لا يمكن صناعة سياسة معارضة أو بديلة.  

لقد عاشت تونس تجربة انتقال نحو الديمقراطية، لكن لم يكن متاحا لها تكريسها. أما المشروع المقترح  اليوم، فهو لا يبدو قادرا نظريا وعمليا على تحقيقها. وأما الإنتخابات، وفق ما سبق، فلا يمكن إلا أن تكون محاولة شرعنة لمشروع تُشرف عليه جهة واحدة، وتحرص على مواصلة المسك بزمام السلطة لاستكماله. 

>> فيما يلي أبرز المحطّات التي مرّت بها تونس بين 2011 و2019

المزيد

المزيد

أبرز المحطات في تونس منذ سقوط بن علي في 2011

تم نشر هذا المحتوى على في ما يلي أبرز المحطات في تونس حيث تنظم الاحد الانتخابات التشريعية، منذ الثورة التي أنهت في 2011 عقودا من الاستبداد. – سقوط بن علي – في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، أقدم البائع المتجول الشاب محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد (وسط غرب) على إضرام النار في نفسه، ما أدى الى إطلاق حركة احتجاج شعبية على…

طالع المزيدأبرز المحطات في تونس منذ سقوط بن علي في 2011

رؤية متغيّرة للسلطة 

بمراجعة دستور 2022، يمكن ملاحظة أنه تمّ تبني إجراءي سحب الوكالة والاستفتاء من بين آليات الديمقراطية المباشرة. فيما غابت مثلا المبادرة الشعبية التي تسمح، في النظام السويسري، باقتراح أو إلغاء تشريع بعد جمع 100 ألف توقيع. 

ما يعني موضوعيا أن المشروع السياسي انتقل من تصور طوباوي للشعب إلى فردنة السلطة كضمانة شعبوية لإرادة الشعب. وبينهما تمّ تغيير طبيعة المؤسسات والهياكل وهندستها وأدوارها. 

بالنسبة لسحب الوكالة، يمكن القول إن تركيز الإجراء منفصل عن تمثّل مفهوم الديمقراطية المباشرة، بل يُعتبر إجراء شكلانيا تقنيا وضمانة ممكنة لتمثيل شعبوي مؤسسي للشعب أو أداة عقابية لعدم الامتثال للتمثيل المؤسساتي القائم وشروطه. كذلك شأن الاستفتاء في دستور 2022، فاللجوء له صلاحية لرئاسة الجمهورية حصرا دون رقابة المحكمة الدستورية.  

وبينما تمثّل الديمقراطية المباشرة مفهوما وأداة تسمح للأفراد بلعب دور سياسي مستقل من خارج المؤسسات إلى داخلها، تمّ في الدستور التونسي، تبني أدوات صعبة التطبيق لصالح التمثيلية تشرف عليها مؤسسات النظام السياسي. ما يعطي دورا محوريا للسلطة التي تتمتع بصلاحيات أكبر من غيرها.  

في أفق المستقبل إذن، يعدّ سؤال الديمقراطية المباشرة في جوهر استعادة إرادة الشعب وسيادته، إلا أن الممارسة حادت عنها منذ سنوات. ويبقى الأمر الإيجابي الوحيد اليوم ربما، هو أن مراكمة الأخطاء تتيح معرفة ما لا يجب أن يكون، للوصول إلى ما يجب أن يكون سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. في هذا السياق، يهدف مشروع الرئيس إلى صناعة التاريخ من أجل ديمقراطية “حقيقية”، لكن كتابة التاريخ تتطلب مراكمة تاريخية شبيهة بتجربة النظام السويسري في تركيز ديمقراطية لها سماتها الخاصة بها منذ 1848. 

الآراء الواردة في هذا المقال تخصّ الكاتب، ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لسويس إنفو.

تحرير: مارك ليفنغستون

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية