قرى هادئة ومواطنون لامُبالون.. ما هي تبعات هذا الوضع على سويسرا؟
في بدء الديمقراطية المباشرة كانت حانة القرية. فعلى موائد السمر كانت تتبادل الآراء، أما في القاعة فكانت تتخذ القرارات. ولأن القرى كانت صغيرة، فقد كان الجميع فيها معنيين بما تدور حوله النقاشات، وكان الكل يشارك في اتخاذ القرار. لكن هذا الوضع أصبح الآن ضرباً من الماضي. حيث أن الحانات أخذت تختفي تدريجياً من الوجود. وكذلك الحال بالنسبة للجرائد المحلية. وأصبحت القرى الصغيرة تستعين بموظفين محترفين في تسيير مقدراتها. وهذا تماماً ما يدعو للقلق، كما يرى كاتبنا.
في الصيف الماضي، سادت سويسرا فرحة غامرة: وذلك حين حصلت الديمقراطية السويسرية على شهادة جيّدة جداً من جامعة غوتبرغ السويدية. إذ احتلت سويسرا المركز الرابع بعد كل من النرويج والسويد وإستونيا، في أكبر مقارنة عالمية تم إجراؤها بين الديمقراطياترابط خارجي.
برغم ذلك، فقد كان هناك بعض النقد بين السطور. فالمشاركة الضئيلة في العمليات الديمقراطية داخل بلديات سويسرا البالغ عددها 2212 تضع نجاح الديمقراطية السويسرية على المحك.
حانات القرية تحتضر
ولكن من يراقب المناخ العام للبلديات السويسرية لا يتفاجأ بهذا الوضع. حيث اضطر أصحاب الحانات في سويسرا إلى تسجيل أرقام قياسية رابط خارجيفي إغلاق محالهم. ففي كل عام، تغلق حوالي ألف حانة أبوابها في سويسرا.
وهو ما يلقي بظلاله على الحياة الإجتماعية والسياسية، فمع كل حانة تضطر إلى الإغلاق في الريف، يختفي مكان تقليدي للقاء والحوار. كما يختفي معه مكان للتعبير عن الرأي العام السياسي، يستطيع السكان فيه التنفيس عن غضبهم أو استيائهم في حالة عدم رضاهم عن أداء المكتب التنفيذي للبلدية.
ازدهار “بلديات النوم”
لكن هل يزال سكان البلديات مهتمين بما يحدث في محل إقامتهم؟ إن هذا الإهتمام حقاً لفي تناقص مستمر. إذ يتراجع ارتباط المواطنين تدريجياً ببلديات سكنهم. فقد كشف مؤشر الهوية الذي يُعده دوريا المصرف السويسري العملاق “كريدي سويس” لعام 2018 رابط خارجيعن تراجع ارتباط السويسريين بالبلدية التي يسكنون فيها، وهذا للمرة السادسة على التوالي. فبينما أعرب نصف من استطلعت آراءهم عام 2012 عن شعورهم بالارتباط بمحل إقامتهم، إلا أن نسبة من شعروا بهذا الإرتباط عام 2017 بلغت الربع فقط.
ويظهر هذا بصفة خاصة في البلديات الكبرى التي نشأت عن الاندماج في تكتلات حضرية. ففي أثناء النهار يعمل البعض في مدن صاخبة، حيث لا يستطيعون المشاركة في القرار السياسي، وأما في الليل فيخلدون إلى الاسترخاء. وهذه الحاجة إلى الراحة والهدوء تصبح بالنسبة لهم أهم من حضور مناسبة في إحدى الجمعيات، أو الانخراط في العمل الحزبي أو المشاركة في السياسة المحلية داخل بلديات إقامتهم، أو بالأحرى “بلديات نومهم”.
صمت المواطنين
هذا الوضع تترتب عنه بعض النتائج. فمن يتوقف عن التفاعل مع ما يجري في الحي الذي يُقيم فيه، سوف يصاب مع مرور الوقت بلامبالاة تجعله زاهداً في المشاركة السياسية. وهكذا تظل المؤتمرات البلدية خاوية. ففي كل عام يقام في سويسرا حوالي 4000 مؤتمر بلدي، لا يشارك فيها سوى حوالي 300000 مواطن ومواطنة. وهذا ما تكشف عنه عملية دورية لرصد البلديات، يقوم بإنجازها بصورة منتظمة باحثون من جامعة لوزان ومن المعهد العالي للعلوم التطبيقية بزيورخ.
المزيد
صور من المجلس المحلي لباسردورف
أما القاعدة التي يمكن أن نستنتجها من نسب المشاركة فهي أنه كلما زاد عدد السكان في البلديات، كلما تراجعت نسبة المواطنين الذي يُشاركون في المؤتمرات البلدية.
ومن اللافت للانتباه كذلك هذا التراجع الهائل في المشاركة داخل البلديات متناهية الصغر والتي تضم ما بين 250 إلى 1000 نسمة. لكن الوضع الأكثر قتامة يكمُن داخل المدن، حيث لا يشارك سوى اثنان إلى ثلاثة بالمائة من السكان فقط في الحياة السياسية المحلية.
في هذا الصدد، يؤكد أندرياس لادنر، عميد الباحثين السويسريين في مجال دراسة البلديات، على “وجود مشكلة واضحة، بلا وصفة علاجية”، على حد قول هذا الأستاذ بجامعة لوزان.
البلديات التي اندمجت.. فقدت المشاركة!
سجل المعجم التاريخي لسويسرا عام 1999 لأول مرة نزول عدد البلديات عن ثلاثة آلاف بلدية. أما في عام 2019، فقد بلغ عدد البلديات في سويسرا 2212 بلدية فقط. أي أن رُبُع البلديات السويسرية فقدت استقلالها خلال عشرين عاماً، وهو ما يعني أن “موت البلديات” قد أصبح واقعاً في سويسرا، وهو ما أسفرت عنه الإندماجات في أغلب الأحيان.
هنا، تجدر الإشارة إلى أن اختفاء البلديات يرجع إلى عدة عوامل. ففي بعض الأماكن، لم يتوفر عدد كافٍ من الموظفين المتطوعين لشغل المناصب الإدارية بنظام الميليشيات (أي الجمع بين وظيفة عادية ومهمة عامة)، وفي أماكن أخرى اضطربت مالية البلديات بسبب نقص التخطيط الكفؤ. ونتيجة لذلك قويت الإدارات التي يتولى فيها موظفون محترفون تقديم الخدمات. لكن كل هذا كان له ثمنه السياسي، حيث استمرت المشاركة السياسية في التراجع داخل البلديات المندمجة، مثلما توضح الدراسات.
الحل ليس في البرلمانات المحلية
من ناحية أخرى، تراهن البلديات الكبرى على البرلمانات البلدية. وقد ترسخت مثل هذه البرلمانات داخل سويسرا الروماندية (الناطقة بالفرنسية في غرب سويسرا) وفي إقليم تيتشينو الناطق بالإيطالية. حيث شهد عام 2017 وجود 475 برلمان محلي داخل البلديات أو المدن، بإجمالي عدد أعضاء بلغ 17339 عضواً منتخباً.
هذه المساهمة هي جزء منمنصة #الديمقراطية المباشرة DearDemocracy#، التي تخصصها swissinfo.ch لطرح ومناقشة قضايا الديمقراطية المباشرة وفيها يُتاح المجال – بالإضافة إلى الصحفيين التابعين لهيئة التحرير – لاستضافة كتاب خارجيين لا تتطابق مواقفهم بالضرورة مع مواقف swissinfo.ch.
ولكن حتى هنا ظهرت بعض المشكلات، ومنها كثرة تغير ممثلي الشعب المنتخبين. حيث تشهد البرلمانات البلدية بالمناطق الناطقة بالألمانية استقالة واحدة في المتوسط مقابل انتخاب كل عضو جديد، وهذا في كل دورة برلمانية تقريباً.
لكن هناك بدائل
وعلى وجه التحديد في كانتون لوتسيرن، حيث سلكت البلديات الصغيرة طريقاً جديداً، إذ فتحت أمام مواطنيها باب الاقتراع حول كل شيء. وهكذا إذا ما طُرِحت أي مسألة بسيطة للتصويت، فإن السكان يتوجّهون إلى صناديق الاقتراع بنسبة تتراوح ما بين خمسة إلى ستة أضعاف مشاركتهم في المؤتمرات البلدية سابقاً.
التمثيل غير المتكافيء للشباب والنساء
على الجانب الآخر، ينتقد العديد من خبراء السياسة تشكيل المؤتمرات البلدية لكونها تعاني من تمثيل غير متكافيء. فعلى سبيل المثال نجد أن تمثيل الشباب شديد التدني في 86% من المؤتمرات. بينما يحظى كبار السن بتمثيل زائد في 32% منها، وهذا بحسب التقرير الذي نشرته المدونة العلمية “ديه فاكتو DeFactoرابط خارجي” عام 2016.
كذلك فإن النساء والسكان الجدد قلما يجدون من يمثلهم. وهذا بخلاف أصحاب الحرف من أبناء البلدية، الذين يحظون بتمثيل فائق في مؤتمرات بلديتهم.
جودة الديمقراطية لا زالت مرتفعة
أما الخبير السياسي فيليب روشا، الذي أعد أطروحة دكتوراهرابط خارجي في مركز آراو للديمقراطية حول المؤتمرات البلدية في كانتون آراو، فإنه يدافع عن نسب المشاركة السياسية الضئيلة. حيث يرى أن قرارات المؤتمرات البلدية الشرعية تجد قبولاً لدى قطاعات واسعة ممن يحق لهم الاقتراع، كما يرى أن نسب المشاركة الضئيلة لا تعني بالضرورة تدني جودة الديمقراطية، بحسب استنتاجه.
اختفاء الجرائد المحلية يُفاقم الوضع
أما دانيل كوبلر، مساعد مدير مركز آراو للديمقراطية، فإنه يتنبأ بإلحاق ضرر أكبر بالسياسة البلدية. حيث قام في إحدى دراساته بتوضيح العلاقة بين الصحافة المحلية وبين المشاركة السياسية في نفس المكانرابط خارجي. “فكلما زادت طبعات الصحافة المحلية وكلما زادت التقارير الصحافية في الإعلام حول السياسة المحلية، كلما زادت المشاركة في الانتخابات”، على حد قول كوبلر. ونظراً للتطورات الحالية، فإن هذا أيضاً يعني بالعكس: أنه كلما اختفت وسائل الإعلام المحلية، وكلما قلت التقارير الصحافية حول السياسة المحلية، كلما تراجعت نسبة المشاركة في الانتخابات داخل البلديات.
العلانية تعني التحكم
إذن فهناك سبب يدعو للقلق. ذلك لأن غياب الإعلام المحلي يعني غياب العلانية. والسياسة المحلية بدون علانية ـ أي بدون تحكم ـ تفتح الباب أمام اللاعبين السياسيين، لتحقيق مصالحهم الشخصية.
ما هي الحلول الممكنة؟
هناك اقتراح لحل مشكلة الإعلام المحلي على الأقل. حيث يدعو أوتفريد جارن، رئيس اللجنة الفدرالية للإعلامرابط خارجي، إلى توفير المعلومات وإنشاء منصات للحوار على الإنترنترابط خارجي، على أن تقوم بعض المؤسسات الخيرية والبلديات بتمويلها.
سويسرا تتبدل
إن نجاح الديمقراطية يتطلب مشاركة سياسية، ولكن بما أن ديمقراطية المؤتمرات ترتكز بالأساس على الارتباط بالمكان، فقد أدى تآكل هذا الارتباط إلى تغيير سويسرا خلال جيل واحد فقط. ويواجه المؤتمر البلدي، باعتباره اللبنة الأساسية للديمقراطية المباشرة المعمول بها في سويسرا، العديد من المشكلات حالياً. وفي المقابل، هناك القليل من الحلول.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.