البرلمانيون هم أقوى “جماعات الضغط” في السياسة السويسرية!
في شهر أكتوبر المقبل، سوف يقوم الشعب السويسري بانتخاب التشكيلة البرلمانية الجديدة. لكن ممثلات وممثلي الشعب تحت قبة القصر الفدرالي في برن، باتوا يمثلون أيضاً، وعلى نحوٍ أكثر شراسة، المصالح الخاصة للشركات والجمعيات والمنظمات الموجودة في البلاد. ويشير هذا التحول في العمل السياسي إلى تغيير في ثقافة عمل البرلمان السويسري ووظيفته.
هذه المساهمة هي جزء من منصة DearDemocrcy# التي تتيحها swissinfo.ch لعرض ومناقشة شؤون الديمقراطية المباشرة.
“كما لو كان الشيطان يُطاردهمرابط خارجي“: عندما يكون البرلمان مُنعقداً لممارسة مهامه التشريعية، ويتصدَّر هذا العنوان صحيفة “تاغس أنتسايغَر” الصادرة بالألمانية في زيورخ، لابد أن يكون القصر الفدرالي في برن قد شهد أحداثاً مثيرة تحت قبته. وبالفعل: دفع البرلمان السويسري في مارس 2018 باتجاه تمرير قانون جديد ومثير للجدل، يتعلق باستخدام ما يسمى بالمحققين الاجتماعيين [لتَتَبُّع المتحايلين على نظام الرعاية الإجتماعية]، في فترة قياسية “مَشبوهة” لا تتجاوز الأسبوع الواحد.
لكن لِمَ هذه العجالة للخروج بهذا التعديل الدستوري، في الوقت الذي يُعتَبَر فيه التشريع المتوازن والمَستقل أحد أسمى فضائل العملية الديمقراطية؟
الجواب بسيط ويتلخص بكلمتين هي: تأثير اللوبيات (جماعات الضغط). فقد مارَسَت شركات التأمين الصحي والشركة السويسرية للتأمين ضد الحوادث (Suva)، لعبة نفوذ حقيقية لتنفيذ مصالحها. وفي هذه الحالة، كانت المعركة التي استقطبت اهتمام الجمهور موجّهة ضد الأشخاص المُشتبه في إساءة استخدامهم لنظام الرعاية الإجتماعية في البلاد.
ممثلون عن الشعب وعن الشركات
ولكن كيف يكون مثل ذلك مُمكناً؟ وكيف يُمَثِّل نواب الشعب بالذات، الذين يَتم انتخابهم لمدة أربع سنوات، المزيد والمزيد من المصالح الخاصة؟ ففي المُجمل، وبالإستناد على نتيجة دراسة نشرها مؤخراً الفرع السويسري لمنظمة الشفافية الدولية غير الحكومية، يرتبط أعضاء البرلمان السويسري (بغرفتيه) الحاليين البالغ عددهم 246 شخصاً بـ 2000 علاقة نفعية مع 1700 منظمة ومؤسسة.
وهذا يعني مشاركة 1700 شركة ومنظمة بشكل مباشر في العملية التشريعية عندما يناقش النواب وعددهم 264 (200 في مجلس النواب و46 في مجلس الشيوخ) مشروع قانون ما.
تجمع 200 تفويض حول طاولة الإجتماعات
في المتوسط، تُسند ثمانية تفويضات الى العضو البرلماني. أما الصدارة في هذا المجال، فيحتلها النواب البورجوازيون واليساريون، الذين تصل علاقاتهم النفعية إلى 31 و 29 مصلحة على التوالي. وكما يلاحظ، فقد ازدادت حدّة هذه الظاهرة منذ مطلع الألفية الثالثة، حيث ازداد متوسط عدد التفويضات لكل عضو في البرلمان بأكثر من الضعف من عام 2000 إلى عام 2011. أما الطفرة الحاصلة بين الأعوام 2007 و2015، فقد زادت عن نسبة 20%.
وبترجمة ذلك إلى الحالة المَلموسة للتعديل الدستوري الجديد الذي يسمح بمراقبة السويسريين من قبل المُحققين العاملين لصالح مؤسسات التأمين الإجتماعي الجديد، يُدرج الفرع السويسري لمنظمة الشفافية الدولية ما مجموعه 90 مصلحة لـلأعضاء الـ 38 في الّلجنتين المعنيتين بالضمان الاجتماعي والصحةرابط خارجي، اللتين طالبتا بوجود هؤلاء المحققين الإجتماعيين.
أما “لجنة الملوك” بالنسبة لمجموعات الضغط، فهي لجنة الشؤون الإقتصادية وفرض الضرائبرابط خارجي التابعة لمجلس النواب. فعندما كان الأمر يتعلق بالمرحلة التشاورية قبل عرض مشروع قانون ما أمام غرفتي البرلمان للتصويت، كان حوالي 150 – 200 شخص من ذوي المصالح الخاصة يجلسون حول طاولة المفاوضات لإبداء آرائهم في السنوات الـخمسة عشر الماضية. وهذه الأرقام تستند على دراسة أجرتها جامعة زيورخ للعلوم التطبيقيةرابط خارجي.
أبواب مفتوحة لتدخلات غير ديمقراطية
بلغت نشاطات مجموعات الضغط في الكنفدرالية مستويات مُقلقة في الوقت الراهن أليكس بيسكارو، من الفرع السويسري لمنظمة الشفافية الدولية
وفقاً لـ أليكس بيسكارو، نائب المدير العام للفرع السويسري لمنظمة الشفافية الدوليةرابط خارجي، بلغت نشاطات مجموعات الضغط في الكنفدرالية مستويات مُقلقة في الوقت الراهن.
وبوصفه احد مؤلفي الدراسة، يحذر بيسكارو من افتقار قوى الضغط التي تمارس تأثيرها على السياسة السويسرية اليوم إلى الشفافية والتنظيم والتوازن في العديد من المجالات، الأمر الذي “يفتح منافذ خطيرة لممارسات غير ديمقراطية وحالات فساد”.
نتاج نظام الميليشيات
ولكن، كيف يحدث أن يتحول البرلمانيون أنفسهم إلى جماعات ضاغطة في نفس الوقت؟ أحد أسباب ذلك هو مبدأ الميليشيات المعمول به في سويسرا، الذي يُرغم أعضاء غرفتي البرلمان على ممارسة نشاط مهني خاص بهم إلى جانب اضطلاعهم بمهامهم السياسية، المتمثلة بحضور أشغال دورات البرلمان السنوية الأربع (الشتوية والربيعية والصيفية والخريفية).
وبالإعتماد على دراسةرابط خارجي أجراها قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية ومعهد البحوث التطبيقية والإقتصادية التابعة لجامعة جنيف، تتطلب عضوية البرلمان التزاماً وظيفياً يتراوح بين 60 و90% من دوام كامل وبالتالي، يُمكن لممثلي الشعب العمل كمستشارين مستقلين لصالح إحدى الشركات، كما يُمكن أن يكونوا أعضاء في العديد من مجالس الإدارة. وهذه المسألة ليست قانونية فحسب، بل ومطلوبة حتى من قبل النظام.
وكما يقول بيسكارو، فإن حشد مجموعات الضغط التأييد للدفاع عن القضايا التي تعنيهم “ليست ممارسة سيئة من حيث المبدأ، وهي جزء مهم وشرعي من الديمقراطية التعددية ونظام الميليشيات”. ومثلما يضيف، تتعمد سويسرا لأن لا يكون لديها سوى هيكل برلماني صغير، لا يقدم دعماً ملموساً للساسة السويسريين الذين يعملون وفق نظام الميليشيات.
إذ “يعتمد البرلمانيون على المعرفة الواقعية والمعمقة والمعلومات العملية، وغالباً ما تقدَّم هذه من قبل مجموعات الضغط. ومن الناحية المثالية، يساهم العاملون في مجموعات الضغط، ومن خلال جَلب المعرفة المتخصصة، في ضمان اعتماد البرلمان للقوانين المناسبة والقابلة للتنفيذ”، كما يقول.
هناك أنواع مختلفة من مجموعات الضغط في السياسة السويسرية، كما تتنوع تأثيراتها. وهذه مجموعة مختارة منها:
داخل جدران القصر الفدرالي
• جماعات الضغط الداخلية: هنا يمثل أعضاء وعضوات البرلمان أنفسهم مصالح خاصة.
• جماعات الضغط الخارجية: هنا تحاول الجمعيات والمنظمات والشركات، أو المنظمات غير الحكومية أو النقابات العمالية، وكذلك ممثلو الكانتونات، التأثير على أعضاء البرلمان في الصالات الإنتقالية لغرفتي السلطة التشريعية، (مجلس النواب ومجلس الشيوخ)، لموائمة التشريعات في صالحها.
أشكال وسيطة
• جماعات الضغط الخارجية في واجهات رسمية مع البرلمان – بصفة أمناء لمجموعات برلمانية رسمية على سبيل المثال.
• جماعات الضغط الخارجية في واجهات غير رسمية مع البرلمان – بصفة مخططين أو بادئين لمجموعات غير رسمية، مثل مجموعات العمل، ودوائر الضغط، وما إلى ذلك.
خارج جدران البرلمان
• هنا تقوم جماعات الضغط الخارجية بدعوة أعضاء البرلمان لحضور “أنشطة وأحداث إعلامية” (مثل الأحداث الرياضية) أو السفرات.
بصمة تشريعية
لكن وبحسب المتخصّص في الفرع السويسري لمنظمة الشفافية الدولية: “يحتاج عمل قوى الضغط إلى الشفافية والقواعد الواضحة. وبداية، وقبل كل شيء، يجب أن تكون هوية الطرف الذي يمثل المصالح الخاصة واضحة. كما يجب أن يتم الكشف عن الأهمية المالية، أي الدَخل المتأتي من التفويض الخاص”.
ثانياً، توجد هناك حاجة إلى مدونة لقواعد السلوك للبرلمانيين ومجموعات الضغط، تتضمن إرشادات حول كيفية التعامل عند تضارب المصالح، أو في حالة تقديم المزايا، مثل الهدايا والسفرات.
“ثالثًا وأخيراً، يتطلب الأمر”بصمة تشريعيةرابط خارجي“، أي توثيقا واضحا ومفهوما وشفافا حول الطرف الذي قام بالتأثير على العملية التشريعية ومتى وكيف”.
أما المثال الذي يُحتذى به هنا فهي سلوفينيا، أو المفوضية الأوروبيةرابط خارجي، اللذان يشير بيسكارو إلى إعتمادهما “سجلات جادة توفر معلومات عن أنشطة جماعات الضغط فيما يتعلق بأعضاء اللجان وتشريعاتهم”.
الحد الفاصل بين الديمقراطية والمصالح
مع ذلك، يتم اتخاذ قرارات اللجان بالذات في ما يُشبه “الصندوق الأسود”، حيث أن عدم تسرّب أي معلومات من طرف اللجان هو مبدأ قديم في السياسة السويسرية.
ولكن لماذا هذا التركيز على المصالح الخاصة في اللجان البرلمانية؟ الجواب هو أن تحديد القرارات والمسارات، التي غالباً ما تكون حاسمة في المناقشات اللاحقة في غرفتي البرلمان والإستفتاءات المحتملة، عادة ما يتم في هذه اللجان.
لكن، وبرأي بيسكارو، تشكل التأثيرات الغامضة والحساسة خطراً على الديمقراطية. “هذا ينطبق بشكل خاص على نظام الإستفتاء الذي نعمل به، كما يحدث عندما تبقى هوية الطرف الذي يحاول التأثير على آراء الناخبين من خلال تمويل حملات الاستفتاء مخفية”.
ضغوط مُصممة خصيصاً
يعتبر مجال الصحة أكثر القطاعات المُعرّضة لمحاولات التأثير، سيما مع وجود قطاع الصناعات الدوائية في الخلفية. و كما يلاحظ فيكتور بارما، الذي يعمل كصحفي في القصر الفدرالي منذ حوالي 40 عاماً، تنشط شركتا ‘نوفارتيس’ و‘روش’ المتعددة الجنسيات بشكل خاص هنا.
وكما يقول بارما، “كان تصرف اللجان الاستشارية الأولية في مجلسي البرلمان أشبه بالذراع الطويلة لشركات التأمين الصحي في حالة التعديل الدستوري الجديد الذي يسمح باستخدام المحققين الاجتماعيين”.
وإلى جانب أوزوالد سيغّ، المتحدث السابق باسم الحكومة السويسرية، نشر بارما كتاباً حول جماعات الضغط الكلاسيكية في البرلمان في عام 2011. وكان الصحفي المخضرم قد شهد تغيرات أساسية تحت قبة البرلمان الفدرالي، مع الابتعاد عن الضغوط الكلاسيكية للمؤسسات التجارية الكبرى والتوجه نحو “الفردية”. بمعنى قيام الشركات والمؤسسات بإرسال موظفيها إلى برن للتأثير على التشريعات.
من نفوذ لا مثيل له إلى تبرير الوجود
أحد الأمثلة على ذلك، بحسب بارما هو القطاع المالي، وهو مجال آخر لمجموعات الضغط في القصر الفدرالي. ففي السابق، كانت رابطة المصرفيين السويسريين (Swiss Banking)، تتمتع بنفود موحد لا مثيل له. لكن هذا القطاع شهد نوعاً من التفكك خلال السنوات الأخيرة – الأمر الناجم عن ضغوط دولية أيضاً. ووفقاً لـ بارما، “أدى ذلك إلى تقسيم القطاع المصرفي السويسري إلى لاعبين مُنفردين، ما جعل البنوك الكبرى واللاعبين الآخرين يتوفرون على جماعات ضغط خاصة بهم”.
كذلك تبرز صورة مماثلة في مجال السياسة الاقتصادية – ملعب المصالح الخاصة بامتياز. ففيما مضى، كانت أكبر رابطة للاقتصاد السويسري مُتنفذة إلى درجة وَصف مديرها بـ “المستشار الفدرالي الثامن” خَلف الأبواب المُغلقة. واليوم، تحمل رابطة الشركات السويسرية التي خلفتها، اسم ‘إيكونومي سويس’ (Economiesuisse)، وهي ليست أكثر من منظمة جامعة للاقتصاد السويسري. مع ذلك، بدأت الشركات تعمل من تلقاء نفسها على نحو متزايد. وعلى حد قول فيكتور بارما: “اليوم، تجعلنا مجموعات الضغط الناشطة لصالح اتحادات الصناعة الكلاسيكية نشعر بالأسف تجاهها، حيث بات عليها تبرير وجودها”.
يدرج أعضاء البرلمان السويسري علاقات المصلحة [التي يقيمونها مع شركات أو تجمُّـعات اقتصادية أو جمعيات أو مجموعات ضغط أخرى] في سجل المصالح الشخصية. لكن لا يوجد هناك ضمان لاستيفاء هذا السجل لكافة المعلومات، بسبب الافتقار إلى إجراءات رقابية بهذا الصدد.
كذلك يحق لكل عضو في البرلمان التصرف ببطاقتين مجانيتين، تُمكّن أيَّ شخصين من دخول القصر الفدرالي. وهكذا تحصل جماعات الضغط الخارجية على امتياز الوصول إلى القصر الفدرالي.
وفي حال تمكنت جماعات الضغط من “شراء” أحد الأعضاء، يمكن للبرلمان حرمانه من الحصانة. وقد أدى هذا الاتهام إلى عواقب لأول مرة في سبتمبر 2018، حيث قرر البرلمان في خطوة نادرة من نوعها رفع الحصانة عن النائب السابق كريستيان ميش، عضو حزب الشعب السويسري السابق في مجلس النواب وممثل كانتون ريف بازل. وسوف يتعين على ميش الآن الرد على تهمة الرشوة السلبية المشتبه بها أمام المدعي العام الفدرالي.
لكن، وبحسب فيكتور بارما، تتم تسوية معظم الحالات التي يمكن ان يستهويها البرلمانيون، عبر القنوات غير الرسمية، أي من خلال الوصول إلى اتفاق متبادل.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.