مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“ينبغي أن لا يخشى الساسة تقاسُـم السلطة مع الشعب”

مثل آندرياس غروس سويسرا لمدة 20 عاما في الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، حيث أسهم في الترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان. كما شغل أحد مقاعد مجلس النواب السويسري عن الحزب الديمقراطي الإشتراكي من1991 إلى 2015. Keystone

يعُرِفَ عن أندرياس غروس حنكته الكبيرة في مجال الديمقراطية المباشرة. وقد يكون هذا الرجل الستيني المواطن السويسري الوحيد الذي يتوفر على خبرة عملية كناشط شعبي، بادَر وساهم بإطلاق المبادرات الشعبية وتنظيم الحملات الترويجية المرافقة لها، بصفته عضوا في البرلمانات المحلية والوطنية والأوروبية، وكباحث ومؤلف مُختص بموضوع سلطة الشعب.


بعد أن كرس معظم حياته المهنية في قضايا الديمقراطية التشاركية، يستحضر أستاذ العلوم السياسية والسياسي البالغ من العمر 63 عاماً أكثر من أربعة عقود زاخرة بمجموعة واسعة النطاق من المقالات والمقابلات والتحليلات، علاوة على خطاب ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك.

وكان كتاب آندرياس غروسّ الأخير “الديمقراطية المباشرة غير المُكتملةرابط خارجي” فرصة مثالية لـswissinfo.ch لسؤاله عن قائمة مُختصرة من القضايا التي يتعين اتباعها أو تغييرها في مجال الديمقراطية المباشرة.

ويُحب الكاتب والباحث أن يُشبه نظام الديمقراطية المُباشرة بأحجية الصور المتقطعة. وفي أحيان أخرى، يشير إليها كنوع من العمل الفني المتكامل. وكما يقول، فإن الشيء المُبهر ولكن الصعب في الوقت نفسه هو ‘ميوعة’ العناصر المكونة للأحجية، وهو ما يجعل مسألة تحقيق نظام ديمقراطي مُباشر يتصف بالإستقرار والتكامل مستحيلة عملياً.

وفي محاولة لاختصار العناصر الأساسية للديمقراطية وفق الطراز السويسري، خص غروسّ بالذكر ثلاثة مبادئ يمكن للدول الأخرى أن تتعلم منها.

نقاط القوة…

“بداية، ينبغي ألا يخشى الساسة تقاسم السلطة مع الشعب، فلا توجد هناك أية قضية مهمة يصعب على المواطنين فهمها. بإمكان كل شخص أن يتعلم، والتعلُّم المُجتمعي هو أحد النواتج الثانوية الأساسية للديمقراطية المباشرة”، كما يقول.

ويضيف:” ينبغي أن تكون السلطة السياسية مُقسمة بين الطبقات المختلفة للدولة الأوروبية الفيدرالية – وعلى مستويات وطنية وإقليمية ومحلية. وفي سويسرا مثلاً، يعني هذا أن المواطنين هم أصحاب القرار الأخير بشأن مسألة الضرائب وليس الحكومة المركزية. وهذا الأمر بعيد جداً عن واقع العديد من المواطنين في أوروبا. وسوف يُحسن الإتحاد الأوروبي صُنعاً بإدخاله للمزيد من عناصر الديمقراطية المباشرة”.

ووفقاً لـ غروسّ، “تظهر التجربة السويسرية إعجاب المواطنين المعاصرين بأداة الديمقراطية المباشرة – التي تعني لهم الحق في اقتراح أفكار بشأن أيّ قضية تقريباً وفي أي وقت، بغية تغيير الدستور أو تعديل أحد القوانين – وهذا هو المبدأ أو العامل الثاني”.

وكما يشدد :”لقد ناقشتُ مسألة مشاركة المواطنين مع العديد من الأشخاص في نحو 65 دولة مختلفة حول العالم، وربما أكون شاركت بأكثر من 1100 مناظرة عامة حول هذا الموضوع على مدى الأعوام الأربعين الماضية، ولم أصادف خلال هذه الفترة أبدا أي شخص لم تعجبه فكرة اقتراح الأفكار السياسية”.

“سواء استخدم المواطنون حقوقهم في ممارسة الديمقراطية المباشرة بحكمة أو لا – الحُكم في ذلك لا يعود لنا. قد تختلف الآراء حول مدى الحِكمة في قرارات المواطنين أو مقترحاتهم، ولكن الأمر الأساسي في دولة ديمقراطية هو منح المواطنين الحق في إبداء الرأي”، على حد قوله.

“أما المبدأ الثالث، فهو ضرورة أن تكون أدوات المشاركة السياسية سهلة الإستخدام للمواطنين. ذلك أن تصميم هذه الأدوات هو الذي يحدد نوعية الديمقراطية المباشرة. ومن المهم أن تكون العقبات أمام إجراء استفتاء شعبي منخفضة. ففي سويسرا مثلاً، بإمكان 2% من المواطنين المؤهلين للإقتراع التقدم بمقترح لتغيير الدستور، وحوالي 1% للطعن في قرار سبق وأن حصل على موافقة البرلمان الفدرالي”، وفقاً للباحث والسياسي المخضرم.

ويؤكد غروس على “أهمية أن يكون للقائمين على الحملة متسع من الوقت لجمع التوقيعات المطلوبة – والتي حددت في سويسرا بـ 18 شهراً بالنسبة للمبادرة الشعبية الفدرالية و100 يوم بالنسبة للإستفتاء الشعبي. لكن الملاحظ أن المواعيد النهائية لتسليم التوقيعات هي أقصر بكثير في دول أخرى. وفي بعض الأحيان، لا تفصل بين عمليتي جمع التوقيعات والإقتراع سوى بضعة أسابيع”.

ويلفت غروسّ الإنتباه أيضاً إلى “ضرورة أن تكون للقائمين على الحملات الحرية في اختيار الأماكن العامة التي ينوون مخاطبة المواطنين فيها. ومن المهم ألاّ يضطر الأشخاص للتوجه إلى أحد مراكز الشرطة بغية التوقيع على إحدى المبادرات”.

صنع غروس لنفسه إسما كناشط مدافع عن الديمقراطية المباشرة، وكان أحد الرواد البارزين الذين أطلقوا مبادرة لإلغاء الجيش السويسري، والتي قابلها الناخبون بالرفض في عام 1989. RDB

“أخيرا تمثل المناقشة العامة روح الديمقراطية المباشرة، ومن المهم ألاّ تحدد نسبة المشاركة مدى صحة التصويت من عدمه، كما هو الحال في إيطاليا مثلاً. وبمفهوم لعبة كرة القدم، يشبه وجود نظام النصاب مَنح هدف لفريق ارتكب أحد لاعبيه خطأ سيئاً بدلا من إرسال هذا اللاعب إلى خارج الملعب”، كما يقول.

… تقابلها نقاط الضعف

إعجاب غروس بلعبة كرة القدم واضح. وهو من مشجعي نادي بازل، فريق المدينة الواقعة شمال سويسرا حيث نشأ خبير العلوم السياسية وترعرع. ولكن بعيداً عن الصور الرياضية – التي قد لا تساعد على توضيح الصورة بالضرورة – يركز غروس لاحقاً على ثلاث نقاط ضعف ترافق الديمقراطية المباشرة في سويسرا.

“تفتقر سويسرا – على عكس كاليفورنيا أو ألمانيا مثلاً – إلى محكمة دستورية تبت في المبادرات التي قد لا تتوافق مع حقوق الإنسان الأساسية. إن وجود مؤسسة كهذه أمر ضروري للتصدي للقرارات التي قد تنطوي على تمييز ضد الأقليات، مما يؤدي إلى استبداد الأغلبية بالنتيجة”، كما يقول.

ويضيف :”لكل شخص حقوق أساسية. ولا ينبغي أن تكون هذه الحقوق موضوعاً للتصويت أبداً. هناك فئات معينة من الناس – حتى المجرمين – الذين تتوجب حمايتهم بمقتضى القانون. لقد شهدت سويسرا في الآونة الأخيرة بعض المبادرات الشعبية التي – وإن قبلها الناخبون – تنتهك الحقوق الأساسية. وليست مبادرات من نوع “الطرد الآلي للمجرمين الأجانبرابط خارجي” أو “السجن مدى الحياة للمنحرفين من مرتكبي الجرائم الجنسية” دون منحهم فرصة ثانية، أو مبادرة “حَظر المستغلين جنسيا للأطفال من ممارسة أي عمل معهم مدى الحياة”، سوى أمثلة على ذلك.

يتضمن كتاب “الديمقراطية المباشرة غير المكتملة”، الذي نُشِرَ باللغة الألمانية، مجموعة من المقالات التي كتبها آندرياس غروسّ على مدى الأعوام الثلاثين الماضية.

ويتضمن المجلد المكون من 390 صفحة تحليلات تاريخية، ومقارنات دولية وسجل سنوي حول قرارات الديمقراطية المباشرة السويسرية، بالإضافة إلى عدد من المقابلات والخطاب التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.

ومن المقرر ترجمة الكتاب إلى اللغة الفرنسية.


ويسترسل قائلاً: “نقطة الضعف الثانية هي مسألة التمويل. فالديمقراطية تتطلب قواعد عادلة وشفافة بشأن مسألة تمويل الحملات الإنتخابية والأحزاب السياسية، لأن المال يشكل خطراً يمكنه تقويض النظام. وبرغم الانتقادات المتكررة الصادرة عن مجلس أوروبا، لازالت سويسرا البلد الأوروبي الوحيد الذي يفتقر إلى قانون يرسم حدود الجهات الراعية في السياسة”.

وما يزيد الأمر سوءا برأي غروسًّ، “هو أن معظم الدول تواجه مسألة التمويل كل أربعة أعوام عند إجراء الانتخابات. لكن الناخب السويسري يتوجه أربع مرات في السنة إلى صناديق الاقتراع للتصويت على مجموعة واسعة من المواضيع. من المهم أن نعرف ما إذا كان هناك شخص واحد ينفق خمسة ملايين فرنك (5,5 مليون دولار) على حملة معينة مثلاً، أو أن خمسة ملايين شخص يساهمون بفرنك واحد لكل منهم”.

وكما يوضح “يعود سبب رفض الحكومة والبرلمان لوضع قواعد بهذا الشأن إلى مفهوم سويسرا للخصوصية الذي يذهب بعيدا جدا. ومع انعدام أي قواعد للشفافية، يكون تحديد تأثير المال على الحملات الفردية صعباً. لكن ينبغي الإشارة إلى أن المال ليس العامل الوحيد على الإطلاق، كما لا يمكن أن تُعزى الهزيمة إن حدثت إلى الإفتقار للموارد مالية، رغم ما يلعبه المال من دور مهم لا يمكن إنكاره”.

“الأمر برمته أكثر دقة وتعقيداً من ذلك، وهو أشبه بمسابقة مجحفة. وقد يشعر أحد الأطراف أنه يفتقر إلى أي فرصة أمام خصم يستطيع إنفاق مال يتجاوز ما لديه بخمسين ضعفا، وهذا يخلق شعورا بالإحباط. وهناك افتراض عام في سويسرا بأنه بمقدور اليمين السياسي إنفاق مال يتعدى ما تنفقه جميع الأطراف السياسية الأخرى بعشر مرات”، بحسب المؤلف والسياسي المحنك.

“أما المأخذ الثالث” وفقاً لـ غروسّ، فهو “حاجة الديمقراطية الى أحزاب سياسية قوية للدفاع عن المصلحة العامة، وتدريب السياسيين، وتنظيم المناظرات، وإطلاع المواطنين على القضايا السياسية على المحك. ولكن جماعات المصالح – سواء كانت اتحادات رجال الأعمال أو غيرها، مثل جماعات حماية البيئة، والذين يمثلون مصالح خاصة بطبيعتهم – تتوفر ولسوء الحظ على إمكانات مالية تفوق ما تمتلكه معظم الأطراف الأخرى بكثير”.

وكما يقول مختتماً :”من الملاحظ أن حضور هذه الاتحادات والجماعات في وسائل الإعلام يزداد قوة وتأثيراً. وهم غالبا ما يهيمنون على الأماكن العامة، ولا سيما في سويسرا الناطقة بالألمانية، وعلى حساب الأحزاب الأخرى أو جماعات المواطنين”.

أثناء إجراء الحوار، يستعين غروس بالمقارنات الدولية بشكل متكرر، ويغوص بالتاريخ في إشارة إلى الماضي والحاضر الفكري، بغية التوضيح وضرب الأمثلة. كما يلجأ إلى توصيات وتحذيرات إضافية، ولا سيما في مسألة النقص الصارخ في التربية الوطنية في سويسرا عندما يتعلق الأمر بالديمقراطية المباشرة.

ولكن دعونا ننهي التقرير بنص يدلل على شغف السياسي والباحث بنظام الديمقراطية التشاركية: “عندما أكون في ألمانيا كثيراً ما أقول: بإمكانك أن تحب الديمقراطية المباشرة، ولكن ما زال بإمكانك أن لا تحب سويسرا”.

أندرياس غروسّ

ولد غروسّ في مدينة كوبي Kobe اليابانية في عام 1952. وهو خبير بارز في مجال الديمقراطية المباشرة، ومؤلف وباحث.

أمضى الأعوام السبعة الأولى من عمره في اليابان قبل انتقال أسرته إلى سويسرا. درس التاريخ في جامعة زيورخ والعلوم السياسية في جامعة لوزان، وعمل كباحث ومحاضر وسياسي على المستوى المحلي والوطني والدولي.

شغل أحد مقاعد مجلس النواب السويسري عن الحزب الديمقراطي الإشتراكي من عام 1991 وحتى عام 2015. كما مثل سويسرا في الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا لمدة 20 عاماً. بالإضافة إلى ذلك، ترأس مجموعة التحالف الاشتراكي الديمقراطي في مجلس أوروبا لستة أعوام.

كان غروس أحد الرواد البارزين الذين أطلقوا مبادرة لإلغاء الجيش السويسري، والتي قابلها الناخبون بالرفض في عام 1989. كما شارك بإطلاق المبادرة الشعبية الداعية إلى انضمام سويسرا للأمم المتحدة، والتي أقرها الناخبون في عام 2002.

عمل كمراقب دولي في أكثر من 90 عملية انتخابية في أنحاء أوروبا.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية