رغم المآخذ.. الجزائـر تدشن مرحلة جديدة
بعد تأخر استمر ستة أشهر، أعلن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، عن نصوص قانون السلم والمصالحة الوطنية.
ولقد بلغت درجة استعجال تنفيذ القانون في اللحظات الأخيرة، أن مرر الرئيس مواده دون أن تتم مناقشتها في البرلمان.
جاء هذا الاستعجال بعد حرب أهلية أتت على الأخضر واليابس منذ إلغاء نتائج البرلمانية التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في دورتها الأولى التي نظمت في شهر ديسمبر من عام 1991. كما جاء الاستعجال الرئاسي بعد مرور ستة أشهر على الاستفتاء الذي أجري على قانون السلم، صرح خلالها بوتفليقة بأنه “يتعرض لضغوط من قبل جهات نافذة” تمنع تطبيق نتائج الاستفتاء.
تنص القوانين على جملة من الإجراءات، بعضها بسيط وبعضها معقد، وفيما يتميز بعضها بالوضوح والإنصاف، يظهر على بعضها الآخر دهاء سياسي وشيء من التسلط.
فقد تقرر العفو عن جميع الإسلاميين ممن لم يتورطوا في أعمال ذبح أو تفجير أو تخريب للمنشآت العمومية، واكتفوا بقتال قوات الأمن أو بدعم هذا القتال. كما تقرر خفض العقوبات المسلطة على من هم داخل السجون بتهم ذبح المدنيين أو التخريب أو وضع المفجرات في الأماكن العامة.
كما سيستفيد آلاف المنتمين إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ من الفرص المتاحة لعودتهم إلى وظائفهم التي طُردوا منها، علما أن الكثير من المؤسسات التي كانوا يعملون فيها قد اختفت من الوجود بسبب سياسة الخصخصة أو نتيجة لأعمال العنف.
وقرر بوتفليقة – من خلال القانون الذي دخل حيز التطبيق يوم 1 مارس 2006 – أن يساوي بين عائلات قوات الأمن والجماعات المسلحة التي لا يمكن تحميلها وزر أبناءها الذين حملوا السلاح ضد الدولة. وأمر بوتفليقة مصالح الإدارة بالسهر على تنفيذ هذا القانون، كما سيًّجه بقانون آخر يُـجـرًم البيروقراطيين في صورة ارتكابهم لأي تمييز ضد عائلات “الإرهابيين” على اعتبار أن من حقهم الاستفادة من مساعدات الدولة كغيرهم من بقية المواطنين.
المفقودون والمنفيون
من جهة أخرى، سيستفيد المنفيون في الخارج من فرصة العودة إلى البلاد بعد العفو الشامل عنهم وإلغاء العقوبات والمتابعات المسلطة بحقهم، شريطة أن لا يكونوا متورطين في أعمال عنف ضد المدنيين بطريقة أو بأخرى، وعلى هذا الأساس تُنتظر عودة المئات منهم بعد غياب استمر أزيد من عشرة أعوام، غير أن بعضهم سيبقى منفيا أو أنه سينتظر بعض الشيء لأن مصالح الأمن تعتبره عدوا أيديولوجيا، أخطر من المسلح.
ومن ضمن هؤلاء أنور هدام، القيادي البارز في الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة والمقيم حاليا في الولايات المتحدة، الذي قد يُضطر إلى انتظار تدخل شخصي من بوتفليقة، لأن وضعه يُشبه الجزائريين الستة الذين تم تناسيهم عمدا في معتقل غوانتانامو الأمريكي بجزيرة كوبا.
أما المفقودون، فقد فصل بوتفليقة في وضعهم عن طريق اعتبارهم “ضحايا الأزمة الوطنية”، وسمح لعائلاتهم باستخراج وثيقة الوفاة من البلديات، الأمر الذي يعني أن الدولة تتبرأ من وجودهم لديها من جهة، كما أنها تمنح التعويض المادي لأهاليهم بطريقة أوتوماتيكية، من جهة أخرى.
مثل هذا القرار، على خطورته، لم يلق الترحيب الكامل من قبل جمعيات المفقودين التي وصفته بأنه “ديكتاتوري”، و بأنه يعود بالبلاد إلى عهد الحزب الواحد؛ إلا أن الرفض قد لا يجدي نفعا لأن القانون قد تم سنه بعد استفتاء شعبي جرى في شهر سبتمبر الماضي، وأعلنت وزارة الداخلية أنه قد حاز على رضا نسبة هائلة من الناخبين الجزائريين.
كما أن الإقرار بوفاة كل المفقودين أو استحالة عودتهم مرتبط بقرار آخر، يبرئ قوات الأمن من كل ما تتهم به من تجاوزات خطيرة على المدنيين، بل ويجرم كل من يحاول التشكيك في سلوكات هذه القوات أو يندد بها في الداخل والخارج على حد السواء.
و على هذا الأساس، تصبح تحركات عائلات المفقودين جريمة من الناحية القانونية، وأي مساعدة تُقدم لهم ستعتبر كذلك، في إشارة واضحة إلى ما تم اقتسامه بين مصالح الأمن ورئاسة الجمهورية التي طلبت أن يكون لها كامل الحق في تسيير الأزمة، في مقابل تبييض صفحة مصالح الأمن على اختلافها، تماشيا مع متطلبات المرحلة الجديدة، داخليا ودوليا.
عفو عن الجماعة السلفية ..
أما مقدمة المرحلة الجديدة، فهي الإعلان في خضم قانون السلم عن عفو شامل على “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” ذات العلاقة المزعومة بتنظيم القاعدة. أما مدة العفو المعلن فلن تستمر إلى الأبد بل تقرر أن لا يزيد عمرها عن ستة أشهر، تكون الدولة بعدها في حل من استعمال كل الوسائل التي تراها ضرورية.
الغريب في هذه النقطة أن “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” قد أضحت الآن مربط الفرس لدخول الجزائر معظم المنتديات الأمنية الإقليمية والدولية وخاصة منها حلف شمال الأطلسي، والمشاركة في أغلب خططه الأمنية في جنوب غرب البحر الأبيض المتوسط.
كما أن “الجماعة السلفية للدعوة والقتال”، على ارتباطها المزعوم والمحتمل بتنظيم القاعدة، أضحت هي الأخرى مربط الفرس لإقحام مؤسسات أمنية وعسكرية تابعة لدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في كامل منطقة الشمال الإفريقي ودول الساحل الواقعة جنوبي الصحراء الكبرى، وهي بلدان كثيرة وكبيرة بمساحتها وسكانها وثرواتها ومواقعها الإستراتيجية.
في هذا الإطار، نُظم في الجزائر قبل أيام ملتقى أمني دولي في غاية الأهمية برعاية مباشرة من وزارة الدفاع الأمريكية التي حرصت على جمع مسؤولين يمثلون أجهزة الإستخبارات في ثماني دول إفريقية، هي الجزائر وتونس و ليبيا و موريتانيا والنيجر ونيجيريا وتشاد والسنغال. كما حضر فيه ممثلون استخباريون من الدنمارك وفرنسا وبريطانيا.
و خلص اللقاء إلى وضع آلية أمنية للتعامل الصارم مع شبكات التهريب والاقتصاد الفوضوي الذي تستفيد منه الجماعات المسلحة، “إسلامية و غيرها”، خاصة وأن هذا الاتجار غير المشروع عبر حدود الدول الإفريقية الشاسعة مرتبط بوضع اقتصادي مأساوي تعيشه قبائل عربية وبربرية وزنجية، مسلمة ومسيحية ووثنية في العديد من بلدان المنطقة.
ويمكن القول أن هذه الآلية تمثل خلاصة ما وصل إليه العاملون في أجهزة إستخبارات المنطقة وأوروبا والولايات المتحدة، من أن “التعامل مع الإسلاميين يجب أن يكون عبر فلسفة موحدة”. والملفت أن هذا اللقاء الأمني جاء بعد أيام قليلة عن إعلان قوانين السلم والمصالحة الوطنية التي نصت أيضا على “منع كل الإسلاميين الذين وظفوا الدين في خضم المأساة الوطنية من المشاركة في العمل السياسي”.
أزمة اجتماعية في الأفق
لم يذكر القانون أيا من السياسيين الإسلاميين بالإسم، غير أن الضمير المستتر هنا هو علي بن حاج، الرجل الثاني في الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، الذي أصبح يمثل – حسب مؤشرات ووقائع متواترة – الجهة الفكرية التي يجب عزلها ضمن أي معادلة سياسية داخلية بين العلمانيين والإسلاميين.
من جهة أخرى، أضحى واضحا للعيان أن علمانية الدولة لا يمكن مناقشتها بأي شكل من الأشكال، وأن على التيارات الإسلامية أن تتفهم قواعد اللعبة التي يظهر أن حركة مجتمع السلم بقيادة أبو جرة سلطاني قد فهمتها، لدرجة أن مناهج التربية الفكرية المطبقة حاليا في صفوف أتباع الحركة قد تراجعت فيها بشكل لافت كل الإشارات التقليدية إلى دور محمد بن عبد الوهاب الإصلاحي في الجزيرة العربية قبل قرنين، أو إلى النظريات الفلسفية التي أطلقها مالك بن نبي، المفكر الإسلامي الجزائري.
ويبدو أن على قياديين في الجبهة الإسلامية المحظورة، من قبيل أنور هدام، أن يبحثوا عن أنفسهم ضمن هذا التصور، والأظهر أن عبد العزيز بوتفليقة لن يتفهم تنديدهم بما يجري لهم، على اعتبار أنه على اقتناع تام بمبادئ الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، التي لا توجد مؤشرات على أنها مستعدة لتقبل أي تغيير في ما تم إقراره من قبل مجموعة من علمانيي الحركة الوطنية في مقاهي فرنسا خلال أربعينات القرن الماضي، أي قبل سنوات عديدة من الثورة التحريرية، التي اندلعت عام 1954.
يحدث كل هذا وسط أزمة اجتماعية خانقة، تلت رفض الرئيس الجزائري رفع أجور عمال الوظيف العمومي بحجة أن رفع الأجور مرتبط بالنمو الاقتصادي العام، وواضح بشكل لافت أن بوتفليقة مستعد معنويا لمواجهة الأسوأ مع الشارع الغاضب. و قد يرى الجزائريون رئيسا آخر غير الذي عرفوه في الأشهر القليلة الماضية، لأن بوتفليقة قد يكون مضطرا (عند قراءة كل الحسابات) لاستعمال العنف من أجل عودة الهدوء.
كما أظهرت طريقة سن قوانين السلم والمصالحة الوطنية أن الدولة، بمفهومها الضيق، تعيش واقعا يختلف عن واقع الغاضبين على رفض الرئاسة الترفيع في أجورهم التي لا تتعدى في بعض الأحيان 80 دولارا أمريكيا شهريا.
ومهما يكن من أمر، واعتمادا على التجارب الوطنية السابقة، قد يُضطر أنصار الجمهورية العلمانية المطلقة إلى الاستعانة بعلي بن حاج و أمثاله لتهدئة غضب ملايين من الشباب ممن لا عمل لهم، وممن قوى عودهم خلال سنوات الأزمة الثلاثة عشر، حيث انحسرت الأفكار وهمشت الثقافة بشكل خطير.
هيثم رباني – الجزائر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.