رفع حالة الطوارئ .. بين القبول والتأجيل!
لا زال الجدل قائما في الجزائر حول إلغاء حالة الطوارئ التي أعلنتها السلطات عقب إلغاء نتائج الدور الأول من انتخابات ديسمبر 1991 البرلمانية.
وعلى الرغم من إعلان الجيش هذه المرة بوضوح عن عدم معارضته للخطوة إلا أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لم يُـوافق عليها رسميا إلى حد الآن.
أعلن محمد العماري، قائد هيئة أركان الجيش الجزائري، أنه لا يرى مانعا في رفع حالة الطوارئ القائمة منذ أكثر من 12 عاما. غير أن الموافقة الرسمية على هذه الفكرة لم يقدمها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، الأمر الذي أدهش أكثر من مراقب للوضع الجزائري.
بسبب هذا الوضع الشاذ، ولأن الوضع الأمني تحسن بكثير مقارنة مع ما عاشته الجزائر خلال السنوات العشر الماضية، رفع ألف مواطن جزائري عريضة إلى الرئيس الجزائري وإلى السلطات بشكل عام، يطالبون من خلالها بإلغاء حالة الطوارئ.
وتضم قائمة الموقعين شخصيات سياسية من الوزن الثقيل، أمثال الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، زعيم حركة الوفاء، وعلي جداعي، السكرتير الأول السابق لحزب جبهة القوى الاشتراكية التي يتزعمها حسين آيت أحمد.
أما المبادرة، فكان عرّابها علي يحي عبد النور، رئيس الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان والذي أكد أن حالة الطوارئ لا معنى لها في الوقت الحالي وبأن رفعها أصبح ضرورة ومطلبا شعبيا، يجب أن يتحقق في أقرب الآجال.
أوضــاع غريبة
لم تلق المبادرة، رغم جديتها وأهميتها، أي صدى داخل أروقة الرئاسة الجزائرية ولا حتى في وزارة الداخلية، الأمر الذي فُهم منه أن رفع حالة الطوارئ لن يكون قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة أي بعد أربعة اشهر من الآن.
وعند المقارنة بين تصريحات قائد أركان الجيش الجزائري بشأن عدم معارضته إلغاء حالة الطوارئ وصمت الرئيس بشأنها، يُفهم أن عبد العزيز بوتفليقة لا يريد تغيير الوضع لأن نجاح خطته للفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة مرهون بهدوء شامل لا تعكر صفوه مظاهرات أو تجمعات المعارضين.
إن من أبجديات حالة الطوارئ، حظر التجمهر والتجمع والمظاهرات الحزبية، أو حتى تلك المرتبطة بوجدان الناس ومشاعرهم. ففي ظل حالة الطوارئ يُمنع الجزائريون من التظاهر لنصرة العراق أو الاحتجاج على ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولا يمكن للرئيس الجزائري من الناحية العملية قبول تغيير الوضع القائم، لأنه يفتقد إلى حزب قوي يناصره خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد أن رفض حزب جبهة التحرير الوطني الوقوف إلى جانبه كي يفوز بعهدة رئاسية ثانية.
وتتضح معالم استفادة الرئيس الجزائري من حالة الطوارئ عندما يُشاهد استغلاله المجحف للتلفزيون العمومي (القناة الوحيدة في البلاد) حيث أصبح هذا الجهاز الهام، انطلاقا من تصور بوتفليقة، في خدمة الرئيس مدحا وشكرا وتمجيدا.
يُضاف إلى ذلك الدعم الذي يقدمه التلفزيون الجزائري لما يُعرف بالحركة التصحيحية التي يشرف عليها وزير الخارجية عبد العزيز بلخادم، وهي حركة تهدف للإطاحة بعلي بن فليس، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، وتعويضه بشخص آخر يُزكي ترشح بوتفليقة لفترة رئاسية ثانية. ومع أن الحركة التصحيحية عادة ما تنتحل صفة جبهة التحرير إلا أن زعيمها وزير الخارجية الحالي لا يملك بطاقة العضوية في الجبهة، كما أنه فصل منها منذ أكثر من خمسة أعوام.
وما كان لأوضاع غريبة كهذه أن تحدث لولا الاستغلال المجحف لحالة الطوارئ التي منحت لوزير الداخلية نور الدين يزيد زرهوني صلاحيات قانونية أسكت بها جميع معارضيه أو ألزمهم التقوقع داخل مقرات الأحزاب ودور السينما.
فراغ هائل!
ويرى الكثير من المراقبين أن الوضع الجزائري الحالي يثير الاستغراب والإعجاب في آن واحد، لأن الرئيس الجزائري يتحرك بكل ثقة مرتكزا على حالة الطوارئ ومعتمدا على تغيير سياسة الجيش الجزائري الذي التزم هذه المرة صمت القبور حيال دعم هذا المرشح أو ذاك.
يتحدث المقربون من المؤسسة العسكرية عن تغيير طريقة تفكيرها واعتمادها مبدأ السياسة للمدنيين والحرب للعسكريين. ويضيف العارفون بخبايا الأمور أن الجيش يريد تحديث آليات عمله كي يتحول إلى جيش حرفي يندمج ضمن الحسابات الإقليمية التي تسمح له بترقية قدراته القتالية التي يحتاجها ضمن عالم مليء بالمفاجآت.
غير أن الرئيس الجزائري فسر انسحاب الجيش بأنه ضعف أمام الأدلة التي يملكها بشأن تورطه في أعمال الذبح والاختطاف خلال سنوات الأزمة الجزائرية، وبأن الجيش يخشى من بوتفليقة الذي يريد تحجيم دوره والانتقام منه.
وعلى ضوء هذه القناعة، بنى بوتفليقة مشاريعه الانتخابية بشكل يعارض التصورات المعروفة عن وزارة الدفاع، وفضل التعاون مع الإسلاميين، وهم أكثر المتضررين من استمرار العمل بقوانين الطوارئ.
كما يتعاون بوتفليقة في الوقت الحالي مع رئيس الحكومة وزعيم التجمع الوطني الديمقراطي، أحمد أويحي، عدو الإسلاميين اللدود، أي أن الرئيس وُفق في جمع المتناقضات داخل سلة واحدة.
والقناعة السائدة، هي أن هذه الفوضى مردّها إلى الانسحاب المفاجئ للمؤسسة العسكرية من الساحة السياسية، الأمر الذي أحدث فراغا هائلا يمكن كل مسؤول أو مغرور أو مغامر من فعل ما يريد.
ومن بين الذين فهموا أبعاد هذا الفراغ الخطير، الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، زعيم حركة الوفاء، الذي قال: “إن انسحاب الجيش أمر مطلوب. لكن يجب أن يتم بالتدريج”.
وقائل هذا الكلام كثيرا ما انتقد الجيش الذي لا يثق في توجهاته الإسلامية، ورغم ذلك، فضل الإبراهيمي الحديث الصريح مع خصومه كي لا يتحول فراغ الانسحاب إلى مهدد لكيان الدولة.
حسابات وتناقضات
كل ما يظهر على السطح من تجانس بين أجهزة الدولة يخفي وراءه تناقضات هائلة لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. فحتى حسين آيت أحمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية هاجم الجيش، خصمه التقليدي متهما إياه بارتكاب المذابح وباختطاف المدنيين.
ورد الجيش برفع دعوى قضائية يُطالب فيها آيت أحمد بإحضار الدليل على ما يقول، ثم ما لبث آيت أحمد أن قبل اللجوء إلى المحاكم في محاولة منه لاجتثاث ما يصفه بالمرض الذي أتى على الأخضر واليابس في الجزائر.
ويبدو أن هذه المعركة لن تخدم إلا الرئيس الجزائري الذي يرى في آيت أحمد حليفا جديا يقلق الجيش ويمنعه من ربح النقاط التي تفسد عليه فوزا ثانيا بمنصب الرئاسة.
وفي نفس الوقت، من المتوقع أن لا يصمد هذا التحالف طويلا لأن مفهوم الدولة عند آيت أحمد مختلف عن القناعات التي يحملها بوتفليقة. فعندما يريد الأول دولة ديموقراطية على الطراز الغربي، يفضل الثاني مملكة في شكل جمهورية لا يعرف فيها المستشارون والأعوان سوى تطبيق الأوامر.
كـنـز .. ثمين!
من ناحيته، لم يقل علي بن فليس، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، كلمته إلى حد الآن، ويُـنتَـظر أن يحدُث هذا بعد عيد الفطر، بوقت قصير.
وانطلاقا مما يقوله الرجل عن تفضيله لدولة التعددية واحترام الحريات، قد يعمل بن فليس على تدارك الفراغ الذي نجم عن انسحاب المؤسسة العسكرية من الساحة السياسية. كما أن الإسلاميين قد يتداركون خطأهم عندما تحالفوا مع الرافضين لرفع حالة الطوارئ.
ويبقى أن المتحالفين شكليا مع الرئيس الجزائري من الإسلاميين أهمهم الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة التي تستمع في نفس الوقت إلى زعيم إسلامي آخر، هو الشيخ عبد الله جاب الله الذي لا يثق كثيرا في أفكار الرئيس الجزائري.
نظريا وعمليا، تعتبر مهمة علي بن فليس صعبة جدا، لأنه سيكون من أوائل السياسيين الذين يتعاملون مع الفراغ الناتج عن انسحاب العسكريين، لا لأن الانسحاب في حد ذاته مشكلة، بل لأن عبد العزيز بوتفليقة اكتشف بدهائه السياسي أن دخول الجيش إلى الثكنات كنز ثمين لا ينبغي أن يطلع عليه أحد.
كما أن السؤال جدي فعلا حول نوايا علي بن فليس أقوى خصوم بوتفليقة خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة. فهل سيعمل بن فليس على إبقاء الكنز خافيا، أم أنه يريد إظهاره للجزائريين كي يأخذوا حقهم منه؟
هنا يكمن الفرق الجوهري بين رجل الدولة ورجل السياسة. ذلك أن رجل الدولة يغار على وحدة البلاد، لأنها أفضل ضمان له كي ينجح في إنجاز مهمته، أما رجل السياسة فان تحقيق أهدافه مرهون بالاستفادة من التناقضات .. كل التناقضات.
هيثم رباني – الجزائر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.