زيارة إلى حقول الموت في جنوب لبنان
يشتهر الجنوب اللبناني بمساحاته الخضراء الواسعة، التي تضم حقولا مترامية الأطراف لمختلف المحاصيل الزراعية، مثل البرتقال والليمون الزيتون والموز.، وعندما تمر وسط هذه المروج الخضراء، فإنك تلاحظ على مرمى البصر أشجارا محملة بثمار حان قطافها، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منها.
أصبحت تلك الحقول مصيدة للموت، وتحاول الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون المساهمة في جهود التخلص من تلك الألغام، بالتقنية والمساعدة المالية أيضا.
لا ينقطع الحديث في جنوب لبنان عن خطر القنابل العنقودية والألغام الأرضية، وتصادفك في جميع الطرقات والأزقة لائحات التحذير والإنذار، “لا تلمس” “لا تلتقط” “انتبه” “خطر الألغام”، عبارات تقرؤها على الجدران وفوق أعمدة الإنارة، ولا تستطيع تجاهلها لأنها تستفز حواسك لتكون على أهبة الإستعداد، فمن يدري في أي شيء ستتعثر قدماك في الخطوات التالية.
ويقول فريدريك شتاينيمان مدير مكتب الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون في بيروت لسويس انفو، “إن المشكلة أخطر مما يتوقع البعض، فالقنابل العنقودية منتشرة تقريبا في كل الجنوب. ما انفجر منها قد رحل، أما ما تبقى فهي ألغام موقوتة لا يعلم أحد أين تختبئ أو متى ستنفجر، ولم يكن في الحسبان ظهور ألغام أرضية أيضا، مما يستوجب مراجعة جديدة لبرامج نزع الألغام، والتخلص منها”.
ويجزم خبراء الأمم المتحدة أن عدد القنابل العنقودية التي سقطت على جنوب لبنان لم تقل عن المليون؛ ولذا فليس من المستغرب أن يتولى 50 فريقا دوليا العمل في البحث عنها ومحاولة التخلص منها بأقل الخسائر الممكنة.
ثمار الحنظل
توجهت سويس انفو إلى الحلوسية، قرية زراعية جبلية تشتم في هوائها رائحة البرتقال القابع فوق أشجاره، أو تحمل إليك النسمات عطر الليمون الذي يكاد يموت على أغصانه، طرقات مغلقة بالأشرطة ذات اللونين الأحمر والأبيض على امتداد كيلومترات، فهي مناطق الخطر التي لا يجوز الاقتراب منها، باتت حقول موت.
يروي لك أهالي الحلوسية أقاصيص حول الألغام والقنابل العنقودية، أشبه ما تكون بأفلام المغامرات، ويقول لك أحدهم “كنا نعتقد أن مفعول القنابل العنقودية ينتهى إذ سقطت ولم تنفجر، وكان بعض الشباب والرجال يبدءون في جمعها كما لو كانت تذكارات، أو للتخلص منها فيما بعد بأي طريقة ممكنة، لكننا اكتشفنا أننا كنا نجمع ثمار الحنظل، ففي إحدى الأيام انفجرت مجموعة من تلك القنابل، حملها شابان من أبناء القرية لمحاولة إعداد ألعاب نارية بمناسبة عيد الفطر، لكن الحفل انقلب إلى مأتم، فقد انفجرت القنابل، فمات أحدهم وعمره 18 عاما والآخر فقد ساقيه في الحادث”.
وفي قمة تلال الحلوسية، التقت سويس انفو مع فريق العمل؛ خبيران بريطانيان في الكشف عن الألغام والتعامل معها، وحوالي 10 أشخاص يجوبون حقول الزيتون خطوة بخطوة، بحثا عن الألغام.
التعليمات واضحة وصريحة ولاءات كثيرة تحيط بك … “لا تلمس شيئا”، “لا تتحرك بعيدا عن الخبير”، “لا تستعمل الهاتف المحمول” .. إلخ، حرصنا على معايشة التجربة عن قرب، وما عليك إلا أن تكتب اسمك وفصيلة دمك وتستمع إلى قائمة التعليمات من الخبير، يقولها لك مرة واثنتين وثلاث حتى تستوعب كل شيئ.
إذا كان خبير الألغام يسير أمامك وهو لا يعرف ماذا ينتظره، فلاشك أن دقات قلبك ستعلو ليسمعها من حولك عندما تسير خلفه، وستتسابق خطاك لتكاد تكون ظل هذا الخبير لا تحيد عنه درجة واحدة، إلى أن تصل إلى مزرعة الزيتون سابقا أو المعطلة إلى حين إشعار آخر، العمل يسير في هدوء شديد، الباحثون عن الحنظل (القنابل العنقودية) يتحركون ببطء خلف الخوذة الواقية والدرع المقاوم للانفجار، ومعهم المجسات التي يرهفون السمع لكل صوت يصدر عنها.
عيناك هما كل ما يمكن أن تحركه بسهولة في هذا المكان، فترى حولك علامات إرشادية فوق أماكن الألغام التي تم العثور عليها وتنتظر تفجيرها، وعلامات أخرى على أماكن يشتبه أن يكون بها ألغام على عمق كبير، وأماكن تم تفجير الألغام فيها لكنها تركت بقايا يجب تنظيفها، عمل ما أن ينتهي هنا حتى يبدأ في مكان آخر في نفس الحقل أو البستان، ولا يعرف أحد متى سيرحل الموت من تلك الحدائق والمزارع.
تظهر الخبرة السويسرية هنا بوضوح، فقد طور عسكري سويسري طريقة قديمة للتخلص من الألغام لتتناسب مع “الحالة العنقودية” في الجنوب، فهو لا ينقل اللغم من مكانه، وإنما يصوب عليها قذيفة من النحاس من على مسافة قريبة للغاية تنطلق بالتحكم عن بعد، فتخترق جسم اللغم لتجبره على الإنفجار، نسبة نجاح هذه الطريقة 100% حتى الآن وتم تطبيقها على الفور لأنها أكثر الطرق فعالية واقلها ضررا على البشر، إذ تترك ورائها قطعا صغيرة من المعادن تتناثر في كل مكان.
وتمول الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون هذه التقنية بعد أن اقتنع جميع العاملين في هذا المجال أنها الأكثر فعالية والأقل ضررا على الإنسان، أما الأضرار التي تلحق بالبيئة من النفايات المعدنية التي تتسلل إليها أمام عينيك فلا أحد يريد الحديث عنها الآن، المهم أن يتمكن الفلاحون من دخول مزارعهم في أمان، أما التخلص من بقايا المعادن والنفايات فهذه قصة أخرى.
مخاوف من قلة التمويل
يقول دانيال روتاخر مدير البرامج في الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون “إن هناك تعاونا دوليا، بين مختلف الجهات الراغبة في الكشف عن الألغام والتخلص منها وبين الحكومة اللبنانية، فهناك لقاءات دورية لدراسة آخر التقارير التي يعدها كل فريق، وتجديد الخرائط كل فترة وتقييم الموقف”.
لكن الأمر يبدو في واقعه أعقد مما هو على الورق، فقد بلغ عدد ضحايا الألغام والقنابل العنقودية في جنوب لبنان منذ انتهاء الحرب وحتى نهاية نوفمبر الماضي 23 قتيلا و 136 مصابا أغلبهم من الأطفال والمزارعين، فامتنع الفلاحون عن التوجه إلى المزارع والحقول، وأصبحوا ينتظرون الموت مع كل خطوة يخطونها فوق الأرض، ولا يعلمون إن كان من يذهب إلى هناك بحثا عن عمل بسيط أو حبات من البرتقال أو الزيتون سيعود مرة أخرى، فهناك في الحلوسية مثلما هو الحال في غيرها من القرى المحيطة بها “الخارج مفقود والعائد مولود”.
يتخوف ابناء الجنوب من نضوب الأموال التي تمول عمليات البحث عن تلك الألغام وتدميرها، فيرحل الخبراء وتبقى الأرض على حالها .. أشجار شاخصة لا يستطيع أحد ألإقتراب منها، وثمار تتهاوى لا تجد من يبيعها، وألغام كامنة تتربص بمن يبعث به القدر إليها.
أهالي القرية يتابعون عن كثب عمليات التطهير تلك، ويترقبون اليوم الذي يتخلصون فيه من هذا الركود، ويسمعون فيه أن أبي فلان تمكن من العودة إلى مزرعته أو أن الشاحنات ستبدأ في المرور في الطرقات الجبلية لنقل المحاصيل، ويقول لنا عجوز أثناء مغادرتنا القرية “علمت أولادي الزراعة بكل أسرارها، ولكنني نسيت أن أعلمهم كيف يجمعون عناقيد القنابل”.
سويس انفو – تامر أبوالعينين – الحلوسية – قضاء صور
يقول خبراء الألغام إن القنابل العنقودية منتشرة في الجنوب اللبناني بشكل أكثر مما يعتقده الجميع، وتصل إلى حوالي مليون قنبلة، من الصعب التعرف على أماكن انتشارها، لكن المؤكد أن إسرائيل قامت بقصف حوالي 770 موقعا مستخدمة القنابل العنقودية، 40% لم تنفجر بعد إرتطامها بالأرض.
يتوقع العاملون في الكشف عن الألغام والتخلص منها في الجنوب أن عملهم قد يستغرق قرابة العامين لإتمام جزء هام من عملهم، هذا إذا تواصل دعم الدول المانحة لهم.
يعتبر مناهضو الحرب أن استخدام القنابل العنقودية هو إمتداد للحرب ولكن بشكل آخر، إذ يترصد الموت كل من يقترب من المزارع.
ادى انتشار القنابل العنقودية إلى ركود إقتصادي كبير بسبب خوف المزارعين من التوجه إلى حقولهم، ومن يغامر قد يفقد حياته أو احدى ساقية أو كلاهما.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.