سابقة عربية في “جبر الضرر الجماعي” لضحايا القمع
لأول مرة تقبل بلاد عربية وإسلامية هي المغرب بتنفيذ مشروع يتعلق بجبر الضرر الجماعي الذي ترتب عن سياسات القمع المفرط للدولة في مراحل تاريخية سابقة.
ولأول مرة أيضا يلتزم الاتحاد الأوروبي بدعم وتمويل خطة تهدف إلى مساعدة شعب على تجاوز الآثار النفسية والسياسية والاجتماعية لما يسميه المغاربة بـ “سنوات الرصاص”.
في هذا السياق، تتنزل “بعثة الدعم الأوروبي لمواكبة ظروف تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة”. وقد قام السيد خميس الشماري، الوجه الحقوقي التونسي والدولي المعروف بالتعاون مع مع خبير آخر (إيطالي من أصل أرجنتيني)، بزيارتين إلى المغرب، لمعاينة المناطق التي تضررت من سياسات القمع، وعانت منذ الستينات والسبعينات من تهميش مقصود وممنهج.
قبل التعرف على هذه المناطق السبع التي لا يزال أهلها يئنون من وطأة ماض ثقيل ومسكون بذكريات الرعب والخوف، لابد من التوقف عند مسار طويل أدى إلى كشف الحقيقة كاملة أو تكاد.
في سنة 1991، أدرك الملك الحسن الثاني بأنه لم يعد بالإمكـان التغـــاضي عن ملــف “المعتقلات السرية”، ولهذا قرر أن يعالجه بطريقته الخاصة. فقام في البداية بإطلاق سراح المساجين السياسيين، الذين كانوا ينتمون إلى مجموعات أقصى اليسار، وكذلك الذين اعتقلوا على إثر أحداث الصخيرات والقنيطرة. وقبل نهاية عهده، وتمهيدا لانتقال هادئ للعرش، قام بتعيين لجنة عمل داخل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، التي كلفت بدراسة مصير الأشخاص الذين تم إطلاق سراحهم وشملهم العفو الذي صدر عام 1994.
الملك محمد السادس من جهته، قرر بعد توليه الملك أن ينهي هذا الموضوع، وهكذا تبلور اقتراح تشكيل “هيئة التحكيم المستقلة من أجل التعويض” التي تأسست بتاريخ 16 أغسطس 1999. مع الملاحظ أنه لم يستعمل إلى ذلك التاريخ مصطلح “جبر الضرر”. وبعد دراسة 3700 ملف، قدمت تعويضات لعدد واسع من العائلات قدرت بحوالي 100 مليون أورو.
لكن ذلك لم يرتق إلى المستوى الذي تطالب به الحركة الحقوقية المغربية، وهو ما أدى في نفس السنة (1999) إلى تكوين “المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”، وفي ذلك استعادة لصيغة “لجان الحقيقة والإنصاف” التي عرفتها 29 تجربة في أنحاء متفرقة من العالم.
جبر الضرر الفردي .. والجماعي!
وفي هذا السياق بدأ يكتشف الحقوقيون المغاربة الفوارق التي تميز مفهوم “جبر الضرر” عن مفهوم “التعويض”. وفي خط مواز، لاحظوا أن الفكر الحقوقي العالمي تجاوز مفهوم العفو خشية أن يؤدي إلى “الإفلات من العقاب” بالنسبة للجلادين، نظرا لكون العفو قد يشمل الضحية والجلاد.
وهنا يشكل جبر الضرر صيغة يمكن الاعتماد عليها في المرحلة الانتقالية التي يمر بها شعب من حكم استبدادي إلى وضع تحرري. ومن دون معالجة هذه القضية الشائكة، فإن المرحلة الانتقالية تكون عرضة للعرقلة وربما الانتكاس. وإذا كان هناك من يرى بأن النسيان من أجل البناء هو الكفيل وحده بتجاوز الماضي، فإن هناك في المقابل من يعتبر بأن النسيان ليس كفيلا ولا ممكنا لتجاوز جرائم الماضي.
هذا المخاض السياسي والحقوقي أدى إلى تأسيس “هيئة الحقيقة والإنصاف” (في يوم 7 يناير 2004). هذه الهيئة التي كانت سابقة هامة في تاريخ المنطقة العربية، قدمت مع أواخر شهر نوفمبر من عام 2005 تقريرا إلى الملك محمد السادس يضم 700 صفحة، وينقسم إلى أربعة محاور، وخصص لكل محور توصيات ومقترحات.
تعلق المحور الأول بالتعويض وجبر الضرر الفردي، الذي سيشمل 9778 حالة، ومن المفترض أن يكون أصحابها قد بدأوا هذه الأيام في تلقي التعويضات التي حددت لهم.أما المحور الثاني فيخص “تقصي الحقائق”، ويشمل ذلك جانبين: تحقيقات ميدانية خاصة بالمفقودين، وثانيا إعادة كتابة وقراءة التاريخ الحديث للمغرب. وستتجسد هذه الخطوة قريبا مع تأسيس ” المعهد المغربي حـول التــاريخ المعــاصر “. ويشمل المحور الثالث عددا من الإصلاحات القانونية والسياسية والهيكلية التي اقترحتها الهيئة حتى لا تعود الأوضاع إلى ما كنت عليه.
أخيرا، خصصت الهيئة محورا عن “جبر الضرر الجماعي”. وهي فكرة لا تزال جديدة على الصعيد الدولي. فالتجارب التي اعتمدت هذا المبدأ محدودة جدا، مثل تجربة جنوب إفريقيا والبيرو.
مناطق خارج استراتيجيات التنمية..
تعرضت أعمال “هيئة الإنصاف والمصالحة”، رغم الجهود الجبارة التي قامت بها، إلى نقد من قبل الأوساط التي تعتقد بأن هذه المعركة خاضها المجتمع المدني، فلماذا القبول بتدخل الدولة، التي ستعمل بالضرورة على توظيف هذا المسار.
واعتبرت هذه الأوساط أيضا بأن ما تم إنجازه يستند على مراوغة خطيرة، وذلك بإقناع الضحايا بالتخلي عن المسار القضائي وتقديم قضايا ضد الجلادين. كما اعتبروا بأنه لا توجد إرادة سياسية لمعاقبة المسؤولين على “سنوات الرصاص”، إلى جانب أن الفترة الزمنية التي غطتها اللجنة تبدأ من عام 1956 وتقف عند حدود عام 1999، أي أنها لا تشمل العهد الحالي، الذي يعتقد المعارضون بأنه شهد أيضا مخالفات خطيرة بعد الأحداث الإرهابية التي شهدتها الدار البيضاء في 16 مايو 2004.
لقد تصدى أعضاء اللجنة ومن يساندهم لتلك الاعتراضات، لكن هذا المناخ الحيوي والمتحرك للمجتمع المدني المغربي، ينجح باستمرار في تحقيق تقدم نسبي والحيلولة دون تجميد القضايا الأساسية أو تهميشها. فهذا الجدل المتواصل، والانتقال إلى مرحلة تحديد الإمكانات لتنفيذ التوصيات الواردة بتقرير اللجنة، لفتا الانتباه إلى حجم الضرر الجماعي الذي حصل، وربطه بالتوجه الإنمائي.
حسب التقرير الذي أعده الشماري مع زميله هناك سبع مناطق بقيت خارج “استراتيجيات التنمية” في المملكة. فبعض أهالي هذه المناطق حصل لهم ضرر كبير بسبب إقامة المعتقلات السرية قرب منازلهم، فحرموا بسبب ذلك من أبسط الخدمات مثل الطرقات والمراكز الصحية والمدارس والمياه الصالحة للشرب، وتعرضوا لمختلف المضايقات التعسفية.
ومن جهة أخرى، هناك مناطق اتهمتها السلطة بدعم معارضين، وتسهيل تنقلاتهم، والتستر عليهم، مما ترتب عنه إصدار عقاب جماعي، أدى إلى خلق فجوة أصبحت عبر السنين تفصلهم عن بقية المناطق المغربية الأخرى.
وللتأكد من ذلك، تمت العودة إلى نسب النمو وتوزيع ميزانيات الدولة على الولايات (المحافظات)، وعلاقة ذلك بالأحداث الكبرى التي شهدها المغرب مثل حرب الرمال، والانتفاضات الشعبية أو بالريف، وكذا محاولات قلب نظام الحكم في بداية السبعينات. ومن هذه المناطق إقليم الحسيمة بالريف، وإقليم زاقورا وورززات بالجنوب الشرقي، وإقليم فقيق على الحدود الجزائرية، وإقليم الراشدية وخنيفرة في الأطلس المتوسط.
الحكومة والإتحاد الأوروبي
لم يكن بالإمكان أن يتحقق هذا المشروع بدون سند من الحكومة وتعاون معها. فالدولة التزمت بدفع القسط الأكبر من ميزانية جبر الضرر الجماعي. لكن الخطة الهيكلية التي وضعت، أعطت مكانة بارزة وأساسية لممثلي أربعين جمعية غير حكومية موزعة على تلك المناطق بما فيها جمعيات موجود بالمهجر وتتشكل من أبناء الجهات المنكوبة.
وتعمل كل هذه الجمعيات في مجال التنمية، ولها صلة مباشرة بالمواطنين سكان تلك المناطق، وذلك حفظا على المصداقية، ودعما للشفافية. كما أن من بين الضمانات التي توفرت لإنجاح هذه الخطة تفويض السيد إدريس اليازمي، الوجه الحقوقي المعروف مغربيا وعالميا من قبل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان لمتابعة هذا الملف.
ويشير الشماري إلى أن “اللجنة الوطنية لمتابعة جبر الضرر الجماعي” التي تشكلت مؤخرا، قد انقسمت بدورها إلى أربع مجموعات عمل. وستتناول كل مجموعة مسألة جبر الضرر حسب الجوانب التالية: من وجهة النظر الإنمائية، ومقاربة النوع (أي وضع النساء)، والذاكرة والتاريخ والأرشيف، والهجرة (حيث أن عددا من المهاجرين دفعوا لمغاردة البلاد نتيجة القمع).
أخيرا، يعتبر خميس الشماري أن قيمة الدعم الأوروبي لهذا الموضوع لا تزال محدودة، فهي لم تتجاوز ثلاثة ملايين أورو، لكنه شدد على أهمية المبادرة، وبالأخص قبول الحكومة المغربية لتكون طرفا أساسيا في إنجاز هذه التجربة النوعية والهامة على أكثر من صعيد.
صلاح الدين الجورشي – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.