حـلمُ تحقّـق .. وقلبٌ اشتاق
الحلم تحقق لعازف تشيلو وصانع الكمان العراقي نبيل هاني عبد السلام الذي يقوم بدورة تدريبية لتصليح وصناعة الآلات في مدينة تون السويسرية.
والقلب المشتاق للعراق هو لزميله عازف الساكسوفون جعفر خصاف الذي يتدرب على إصلاح الآلات الهوائية في برن. الموسيقيان يزوران سويسرا بفضل تضافر جهود أطراف رسمية وغير رسمية.
قد يبدو التفكير في حاضر ومستقبل الموسيقى في عراق اليوم خزعبلة لا تحترم الأرواح التي تسقط يوميا في بلاد الرافدين، في ظل التواجد العسكري الأمريكي والتفجيرات والعمليات الإنتحارية التي حولت حياة الشعب العراقي إلى جحيم.
فأي مكان لغذاء الروح في حين يتعرض الجسد يوميا لمخاطر انعدام الأمن ومصاعب الافتقار للضروريات الأساسية؟ لكن التعمق في المسألة قد يرسي على استقراء منطقي..
التدمير العبثي للأرواح العراقية تزامن مع تدمير لمعالم حضارة من أعرق الحضارات في العالم. لم تسلم بابل من عمليات التخريب ولا ملوية سامراء، إحدى أبرز الآثار الإسلامية التي يعود بناءها إلى زهاء ألف ومائتي عام.
سُلبت المكتبات ونُهبت المتاحف وحُطمت المسارح وكُسرت الآلات في مدارس الموسيقى ببغداد وغيرها…اختلط الحابل بالنابل واحتار العراقيون والعالم معهم. هل اليد المُدمرة أمريكية، عراقية، أجنبية، أم أيد مُختلطة؟ هل يُعقل أن يتعمد شعب تدمير حضارته بنفسه؟…الأسئلة كثيرة والتخمينات أكثر، لكن النتيجة واحدة: اعتداء واضح وفاضح على مقومات حضارة.
تحرك سويسري مُبكر
وكان من الشهود العيان على آثار سلب مدرسة الموسيقى والباليه في بغداد التي يعود تأسيسها لعام 1968، الصحفي السويسري الراحل جون بيير غربر الذي وصف ما شاهده في برنامج بثته إذاعة سويسرا المتحدثة بالألمانية يوم 29 أبريل 2003، قائلا:
“توجد في كل مكان تلال من الآلات المُكسرة. المخربون قاموا بعمل مُتقن. أخرجوا كافة الآلات من علبها بهدف تحطيمها جزء بجزء، وهكذا تم تكسير 300 آلة من أنواع مختلفة”.
شهادة الصحفي غربر – الذي لقي حتفه في حادثة بعد فترة قصيرة من بث البرنامج- أثارت موجة واسعة من التضامن في سويسرا، حيث تبرع أفراد بالأموال والآلات الموسيقية لمساعدة المدرسة البغدادية المُدمرة استجابة لرغبة غربر وتكريما لذكراه.
وتطوعت مدرسة “جيكلين” للموسيقى بزيورخ لإصلاح آلات موسيقية مختلفة لإهداءها للمُدرسين والتلاميذ العراقيين في مدرسة الموسيقى والباليه.
السيد بيتر شولر (80 عاما)، أحد المسؤولين عن جمعية “موسيقى وحياة” السويسرية، قرر مواصلة إنجاز مشروع صديقه الراحل غربر، فتولى بنشاط وحيوية فائقتين جمع التبرعات وتنسيق عمليات إيصال الآلات إلى بغداد في ظروف الحرب العصيبة، بمساعدة قيمة من مدير مكتب الاتصال السويسري في بغداد السفير مارتين إيشباخر.
وبعد رحلة مليئة بالأخطار والمغامرات، حدثت “المعجزة”، كما وصفها السيد شولر في لقاء مع سويس انفو، إذ وصلت الشحنة الأولى من الآلات الموسيقية سالمة إلى مكتب الاتصال السويسري في بغداد يوم 20 سبتمبر 2003 الذي احتفظ بها إلى أن تحسنت الأوضاع الأمنية بعض الشيء.
وفي 6 مارس 2004، سُلمت الهدايا لأساتذة وتلاميذ مدرسة الموسيقى والباليه لتملأ قلوبهم سعادة وتفاؤلا، لأن مواصلة العزف والحياة الفنية عموما تمثل بالنسبة لهم تحديا للوضع القائم ومتنفسا في ظروف الحرب. فشتان بين أنغام الموسيقى والطرب ودوي الدبابات والتفجيرات..
دورة تدريبية لـ “تُحفتين” عراقيتين
وفي إطار نفس التحرك السويسري، تم إهداء كمان الصحفي الراحل غربر لصديقه هشام شرف، قائد الأوركسترا السمفونية الوطنية العراقية الذي يشرف أيضا على مدرسة الموسيقى والباليه.
وكان من آمال قائد الأوركسترا منح فرصة لعازف أو عازفين للاستفادة من دورة تدريبية في الخارج لتعلم إصلاح الآلات الموسيقية على أسس علمية وإفادة زملاءهم وتلاميذ مدرسة الموسيقى من تجربتهم لاحقا.
الاستجابة كانت فورية من السفير مارتين إيشباخر، محب الموسيقى وعازف آلة تشيلو، الذي سارع بالاتصال بوكالة التعاون والتنمية السويسرية التابعة لوزارة الخارجية التي لم تتردد في تقديم مبلغ 25 ألف فرنك لتمويل دورة تدريبية تستغرق ثلاثة أشهر في سويسرا للمرشحين، نبيل هاني عبد السلام، عازف آلات وترية، وجعفر خصاف، عازف آلات هوائية.
هما مُرشحان فوق العادة ولم يكن اختيارهما عشوائيا. لدى زيارة سويس انفو للسيد عبد السلام في مدينة تون، وللسيد خصاف في مدينة برن، لـَمَست مواهب مُذهلة وطاقات لا تنفذ وإرادة تُفتت الصخر.
لا صواريخ الحرب أضعفت عزيمة الأول الذي صنع بمفرده وبإمكانياته الخاصة وبدون أية دراسة نظرية مسبقة 9 آلات كمان وآلة تشيلو تحت القذائف الأمريكية، ولا طلقة الرصاص الأمريكية التي أصابت صدر الثاني على بـُعد بضعة سنتمترات من القلب – وهو أمام باب بيته – شلت عزيمته لإحياء المزيد من السهرات وإسماع صوت الموسيقى في كل مكان والمساهمة في بناء عراق الغد.
استمعت لحكايتهما ومشوارهما مُندهشةً ومُعجـَبـَة. حدثـّاني بتواضع عجيب وحماس غريب عن قائمة تخصصاتهما وهواياتهما وتجاربهما، وصدى الحرب في بلادهما يرن في ذهني في كل ثانية. من أين جاءت تلك العزيمة الاستثنائية والذكاء الخارق؟ لو كانتا خصلتين عامتين في العراق، لاطمأن المرء على مستقبل تلك البلاد العريقة .. شرط ألا يستهدفهما أحد..
عزيمة خارقة
أكبر العازفيـْن سنا، عازف تشيلو وصانع الكمان نبيل هاني عبد السلام (في الأربعينات من العمر، أب لخمسة اطفال)، يهوى تصليح الآلات الموسيقية منذ 15 عاما. يحب أيضا الرسم والتصوير والتعامل مع مادة الخشب. خطرت عليه فكرة تصنيع آلة تشيلو خاصة به عام 1996، وظلت الفكرة تنضج في ذهنه لمدة ثلاث أو أربع سنوات علما أن العالم العربي لا يتوفر على مدرسة لصنع آلات الكمان والتشيلو.
استعان بكتب أهداها له بعض الأصدقاء من لندن وتأمل لمدة ساعات عمل نحات خشب في بغداد. ثم ابتكر أدواته الخاصة لتصميم وصنع أول كمان له. جلب الخشب من شمال العراق وعمل في بيته لمدة عشر ساعات يومية على الأقل ودوي القصف والصواريخ يصم الآذان. كان الكمان الأول جاهزا في ستة أشهر، والثاني في أربعة والثالث في ثلاثة إلى أن تمكن من صنع الكمان في أسبوعين.
لم يصدق أصدقاؤه العازفون ما رأوا ووصفوه بـ”المعجزة”. أخذ العازف نبيل هاني عبد السلام آخر نموذج صنعه في رحلة إلى الخارج بعد سقوط النظام، التقى خلالها عازف التشيلو العالمي الشهير، الصيني يويو ما. لم يصدق بدوره أن الموسيقي العراقي صنع بنفسه آلة كمان بجودة وإتقان يضاهيان الآلات المصنوعة من طرف خريجي مدارس متخصصة تتطلب سنوات من التعليم. أشاد بإنجازه وأهدى له خشبا غالي الثمن لتصنيع أول تشيلو له. وهكذا صنع الفنان العراقي آلة تشيلو التي أبهرت السفير السويسري في بغداد لتنشأ بينهما صداقة موسيقية.
والآن، حقق في سويسرا في مدة قصيرة جدا حلما راوده منذ سنوات: تصليح وصنع الآلات على قواعد علمية. قال في لقاءه مع سويس انفو: “زرت ورشات في الخارج، وكنت أتمنى أن يعود بي الزمن لأكون طالبا وأدرس”. أصبح طالبا لمدة ثلاثة أشهر أثبت فيها ذكاء خارقا وانضباطا كبيرا ومهارة عالية أدهشت أستاذه السويسري دانييل شرانتس ومنسق الدورة التدريبية بيتر شولر اللذين عبرا في تصريحات لسويس انفو عن إعجابهما الكبير بشخصية الفنان نبيل هاني عبد السلام وتفاؤله حول مستقبل العراق. واعتبرا قدومه إلى سويسرا والتعامل معه “حظا” بالنسبة لهما.
لكن تواضع الفنان عبد السلام يظل سيد الموقف: “أنا في رأيي، يظل الإنسان صغيرا مهما يعمل ومهما يصل إلى درجة يتخيلها عالية، فالعلم بحر ويصعب على الإنسان الوصول إلى أشياء كثيرة”.
حبّ وحنين للوطن
نفس المهارة أثبتها العازف الأصغر سنا، جعفر خصاف (33 عاما وأب لستة أطفال) في ورشة دار “بوري” للموسيقى في برن حيث يتدرب على إصلاح وعزف الآلات الهوائية. لم يصدق أحد في الورشة السويسرية والفنانون الذين التقى بهم وأحيى معهم بعض الحفلات في سويسرا أنه تعلم عزف آلة الأوبو الهوائية في ظرف ستة أشهر فقط بينما يتطلب تعلمها سنوات من الدراسة. ذلك بالإضافة إلى قائمة تخصصاته. فهو مهندس صوت، وخريج معهد فنون جميلة قسم آلة العود، وخريج مدرسة الموسيقى العسكرية آلة الساكسوفون والفلوت، تعلم أيضا تصليح الآلات بنفسه، ملحن وكاتب موسيقي…
وصف الفنان خصاف حصيلة الدورة التدريبية في سويسرا بالـ”جيدة جدا”، قائلا: “اكتسبت خبرة أكيدة وقوية في مجال التصليح والعزف أيضا، لأنني احتكيت بعازفين وسألتهم. علموني طريقة نفخ وتحريك الأصابع لم أكن أعرفها”.
لكن الحنين للوطن ولفلذات الكبد الستة يظل أقوى. يتوق للعودة إلى بلاده التي تئن أرضها من تفجيرات شبه يومية. على غرار زميله نبيل هاني عبد السلام، يعجز عن شكر الأطراف السويسرية التي تجندت بإنسانية كبيرة من أجل مساعدة الموسيقيين العراقيين، لكن اشتياق الأب والموسيقي الشاب جعفر قصاف إلى الأسرة والبلاد و”أجواءها” يزيد يوما بعد يوم.
الاشتياق للأسرة قد لا يثير أي اندهاش، لكن الحنين لأجواء عراق اليوم أمر آخر. التفسير بسيط بالنسبة للفنان العراقي قصاف: “نحن تعودنا على الوضع الخطر، ويجب أن نعيش (…) إذا توقفنا نحن، وتوقف الدكتور، وتوقف المهندس، وتوقف هذا وذاك، لن نستمر(…) نحن نتمرن حاليا في أوضاع غريبة عجيبة. في الصيف الماضي مثلا، بلغت الحرارة 55 إلى 60 درجة مئوية، وبدون كهرباء، أقمنا حفلات كل شهر أو شهر ونصف، نحن عندنا إرادة وعزيمة قويتين”.
لا شك في ذلك، وما يجعل الإنسان يقف حائرا أمام هذا الشاب الذي كاد الرصاص الأمريكي يُيتم أبناءه، إيمانه القوي والراسخ بأن العراق سينهض ويزدهر رغم عدم ثقته في النظام السياسي الجديد برمته. هو يثق بإرادة أبناء الشعب العراقي، ومتأكد بأن يوما ما سيحكمُ العراقَ رئيسٌٌ أمين على البلد… لا يعلم متى، لكنه مُتيقن أن بلاده في حاجة إليه ولن يغادرها أبدا.
وقال بخفة دم عن سويسرا وجوها العام “النائم” وطبخها الذي لم يَرْقَ بتاتا لأطباق السمك الشهية العراقية التي تعود عليها: “لا أتصور أن أعيش حياتي هنا حتى لو أعطوني 25 ألف فرنك في الشهر. مستحيل!”.
سويس انفو- إصلاح بخات – تون/ برن
الفنان العراقي نبيل هاني عبد السلام (متزوج وأب لخمسة أطفال) هو خريج معهد فنون جميلة دبلوم فني، وعازف تشيلو (فيولونسيل) في الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية منذ أن كان طالبا عام 1975.
أحيا عدة سهرات مع أصدقاء في بغداد كعازف تشيلو لمدة 8 سنوات وتولى رئاسة قسم تشيلو في الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية لمدة 12 عاما.
له هوايات كثيرة أخرى مثل الرسم والتصوير والنجارة الفنية. صنع بمفرده دون اية دروس 9 آلات كمان وتشيلو في ظروف الحرب التي تعيشها العراق. يقوم بتصليح الآلات الموسيقية الوترية منذ 15 عاما.
الفنان العراقي جعفر خصاف (33 عاما، أب لستة أطفال) من أسرة موسيقية.
عازف في الفرقة السمفونية الوطنية العراقية أيضا، عازف ساكسوفون و”أوبو” وآلة العود أيضا، ومهندس صوت في بغداد ومصلح آلات موسيقية. درس في المدرسة الموسيقية العسكرية العراقية وهو أيضا خريج معهد فنون جميلة آلة العود.
تلقى الفنانان في سويسرا خلال الدورة التدريبية آلات وتجهيزات تصليح لانشاء ورشة في مقر ألاوركسترا السمفونية الوطنية.
السيد بيتر شولر (80 عاما) عضو جمعية “موسيقى وحياة” السويسرية التي تأسست عام 1983 تحت اسم “موسيقى الأمل”. تهدف الجمعية إلى وضع الموسيقى في خدمة حقوق الإنسان والشباب والسلام. تدعم الثقافة الموسيقية للأشخاص الذين يعيشون ظروف صعبة في سويسرا والعالم. تخلق وتدير الدعم اللوجستي الضروري لتحقيق اهدافها، وتتعاون مع منظمات انسانية وموسيقية لها نفس الأهداف. من بين الدول التي نشطت فيها الأرجنتين، وشيلي، وبيرو، ورومانيا، وكولومبيا والعراق الذي تسلم منذ سبتمبر 2003 ثلاث شحنات من الآلات الموسيقية وأحذية الباليه بفضل التبرعات التي جمعتها الجمعية. مولت الوكالة السويسرية للتعاون والتنمية الدورة التدريبية للفنانين العراقيين عبد السلام وخصاف في سويسرا (من 15 سبتمبر إلى 15 ديسمبر مبدئيا) بفضل توصية من السفير السويسري في بغداد السيد مارتين ايشباخر. سيعود الفنانان بالعديد من الهدايا تشمل آلات ومعدات سويسرية للإصلاح ستجهز جزئيا ورشة جديدة في الأوركسترا السمفونية الوطنية العراقية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.