سويسرا تنجح في كسب رِهان هجرة العقول
برغم المساعدات الدولية، التي تتلقاها البلدان الفقيرة من أجل التنمية، والتي تقدّر بعشرات المليارات، تظل هذه البلدان تشكو من نقص حاد في القدرات البشرية المختصة ومن نزيف هجرة العقول المبدعة إلى أوروبا وأمريكا الشمالية..
هذه الظاهرة المتفاقمة تضع كل جهود التنمية في مهب الريح وتزيد من الهوة الفاصلة بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب.
وإذا كان من الصعب إعطاء أرقام دقيقة حول هذه الظاهرة، فإن منظمة الهجرة الدولية تحدثت في تقرير صدر أخيرا عن مئات الآلاف، وعادة ما يغادر الطالب أو الخبير بلده، إما من أجل مواصلة دراسته أو العمل لفترة ما، ثم العودة إلى بلده الأصلي، ولكن هذه الرغبة في العودة سرعان ما تتلاشى أمام ما يتاح للباحث من فرص وإمكانات لمواصلة الأبحاث وما يلقاه الخبير من تكريم وتفضيل وتسهيلات، يعجز بلده الأصلي عن توفيرها.
وفي الوقت الذي تخوض البلدان المتقدمة منافسة شرسة من أجل كسب هذا الرهان، تعجز البلدان النامية من توفير الحد الأدنى من شروط البحث العلمي المتقدم، وحتى تلك التي تمتلك إمكانيات هائلة، تنقصها الإرادة السياسة والمشروع الحضاري القادر على التعبئة والتوجيه.
وكشف تقرير أنجزته منظمة الهجرة الدولية أخيرا، أن ما يفاقم هذه الظاهرة، هو انسداد آفاق البحث العلمي المتقدّم في البلدان النامية وانعدام الامتيازات التي ينعم بها نظراؤهم في البلدان المتقدمة وصعوبة الظروف الاجتماعية والسياسية السائدة، فضلا عن المحسوبية وعدم اعتبار الكفاءة في إسناد الوظائف.
ومحاولة لإلقاء مزيد من الضوء على ظاهرة هجرة الأدمغة وفهم أسبابها، الظاهرة والخفية، نسلط الضوء على تجربة البروفسور الشاب مهدي تافتي، وهو باحث إيراني بارز في مجال الكيمياء البيولوجية وأستاذ بجامعتي لوزان وجنيف.
سويس انفو: ترتبط الهجرة عادة بالتمزّق بين عالمين، عالم المنشأ وعالم الإقامة، كيف عايشتم هذه المرحلة؟ وهل تركت لديكم أثرا؟
مهدي تافتي: كانت هجرتي منذ البداية إلى فرنسا لأجل الدراسة، واعتبرت ذلك فرصة بعد أن كنت يائسا من تحقيق ذلك في عصر الشاه، خاصة وأن كل المؤشرات كانت تنبِّـئ بأن إيران على موعد مع التغيير، وربما أيضا بتأثير من المحيط العائلي، فأخي درس في بريطانيا وأبناء عمومتي في الولايات المتحدة، وعندما تغادر بلدك وأنت شاب وتقضي عشرين سنة أو أكثر، ينتهي بك الأمر بالاندماج في بلد الإقامة، أضف إلى ذلك، عندما تكون منخرطا في جو جامعي ثم في إطار أكاديمي، فإن الاندماج يكون أسهل بكثير مما لو كنت في أي إطار مهني آخر.
سويس انفو: أبحاثك العلمية تمس العديد من الميادين، لكن اهتمامك ينصبّ على ظاهرة “النعاس”، لماذا يظل يحيط بهذا الموضوع الكثير من الغموض، بالرغم ما يبدو عليه من بساطة؟
مهدي تافتي: لهذا السبب بالضبط اخترت البحث في هذا المجال. في البداية، تركّـزت أبحاثي على الجهاز العصبي، وحصل أن اطلعت على العديد من الدراسات حول ظاهرة النعاس في الثمانينات، وفوجئت من أن العلماء لا يزالون يجهلون كل شيء عن النعاس وعمل الجهاز العصبي خلال النوم، والمسألة لا تتعلق بالنعاس فقط، بل وأيضا بالذاكرة وطريقة عملها، ولا تزال ظاهرة النعاس حتى الآن من الظواهر الغامضة وليس هناك أجوبة مقنعة علمية حولها.
سويس انفو: لكن هناك العديد من الإجابات الفلسفية والنفسية؟
مهدي تافتي: صحيح، لكن ليس هناك تحليل علمي خاضع للتجربة والبرهنة، بل هي مجرّد نظريات فلسفية. ومن الناحية التطبيقية، حققنا بعض التقدم، لكن نظريا، الموضوع يتطلب المزيد من البحث، إذ لم نتوصل إلى حد الآن إلى تحديد الأسباب المتحكمة في هذه الظاهرة ولا يستطيع الطب معالجة اضطرابات النعاس بشكل جذري ما لم يعرف أسبابها العميقة، وبإمكاننا أن نحدد المرض، لكن ليس بإمكاننا معرفة أسبابه.
سويس انفو: ما نسبة انتشار ظاهرة الأرَق في المجتمع السويسري؟
مهدي تافتي: تصل هذه النسبة إلى 30% من مجموع السكان في سويسرا، وقد تصل إلى أزيد من ذلك في بعض البلدان الأوروبية الأخرى. نحن هنا لا نتحدث عن مرض، بل عن ظاهرة السهاد والأرَق، أعني الحالات التي يستيقظ فيها الإنسان مرّات عديدة أثناء الليل أو يستيقظ في الصباح شاعرا بالإرهاق والتّـعب أو الرغبة في النوم.
المشكلة أن البعض لا يعلم أن هذه الظواهر لها أسباب فيزيولوجية قابلة للعلاج وليست مجرّد انعكاسات للضغوط النفسية. كذلك هناك ظواهر تبدأ نفسية، ولكن نتائجها تكون فيزيولوجية، والنوم ظاهرة جد معقدة، تتداخل فيها العديد من العوامل، كالمحيط والبيئة والظروف الاجتماعية، ومن الصعب جدا فصل هذه العوامل عن بعضها البعض؟
سويس انفو: بالإضافة إلى الأهمية النظرية في الأبحاث التي تقوم بها، هل تقدم اكتشافاتكم حلولا فعلية للمصابين باضطراب النعاس؟
مهدي تافتي: لتبسيط الأمر، أضرب مثلا: قبل سنتين اكتشفنا خلية جينية منخرطة في النظام المرتبط بالفيتامين A، الذي له علاقة مباشرة بظاهرة النعاس، ومن الممكن أن يكون له تأثير كبير على كيفية النوم، والأمر لا يزال قيد البحث.
وعقب هذا الاكتشاف، قام باحثون يابانيون بانتزاع فيتامين A من الحيوانات، التي كانوا يجرون عليها تجارب، فتغيّـر فجأة نظام النعاس لديها، السؤال، هل الأمر نفسه يمكن أن يحدث للبشر، هذا ما هو قيد الدرس، وما نعرفه الآن هو أن نسبة كبيرة من فيتامين A الموجودة في الخضراوات واللحوم، لا تساعد على النوم.
سويس انفو: هل يمكن أن نتصور شخصا لا ينام أبدا؟
مهدي تافتي: لا، هذا غير ممكن، ويوجد صنفان من الأمراض مرتبطان بمرض جنون البقر، وهما من الأمراض التي تقود إلى حالات الإغماء طويلة المدى، وهما أيضا مرضان قاتلان. وأثبتت التجربة في حالة الحيوانات، أن منعها من النوم بشكل كامل يؤدّي إلى موتها؟
سويس انفو: بالنسبة لشخص يُـعاني من اضطراب في النعاس، ما هي النصيحة الأولى التي توجِّـهها له؟
مهدي تافتي: المسألة تتعلّـق بطبيعة المشكلة وخطورتها. وعلى الذي يشعر بأنه لا ينام جيِّـدا أن يعايد الطبيب، فقد يكون ذلك مؤشرا على مشكلة أخطر، كما يمكن أن تكون له انعكاسات صحية سلبية. يجب الانتباه أن اضطراب النعاس لا يقترن دائما بمشكلة نفسية، وليس بالضرورة أن تكون الخطوة العلاجية الأولى الذهاب إلى مختص نفسي، فالطبيب العام هو الذي يحدِّد الخطوات التي يجب إتباعها.
سويس انفو: ما هو المشروع الذي تشتغلون عليه الآن؟
مهدي تافتي: حاليا نحاول الجواب عن سؤال: ما الذي يجعلنا نشعر بالحاجة إلى النوم، إذ أن الحاجة إلى النوم مثل الحاجة إلى الأكل وغيرها، وهناك نظام فيزيولوجي يحكمها، ومثلما عرف الخبراء نظام الجهاز الهضمي، نسعى نحن لمعرفة نظام الجهاز العصبي فيما يتعلق بالنوم، مخبريا وجينيا.
سويس انفو: اخترتم سويسرا لبناء تجربتكم البحثية والوظيفية، لماذا سويسرا وليس فرنسا وكندا مثلا؟
مهدي تافتي: في المجال الأكاديمي، السوق دولية، وهناك أفضلية شخصية بلا شك، ولكن، عندما يتعلق الأمر بمستوى أكاديمي سامي، الفرص تكون محدودة جدا. صحيح أنه في أمريكا الشمالية هناك فرص عمل دائمة، ولكنني اخترت العودة إلى أوروبا، وعُـرض علي العمل في جنيف وقد قبلت بالأمر، لأن جنيف ناطقة بالفرنسية ومن المناطق القريبة لفرنسا، حيث قضيت سنوات طويلة.
سويس انفو: كيف تجدون ظروف البحث العلمي في سويسرا؟
مهدي تافتي: يمكنني أن أقول إن مستوى البحث العلمي والإمكانات المتاحة في سويسرا أفضل بكثير مما هو متاح في البلدان الأوروبية المجاورة. وبصراحة، لا يمكن المقارنة بين ما تتيحه المؤسسات السويسرية من إمكانيات وما يتاح في فرنسا وألمانيا.
السوق السويسرية تجلب إليها أفضل الكفاءات، والإعلان عن موقع شاغر يترشح له المئات من جميع مناطق العالم، وما يؤخذ في عين الاعتبار في النهاية الكفاءات، والكفاءات فقط.
سويس انفو: كيف تجدون الناس في سويسرا؟
مهدي تافتي: أشتغل في سويسرا منذ عشر سنوات وأجد الناس هنا طيبين والبيئة الجامعية بطبعها هكذا، كل الجنسيات موجودة والتعاون بين الجميع يجعل الانتماءات الجغرافية لا معنى لها، وأجد السويسريين كرماء ويمتازون باللطف وحسن المعاملة، والفضاء العلمي الذي نشتغل فيه، وبرغم أهمية الحضور السويسري، لكن الأغلبية فيه من دول أجنبية.
سويس انفو: ألا تجدون غريبا تقديم الإعلام وبعض الأحزاب السياسية في سويسرا للأجانب على أنهم أصل كل بلاء، وأنهم مجرمون أو محتالون أو انتهازيون يعيشون على فتات الكرم السويسري؟
مهدي تافتي: مساهمة الأجانب في الجانب العلمي في سويسرا هامة جدا، واعتقد أنه لا أحد يشك في ذلك. لكن، قد يختلف الأمر في مجالات أخرى، والإعلام تحرِّكه أجندات خفية ولا يشير إلا إلى النصف الفارغ من الكأس، لكن الأمر ليس هكذا داخل المؤسسات العلمية.
سويس انفو: ما طبيعة العلاقة التي تربطكم ببلدكم الأصلي بعد مرور ثلاثين سنة من الهجرة؟
مهدي تافتي: في السنوات الماضية، لم يكن لدي أي علاقة بإيران، وربما بعد أن ظهر إسمي في الإعلام وفي الدوائر الأكاديمية، حدث أن اتصلت بي إحدى الخبيرات الإيرانيات في مجال اختصاصي وأعلمتني بأنها تبذل جهودا للتعريف بأبحاثي في إيران لأني إيراني الأصل، لكن، لم يحصل أن شاركت في مؤتمر أو أي تبادل علمي مع إيران، وظل ما يربطني بها علاقات عائلية.
سويس انفو: لو توفرت لكم فرصة العمل في أي بلد من بلدان الجنوب فهل تقبلون؟
مهدي تافتي: أقبل العمل في أي مكان تتوفّـر لي فيه إمكانيات تطوير أبحاثي، ولكن، للأسف ما أنا قائم عليه من أبحاث لا يوجد اهتمام به إلا في بلدان تُـعدّ على الأصابع، وليس لدي عِـلم بوجود أي مختبر من هذا النوع في إيران، الأمر يتعلق بإرادة تلك البلدان وبالإمكانيات التي تضعها في خدمة البحث العلمي.
سويس انفو: يكثر الحديث عن هجرة العقول، ما هي مسؤولية بلدان الشمال في إعاقة التقدم العلمي في بلدان الجنوب؟
مهدي تافتي: هذه مشكلة عالمية، يجب أن تتوفر للباحثين الإمكانيات ليقوموا بعملهم، وبلدان الشمال غنية وبإمكانها توفير تلك الإمكانات، لكن بلدان الجنوب ليس بإمكانها فعل ذلك.
سويس انفو: لكن بلدا مثل إيران لها إمكانيات اقتصادية كبيرة؟
مهدي تافتي: لا استطيع أن أؤكِّـد أو أنفي ما تقول، ولكن لديك مثلا آخر. فبلدان الخليج بلدان غنية، لكنها لا تستثمر أموالها في مجال البحث العلمي، والمسألة تتعلق بخيارات سياسية واقتصادية واجتماعية. وعموما، فبلدان الجنوب ليست قادرة على خوض المنافسة في هذا المجال لأنها تعاني من تأخّـر كبير عن عجلة التقدم العلمي، وحتى البلدان التي انتبهت إلى ذلك، مثل إيران، أمامها مشوار طويل لتَـدارك ما فاتها.
سويس انفو: إلى جانب البحث العلمي ما هي هواياتكم الأخرى؟
مهدي تافتي: أهوى كثيرا موسيقى الأوبرا وأيضا المطالعة، ولكن لا تنسى لدي ولديْن ورعايتهما تتطلب وقتا طويلا.
عبد الحفيظ العبدلي – لوزان
بالإضافة إلى الأنشطة البحثية السابقة، يعمل البروفسور مهدي تافتي أستاذا مشاركا ورئيس فريق بحثي في مركز بحوث الجينات الملحق بجامعة لوزان، وهو مركز متعدد الاختصاصات، يشرف على بحيرة ليمان وتقابله من الضفة الأخرى جبال الآلب الفرنسية.
يجسد هذا المركز المشاركة الفاعلة لجامعة لوزان في البرنامج المشترك “العلوم والحياة والمجتمع”، إلى جانب كل من جامعة جنيف والمعهد التقني العالي الفدرالي EPFL ، وهذا المركز قسم من أقسام كلية الطب والبيولوجيا بلوزان.
كان الهدف من تأسيس المركز، إجراء بحوث متقدمة في مجال علوم الأحياء وتوفير فضاء للبحث والتكوين والتدريب عالي المستوى، وجعل مختبراته وأجهزته عالية التقنية في تناول الباحثين في مختلف المؤسسات العلمية بالجهة.
كما يدير هذا الخبير الإيراني، مركز بحوث في مجال الجينات، يجمع في إطار واحد خبرة كل من كلية الطب والبيولوجيا في لوزان وخبرة المستشفى الجامعي بلوزان في مجال أمراض الرئة والأعصاب.
يتكفل هذا المركز بمعالجة المرضى، الذين يعانون من اضطراب خلال النعاس، وهي ظاهرة تمس قرابة 30% من مجموع السكان، كما يسهر على تدريب وتكوين مختصين في هذا الميدان.
أستاذ جامعي وخبير إيراني مُـختص في مجال الكيمياء البيولوجية، وبالتحديد في بيولوجيا الخلايا، تعود أصوله إلى مدينة يزد بوسط إيران، وهو من عائلة علمية عريقة.
حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة مونت بوليي Montpelier بفرنسا سنة 1991، وكانت أطروحته في مجال فيزيولوجيا الأعصاب، وعلى وجه التحديد حول ظاهرة النعاس العميق Narcoleptique.
التحق بعد ذلك بجامعة ستانفورد بكاليفورنيا، حيث تابع البحث في المجال نفسه لمدة أربعة سنوات.
عاد إلى أوروبا والتحق بقسم علم النفس بجامعة جنيف سنة 1995، حيث أسس أول مختبر علمي، يهتم حصريا بدراسة الأسس الجينية لنظام النوم العادي ولأمراض ذات علاقة بالنعاس.
لا يزال يواصل بحوثه في جنيف من خلال تجارب على الفئران، كما يرأس معهد البحوث حول اضطراب النعاس، التابع لكل من المستشفى الجامعي بكانتون فو وكلية الطب بجامعة لوزان.
نشر أكثر من سبعين محاولة، بين دراسات وكتب، ويشارك باستمرار في المؤتمرات الدولية ذات العلاقة بمجال بحوثه.
اختارته مجلة Hebdo الأسبوعية الصادرة باللغة الفرنسية في سويسرا ضمن قائمة المائة شخصية الأكثر تأثيرا في سويسرا الروماندية (أي المتحدثة بالفرنسية) لسنة 2007.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.