أبعد من الحرب على غزة: نحو “تقسيم التّـقسيم” الفلسطيني؟
الرفض الإسرائيلي لكلّ عروض وقف إطلاق النار، بدأ يُـوحي أن الشّـكوك حول وجود مخطّـطات كُـبرى، تتجاوز مسألة الصواريخ وربّـما تتجاوز حتى حركة حماس، قد تكون حقيقية.
فتسيبي ليفني لم تعُـد تتحدّث عن ضرورة “وقف الإرهاب” في غزّة وحسب، بل أيضاً عن الحاجة إلى “تغيير المعادلة في الشرق الأوسط”، والمحللون العسكريون الإسرائيليون، يُلمّـحون إلى احتمال الانتقال من الحرب المحدُودة الرّاهنة إلى غزْوِ القطاع برمّـته، هذا في حين يهدّد كلٌّ من أولمرت وباراك منذ أيام، بتمديد الحرب إلى لبنان في أيّ لحظة.
قد يكون هذا مجرّد جزء من الحرب السايكلولوجية (النفسية) الضرورية في أي حرب، وقد يكون هدف الدولة العبرية النِّـهائي، هو بالفعل استعادة هَـيبة الرّدع التي فقدتها في حرب لبنان 2006 وإجبار حماس على وقف مقاومتها الصاروخية في اتِّـجاه جنوب إسرائيل، لكن استمرار “تدحرُج الرّصاص” وتوسّـعه المُـتواصل في العملية العسكرية الرّاهنة، يفسح المجال أمام السيناريوهات الأخطر والأوسع. ما طبيعة هذه السيناريوهات المُـحتملة؟
بولتون يعُـود
بعد أيام قليلة من بدء الاجتياح الإسرائيلي الجديد لغزّة، برز فجأة جون بولتون، السفير الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة من غياهِـب النِّـسيان والتّـهميش السياسي، ليدعو في مقالٍ في صحيفة”واشنطن بوست” إلى إغلاق ملفّ الدولة الفلسطينية المستقلّـة، عبر ضمّ غزة إلى مصر وإلحاق الضفّـة الغربية بالأردن.
قال: “حل الدّولتين (الفلسطينية والإسرائيلية) فشل ولا مجال لإحيائه، لأن السلطة الفلسطينية أفشلتْـه وحماس قتلتْـه. المخرَج، هو تطبيق مُـقاربة “الدّول الثلاث”، حيث تعود غزّة إلى السيطرة المصرية والضفة الغربية إلى السيادة الأردنية، هذا هو الطريق الوحيد للاستقرار في الشرق الأوسط”.
للتذكير، بولتون ليس فقط من أشرَس المحافظين الجُـدد الأمريكيين، بل يُعتَـبر أيضاً من الصّهيونيين اللِّـيكوديين في الولايات المتحدة، وهو كان من أبرز المشاركين في وثيقة “القطع النظيف” الأميركية، التي نشرت في أوائل تسعينيات القرن العشرين والتي دعت إلى نسف شعار “الأرض مقابل السلام”، وبالتالي، معاهدات السلام بين العرب والإسرائيليين، وإحلال شعار موازين القِـوى مكانه.
ومجرّد إطلالته مجدّداً على الساحة الأمريكية والشرق أوسطية، تعني أن المشاريع المشتركة للمحافظين الجُـدد الأمريكيين والليكوديين الإسرائيليين، والتي تدعو إلى وضع القضية الفلسطينية والتّـسويات العربية – الإسرائيلية على رفُـوف النِّـسيان، ستعود بزخم وقوّة إلى جدول أعمال الشرق الأوسط.
.. وكذلك بايبس
بيد أن بولتون لم ينطلِـق من فراغ في دعوته هذه. ففي الداخل الأمريكي، ثمة مِـروَحة واسعة من النخب الأمريكية الموالية لإسرائيل، التي تتبنّـى نظرية تقسيم فلسطين 1967 بين مصر والأردن وإسرائيل. الممثل الأبرز لهذه النخبة، هو دانييل بايبس، الذي يُـطلَـق عليه في الولايات المتحدة، “الفارس الأسود”، بسبب تطرّفه الصهيوني، وهو بدأ منذ يناير 2008 بتصعيد الضغوط والحملات في واشنطن، لتبنّـي هذا الخيار.
المنطق الذي يطرحه بايبس، يسير على النحو الآتي:
• ياسر عرفات ثم محمود عباس، فشلا في تحويل غزة إلى سنغافورة جديدة وفي منع صعود الإسلام الراديكالي فيها، ولذا، يجب التخلِّـي عن فِـكرة السيادة الفلسطينية على هذا القطاع.
• على واشنطن والعواصم الغربية الأخرى، الإعلان بأن تجرِبة الحُـكم الذاتي في غزّة فشلت، ثم القيام بالضغط على الرئيس المصري حسني مبارك لتقديم يد العون، ربّـما عبر منح غزّة أراضٍ مصرية إضافية أوحتى ضم القطاع برمّـته إلى مصر، بصفته محافظة من محافظاتها.
• هذه الخطوة الأخيرة، ستكون منطِـقية وبديهية ثقافياً: فالغزّاويون يتحدّثون لَـكنة عربية شبيهة بتلك التي ينطق بها المصريون في سيناء ولديهم علاقات عائلية مع سيناء، أكثر من الضفة الغربية، وكذا الأمر بالنسبة إلى علائقهم الاقتصادية مع سيناء، وحتى حركة حماس الغزّاوية، تجدُ جذورها الحقيقية في جماعة الإخوان المسلمين المصريين، لا في الحركة الوطنية الفلسطينية.
ويخلِّـص بايبس إلى القول: “إن تحويل هذه العلاقات غير الرسمية إلى علاقات رسمية عبر ضمّ غزة إلى مصر، سيحقِّـق جملة أهداف دُفعة واحدة: 1 – وقف الصواريخ على جنوب إسرائيل. 2 – كشف الطابع الاصطناعي للوطنية الفلسطينية. 3 – كسر الطريق المسدود في العلاقات العربية الإسرائيلية.
الضفة “الأردنية”
مشروع بايبس – بولتون هذا في أمريكا، هو نسخة طِـبق الأصل عن مشروع بنيامين نتنياهو في إسرائيل، الذي يرفُـض هو الآخر مشروع الدّولة الفلسطينية ويدعو إلى قذف غزّة إلى مصر وإلحاق “بعض” مناطق الضفّـة للأردن.
نتنياهو يدعو الآن في برنامجه الانتخابي إلى استبدال شعار” السّلام للنّهوض بالاقتصاد” في فلسطين والشرق الأوسط بشعار “الاقتصاد للنّهوض بالسلام”، وهو يعني بذلك ضرورة التوقّـف عن البحث عن اتفاقات سياسية لإقامة دولة فلسطينية، والعمل على تحويل فلسطينيي الضفّـة إلى مستهلكين اقتصاديين. كيف؟ عبر إقامة مناطق صناعية في بعض مناطق الضفّة المحاذية لإسرائيل، تستوعب اليد العاملة الفلسطينية، بإشراف مالي وتكنولوجي إسرائيلي، وكل هذا بالطبع، بشرط أن ينسى الفلسطينيون تطلّعاتهم الوطنية بدولة مستقلّة.
ويعلّق غسان الخطيب، الوزير الفلسطيني السابق على مشروع نتنياهو بالقول: “إنه يريد ملء بُـطون الفلسطينيين، لدفعهم إلى تناسي قلبهم الوطني، إنه مشروع كارثي”.
قد يكون مشروع نتيناهو كارثياً، لكنه حقيقي، خاصة فيما يتعلّـق بتصفية الهوية والقضية الفلسطينيتين في الضفة.
ثم أن هناك ما هو أخطر: مشروع نتنياهو لضمّ أجزاء من الضفة إلى الأردن، يحظى بردود فعل إيجابية لدى بعض الفلسطينيين والأردنيين أو هذا على الأقل، ما ينبِّـئ به مشروع “المملكة الأردنية – الفلسطينية الهاشمية”، الذي كشفت عنه “وثيقة عوض الله – عريقات” خلال عام 2008، والذي يفترض أن يتكوّن من شرق الأردن و90% من أراضي الضفة الغربية ويقوم بتوطين، ليس فقط لاجئي الضفة، بل أيضاً اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا.
لوهلة، قد يبدو هذا المشروع الجديد المُـمكن صعباً، لأنه يتطلّـب إدخال تغييرات جِـذرية على بِـنية الكيان الأردني السياسية وتركيبة مُـجتمعه الديموغرافية، لكن تاريخ الأردن يعُـج في الواقع بمثل هذه الشقلبات الكيانية. فهو برز ككِـيان مستقل تحت إسم “إمارة عبر الأردن” في 15 مايو 1923. وفي مارس 1946، حوّلت المعاهدة الأردنية – البريطانية الأردن إلى مملكة، ثم في 25 مايو 1946، غيّر البرلمان إسم البلاد من “إمارة عبر الأردن” إلى المملكة الهاشمية لعبر الأردن. وبعد أن إنتزع الجيش الأردني السيطرة على الضفة الغربية في حرب فلسطين 1948 – 1949، غيّر الملك عبد الله إسم البلاد، لتصبح المملكة الأردنية الهاشمية.
بعد اتفاقات أوسلو ووادي عربة، وقبلها قرار فك الإرتباط بين الأردن والضفة الغربية عام 1974، اعتقد الكثيرون أن الأمور إستتبّـت لصالح كِـيان أردني، يستند إلى هوية وطنية أردنية خالصة (وإن كانت خاصة بسبب العُـنصرَين الهاشمي والفلسطيني فيها)، لكن تعثّر مشروع الدّولتين الفلسطينية والإسرائيلية وارتطامه بجدار الرفض اليهودي، بدّد هذا الاعتقاد سريعاً وأعاد طرح مسألة “أي كِـيان أردني” على بساط البحث التاريخي والجيو – استراتيجي.
العنف أولاً
الآن، إذا ما افترضنا أن مشروع “تقسيم التّـقسيم” الفلسطيني بات مطروحاً جدّياً على بساط البحث، فكيف يمكن تطبيقه؟
ليس بالدبلوماسية بالطبع. فمصر لن تقبل بأي حال بإلقاء البطاطا الغزّاوية المُلتهبة بكل ما تتضمّنه من مئات آلاف الجائعين وعشرات آلاف الإخوان المسلمين إلى حضنها، وهي تتوجّس منذ أشهر عديدة بأن هذا قد يكون بالفعل المخطّط بعيد المدى الإسرائيلي.
والأردن، أو العديدون فيه، يخشوْن أن يؤدّي هذا “الحل” إلى إحياء مشروع الأردن كوطن بديل للفلسطينيين، وبالتالي، تغيير نظامه السياسي الهاشمي الرّاهن.
التطبيق لا يمكن أن يتم إلا بالعُـنف. وعلى سبيل المثال، إذا ماتطوّرت العملية العسكرية الإسرائيلية الرّاهنة، لتُـصبح اجتياحا كاملاً لكل القطاع، فهذا سيدفع مئات آلاف الغزّاويين إلى اللّجوء إلى سيناء، الأمر الذي سيفرض على مصر أمراً واقعاً جديداً، وكذا الأمر بالنسبة إلى الأردن والضفّة الغربية، إذا ما أفلت زِمام التطوّرات العسكرية الرّاهنة عن نطاق السيطرة، ليس فقط في فلسطين، بل أيضاَ في لبنان، إذ أن توسّـع الحريق الغزّاوي إقليمياً، سيقدّم كل المبرّرات للقيادة الإسرائيلية كي تمضي قُـدماً في هدف “تغيير المُـعادلة في الشرق الاوسط”، الذي أشارت إليه ليفني.
مشروع مجنون؟
حتماً، لكن “الجنون” كان طيلة السنوات الستّين الماضية، الثابت الأول في تاريخ الدّولة الإسرائيلية المتحوّل: من إحلال شعبٍ مكان شعبٍ في فلسطين، إلى تغيير كل خريطة الشرق الأوسط الكبير!
سعد محيو – بيروت
قرب حدود غزة (اسرائيل) (رويترز) – قبل لحظات من حلول الظلام على قطاع غزة يشق صاروخ أطلق على اسرائيل طريقه متحركا بشكل لولبي مميز عبر سحب الدخان الاسود المتصاعد من الضربات الاسرائيلية على المدينة الرئيسية في القطاع.
وجهة الصاروخ المتجه الى مكان ما في اسرائيل غير معروفة على وجه اليقين لكنها تقع في قلب أحداث هذه الحرب المستمرة منذ 16 يوما. قد ينفجر الصاروخ في أي مكان.. في بستان أو سوق أو ضاحية هادئة لكن من الصعب أن يصل الى موقع عسكري اسرائيلي.
ومع غروب الشمس يطلق فصيل اسرائيلي من أحد الحقول ما بين 20 و30 قذيفة مورتر على هدف ما على بعد كيلومترين في غزة.
وتمضي حركة مرور خفيفة على الطريق الاسرائيلي القريب الذي أصبح الآن خطا للامداد للدبابات المحمولة على الشاحنات الضخمة وغيرها من العربات العسكرية.
ويصعد سائق سيارة أجرة من عرب اسرائيل يرافق مراسلا يابانيا في رحلة أثناء النهار من القدس فوق التل قرب أرض محروثة. وتحت شجرة يؤدي صلاة العشاء في الوقت الذي تدوي فيه أصوات قذائف المورتر.
ويقول “هذا شيء سيء جدا… انظر الى هناك. هذه حرب ظالمة. بهذه الاسلحة الثقيلة يقتلون كل شيء. لماذا لا تمنعهم الامم المتحدة..”
وتقصف القوات الاسرائيلية غزة بكل شيء. وتضيق القوات البرية المدعومة بالدبابات الخناق على المراكز الحضرية التي يتحصن بها النشطاء الفلسطينيون.
وتحلق طائرات الاباتشي الاسرائيلية عاليا خلف خطوط المعركة في حالة استعداد لاطلاق الصواريخ على أهداف محددة اذا لزم الامر.
وتقول اسرائيل انها تهدف لمنع النشطاء من اطلاق الصواريخ بشكل عشوائي على المدن الاسرائيلية الواقعة الى الشرق والشمال وألا يتمكنوا من معاودة نشاطهم مرة أخرى.
ويقول النشطاء انهم يقاومون دولة اسرائيل التي يرفضونها والتي تريد سحقهم. وهم يعتقدون أن هذا استمرار لمعركة بدأت قبل 60 عاما على الاقل عندما قامت دولة اسرائيل على أرضهم.
وقتلت صواريخهم البدائية أربعة اسرائيليين منذ بدء القتال. لكن اجمالي القتلى في غزة يقترب من 900 ثلثهم على الاقل من المدنيين. ومع ذلك يواصل النشطاء اطلاق صواريخهم غير الدقيقة دون اكتراث بالمكان الذي قد تسقط فيه.
ومن الواضح أن اسرائيل تستطيع أن تقتل عددا كبيرا للغاية قبل أن تفقد أي تعاطف دولي ربما كانت تتمتع به. كما أنه من الواضح أن من يطلقون الصواريخ يعتزمون المخاطرة بتوجيه ضربة مؤثرة تقضي على ضبط النفس الاسرائيلي.
وقال رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود أولمرت يوم الاحد “تقترب اسرائيل من تحقيق الاهداف التي حددتها لنفسها” مضيفا “لكن الامر ما زال يحتاج لصبر وعزيمة وجهد لتحقيق تلك الاهداف على نحو يغير الوضع الامني.”
أي أنه ما من أحد يستطيع الاجابة على السؤال الحائر الذي وجهه سائق التاكسي “تعتقد متى سيتوقف هذا؟”
وتشير الحافلات المحملة بقوات الاحتياط الاسرائيلية المتجهة صوب الجنوب الى أن الاجابة ربما تكون “ليس قريبا”.
ويطلع القمر بدرا مكسوا بالصفرة فوق ساحل البحر المتوسط الذي تطل عليه غزة واسرائيل. وينطلق تحذير اخر من أن صواريخ أطلقت على مدينة عسقلان. ويسمع كل المواطنين التحذير.
وتمر دقيقة دون سماع صوت انفجار. هل هي محاولة فاشلة اخرى؟
وترتفع ألسنة النيران في غزة في الليل وتستعد المدينة للمزيد منها في الليلة التالية.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 12 يناير 2009)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.