أول سوداني يتخصص في الفدرالية في سويسرا
"الفدرالية كآلية لحل الصراعات في المجتمعات المتعددة إثنيا وثقافيا" هو موضوع رسالة الدكتوراه التي حصل عليها مؤخرا وبمرتبة الشرف السوداني عمر عوض الله علي في كلية الحقوق بجامعة فريبورغ.
سويس انفو أجرت حديثا مطولا مع المُتخرج الشاب لتسليط الضوء على استفادته العملية من الدراسة على المستوى السوداني.
جاءت رسالة دكتوراه عمر عوض الله علي، المستشار القانوني في وزارة العدل السودانية، في أكثر من 320 صفحة باللغة الإنجليزية.
حاولت الدراسة أولا تسليط الضوء على أسباب الصراع في السودان عبر العودة إلى تاريخ البلاد لتشخيص بذور النزاع. وهي محاولة قادت الباحث إلى تصنيف الثقافات المتنوعة الموجودة في السودان ومحاولة إيجاد الرابط بينها الذي يخول لها تكوين دولة اسمها السودان خالية من الصراعات والنزاعات.
ثم انتقل إلى فكرة الفدرالية وتطورها وعلاقاتها بالدول المتعددة الإثنيات والثقافات، ليقترح بعد ذلك نموذجا فدراليا يصلح للسودان. ويستلهم النموذج أفكارا من تجارب فدرالية أخرى مثل التجربة السويسرية، لكن دون تجاهل خصوصية المجتمع السوداني وتطوره التاريخي واختلاف مكوناته.
وسمحت هذه الدراسة المُعمقة بتشخيص “أمراض السودان” والنظر في العلاج، ثم طرح اقتراحات وتوصيات هامة لـغد أفضل. وشملت التوصيات أربعة محاور أساسية: الجانب الإجتماعي والجانب السياسي والمشاركة في الثروة وتعديل الدستور.
سويس انفو أجرت حديثا مطولا مع الدكتور عمر عوض الله على حول موضوع رسالته واستفادته العملية منها على المستوى السوداني وتجربته عموما في سويسرا. وفيما يلي مقتطفات من الحوار (بتصرف).
(ويمكن الاستماع إلى مقاطع من الحديث المطول الذي أجريناه يوم 19 يناير 2006 في الملفات الصوتية أعلاه)
سويس انفو: ما هي أبرز “الأمراض” التي شخصتموها في السودان من خلال رسالتكم؟
د. عمر عوض الله علي: (…) لم يـُؤخذ التنوع بجدية من الحكم الوطني، ولم يتم اعتبار التنوع كقيمة. وهذا هو الفرق بين التجربة السويسرية الناجحة وتجارب أخرى في كثير من دول العالم هو اخذ التنوع بجدية وبناء الدولة على أساسه وليس تجاهله أو استبعاده، بل احترامه وتطويره. لذلك نجحت سويسرا.
إن السبب الأساسي للصراعات هو عدم رسم سياسات لاستيعاب هذا التنوع بحيث يكون عاملا إيجابيا بدل أن يكون عنصرا سلبيا أو يُوصف بنعوت يعرفها السياسيون.
سويس انفو: بعد تشخيص أوجه الخلل، هل تقدمت رسالتكم بتوصيات؟
د. عمر عوض الله علي: (…) التوصيات التي يقترحها البحث قد تصلح لعدة دول في المجتمعات العربية بالذات، مثل العراق ولبنان والسودان. وهي يمكن أن تصلح أو تـُطور فيما بعد في مثل تلك الدول بما يلاءم مجتمعاتها.
وقد شملت التوصيات 4 مجالات: أولا، المجال الاجتماعي الذي يقتضي الاعتراف بالآخر في دول متعددة الثقافات والإثنيات. (…) لا بد من الاعتراف بتنوع الآخر ولا بد من وجود التسامح بين الثقافات دون أن تفرض ثقافة نفسها على الأخرى. كما يجب تحقيق المصالحة في المجتمعات التي شهدت حروبا، لأن أي محاولة لبداية تاريخ سياسي جديد تقتضي إصلاح مرارات الماضي، وهذا يتطلب توفر ثلاثة عناصر في المجتمع: الاعتراف بالآخر واحترام التنوع والتسامح بين مكونات المجتمع.
ثانيا، المجال السياسي، إذ يجب التوفر على نظام سياسي يحترم الأقليات ويحاول إشراكهم في السلطة، ولا يحصر مفهوم الديمقراطية في “رأي الأغلبية هو الذي يسود” (…) صحيح أن الديمقراطية تعني فوز الأغلبية، لكن في مجتمع متعدد الثقافات والإثنيات، هنالك ثقافة ذات أغلبية ميكانيكية وبالتالي لا تتاح للأقليات فرصة المشاركة في صناعة القرار. وأعتقد أن التجربة السويسرية غنية في هذا المجال. فمثلا، سكان سويسرا الروماندية (المتحدثة بالفرنسية) الذين يمثلون فقط 18% من مكونات الدولة السويسرية يشاركون في كافة مؤسسات الدولة. (…) وهذا هو المقصود بالنظام السياسي الفدرالي: فرد مساحة للثقافات بحيث أنها تحكم نفسها على مستوى الكانتونات وفي نفس الوقت تتيح الحكومة الفدرالية مشاركة الثقافات المختلفة لإدارة الدولة بصيغة مقبولة للأطراف. واعتقد أن سويسرا نجحت في تطبيق هذا النظام واستوحـَيْتُ منها الكثير من الأفكار في مجال احترام الأقليات.
البعد الثالث هو المشاركة في الثروة. فلا بد للدولة أن تضع من السياسات ما يُقلل من التباين الاقتصادي واختلاف الخدمات بين المناطق. وفي نفس الوقت، يجب أن تتوفر شفافية تامة في توزيع الثروة.
البعد الرابع هو الدستور. ففضلا عن كونه يضع حدود ومعالم المجالات الثلاثة السابقة، يجب أن يتميز الدستور الفدرالي بخصائص تبعد أي بذرة يمكن أن تتطور إلى صراع. ويشمل ذلك أشياء كثيرة جدا لأنه لا يمكن تعديل الدستور إلا بمشاركة كافة مكونات المجتمع. كذلك، لا بد من وجود محكمة دستورية تحل الخلافات بين مستويات الحكم المختلفة. كما يجب أن يحدد الدستور أطرا للتنسيق بين تلك المستويات، وبالإضافة إلى توزيع السلطة والثروة بينها.
ويقول البحث إن تنفيذ هذه العناصر الأربعة يحتاج لوقت ولاستراتيجيات وعمل حقيقي من الدولة والمجتمع، وبالتالي سيأخذ مدة قبل تحقيقه. وهذا كلام قد لا يفهمه الإنسان العادي، لذلك لا بد من وضع آليات سريعة جدا ومن إقامة حوار مباشر بين الدولة والمواطن لكي يشعر هذا الأخير بأنه ينتمي إلى ثقافة ومجموعة محددة وأنه ممثل في الدولة. هذا هو التحدي: كيف ترسل الدولة رسالة للمواطن أن هذه دولته، (…) وأن الدستور يؤمن له احترام ممارسة دينه وعاداته وتقاليده ولغته بحرية.
(…) وفي التجربة السويسرية الغنية جدا مثال جيد على تمثيل الاختلاف على مستوى العلم والنشيد الوطني والعملة. كلمة “الفرنك” السويسري هي كلمة فرنسية، فكيف نجح الرومانديون الذين يمثلون 18% من مكونات المجتمع السويسري في تسمية العملة بكلمة فرنسية؟ لأن الدولة ككل تعتمد مبدأ: أنت تأخذ هنا، وأنا آخذ هناك وكلنا نظل سعداء (…).
سويس إنفو: وعلى مستوى إدارة شؤون الدولة، ماذا اقترحتم تحديدا؟
د. عمر عوض الله علي: (…) المقترح تعيين رئيس للوزراء منتخب من الشعب يستمد سلطته من الشعب وليس من البرلمان ويتوفر على قدرة مجابهة التحديات التي يواجهها المجتمع المتعدد الإثنيات والثقافات خاصة في مجتمعات تشهد الحروب. وفي نفس الوقت يكون مجلس السيادة عبارة عن رئاسة ذات سلطة تـشريفية تـُمثل فيها كافة الثقافات كما كان الحال في السودان بعد الاستقلال، وكما هو الحال في سويسرا الآن.
النظام الفدرالي في السودان صمم الآن بشكل يتيح له استيعاب مشكلة الجنوب، لأن الدستور الحالي هو عبارة عن صيغة قانونية لاتفاقية السلام التي تم توقيعها في يناير 2005، وهو شيء جيد لأنه أوقف الحرب وحل كل الأشياء المترتبة عن الحروب من نزوح وأمراض، ولكنه أعطى رسالة خاطئة جدا لمكونات المجتمع الأخرى. فهذا الدستور صُمم للشمال كوحدة واحدة وللجنوب كوحدة واحدة. وهذه هي الإشكالية الحقيقية، ونحن نحتاج لأن يؤخذ التنوع بجدية.
سويس انفو: تعرفتم على أنظمة فدرالية مختلفة خلال دراستكم، هل تأثرتم أكثر بالنموذج السويسري؟
د. عمر عوض الله علي: تأثرت حقا بالنظام السويسري لأن جزء من البحث “سياسات الدولة نحو التنوع” كان على شكل دراسة مُقارنة، قارن التجربة الألمانية والفرنسية والتركية والأمريكية والسويسرية، وحاول النظر إلى هذه السياسات وأثرها هذه السياسات على التنوع.
فالسياسات التي اتبعتها ألمانيا في التنوع تجارب لم تأخذ التنوع بعين الاعتبار أساسا، الشخص الذين ليسوا جزء من التكوين الإثني والثقافي للمجتمع الألماني لا يندمج وإن كان يحمل الأوراق الرسمية الألمانية (…)، والنظام الفرنسي لا يعترف بالثقافات إذ يعتبر المواطن الذي يحمل الهوية فرنسيا بغض النظر عن انتماءه لثقافة أو مجموعة اثنية مختلفة، فهو يحصر المثل الفرنسية التي يمكن أن تجمع أبناء البلاد في اللغة الفرنسية والديمقراطية والمساواة والعلمانية. (…) في موضوع الدين مثلا، تقول الدولة إنها علمانية، لكن صحيح أن ديانات تأخذ أفضلية على ديانات أخرى، وهذه رسالة خاطئة ترسلها الدولة إلى ثقافات أخرى بمعنى أن التعامل ليس بالمثل. فهنالك فرق بين النص والتطبيق.
ونفس الخطأ للتجربة الفرنسية وقع في التجربة التركية في تناولها للأكراد. فالأتراك الآن لا يعترفوا بالقضية الكردية وبالخصوصية الكردية بدعوى “أننا كلنا أتراك ومواطنين ولسنا مختلفين في شيء”، هذا تصور خاطئ لمخاطبة التنوع (…).
التجربة الأمريكية جيدة جدا بالنسبة للتنوع (…) لكن فيها إشكاليات. النظام الفدرالي الأمريكي يدعو إلى فصل الدين عن الدولة والمثل المعروفة في الديمقراطية لكن السود ليسوا مندمجين بصورة كافية على المستوى الفدرالي رغم أن هنالك ما يكفل المساواة. (…) فمثلا، عندما يترشح شخص أسود في الإدارة الأمريكية كل الناس تكون سعيدة ويكون ذلك موضوع تناول وكأنه شيء غير عادي. وهذا يعكس عدم احترام التنوع رغم الاعتراف به. (…)
النظام الفدرالي السويسري هو الأمثل بالنسبة لي في مخاطبة التنوع، ولكن لا يُفهم من هذا الحديث أنه يمكن تصديره إلى دول أخرى. يتم فقط استلهام الأفكار منه، مع احترام خصوصية المجتمعات في تصور الحلول التي ستناسبها.
سويس انفو: هل هنالك مثال فدرالي سويسري استفدتم منه بشكل خاص؟
د. عمر عوض الله علي: لقد كانت التجربة السويسرية مصدرا للمقارنة مع السودان، وفيما يخص تجربة تقرير المصير، تناولت حالة كانتون جورا. فهو انفصل عن كانتون برن واصبح كانتونا مستقلا (عام 1979 بعد استفتاء شعبي، التحرير). وأنا استفدت كثيرا من الآلية التي تم بها انفصال جورا وتكوين كانتون منفصل عن برن. واستلهمت منه أفكارا في التجربة السودانية لأنه يعطي رسالة واضحة بان ممارسة الديمقراطية ليست محصورة.
ففي حالة كانتون جورا، تم تصويت كل الكانتون على الانفصال عن برن أم لا. ثم خُيرت بلديات جورا بين الالتحاق ببرن أو البقاء ضمن جورا. فمنها من اختار أن يلتحق بجورا، وجزء اختار أن يظل في برن، بينما اختارت بلديات أخرى الانضمام إلى بازل. وفيما بعد صوت المجتمع السويسري بأكمله على قبول الكانتون الجديد أو رفضه.
فالممارسة الديمقراطية إذن ليست محصورة فقط على أصحاب الحق في التصويت (في هذه الحالة سكان كانتون جورا)، بل امتد الى الآخرين المتأثرين بهذه الممارسة الديمقراطية، وهذه رسالة مهمة جدا لنا في السودان الذي سيشهد فيه الجنوب بعد فترة ست سنوات انتقالية استفتاء تقرير المصير في الانفصال عن الشمال (وفقا لتوقيع الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان على اتفاق سلام نهائي حول الجنوب في نيروبي بكينيا يوم 9 يناير 2005، التحرير).
سويس انفو: هل هنالك علاقة ناشئة بين معهد الفدرالية في فريبورغ والجامعات والمؤسسات السودانية؟
د. عمر عوض الله علي: أتمنى ذلك، فالإمكانيات الموجودة في معهد الفدرالية بجامعة فريبورغ والمكتبة الضخمة والنشاطات التي تتم في المعهد وانفتاح إدارته إزاء الأجانب وإعطاءهم فرصة الاستفادة من تلك المصادر شيء يستحق الإشادة.
وأنا أخص بالشكر طبعا القائمين على الإدارة. (…) وأنا اقترحت على وزارة العدل السودانية إنشاء إدارة خاصة بالدستور المقارن والفدرالية تكون مستشارة للدولة في حل النزاعات وفي التفاوض.
ورحبت الوزارة (…) بالاقتراح وأنا سأحاول نقل ما استفدت من التجربة السويسرية وهذه الدراسة بصورتين: إنشاء هذه الإدارة وتأهيل العاملين فيها بالتنسيق مع معهد الفدرالية في فريبورغ، ثم التدريس في الجامعات لتلقين مفهوم الفدرالية للجيل الحالي في السودان، وإنشاء جيل يحترم ويعترف بالتنوع وبالتالي يحاول الاستفادة من الفرص التي يمكن أن يفرها المعهد لتدريب هؤلاء الطلاب.
سويس انفو – إصلاح بخات
اقترح د.عمر عوض الله علي على وزارة العدل السودانية إنشاء ادارة خاصة بالدستور المقارن والفدرالية، ولقيت الفكرة ترحيب الوزارة. وفور عودته إلى السودان في آخر مارس 2006، سيسعى المتخرج الشاب إلى إنشاء تلك الإدارة وتأهيل العاملين فيها بالتنسيق مع معهد الفدرالية بجامعة فريبورغ. كما سيسعى لإنشاء جمعية صداقة سودانية سويسرية لا تحصر نشاطاتها في البروتوكولات، بل جمعية يكون مقياسها العمل وتبادل الخبرات. (استمع إلى الحوار)
د. عمر عوض الله علي من مواليد 7/10/1971 في مدينة الأبيِّض وسط غرب السودان، وأصله من قرية جبل أب شمال السودان.
في عام 1992، حصل على شهادة الباكالوريا من مدرسة خور طقت الثانوية بالأبيض.
في عام 1997، حصل على شهادة الإجازة في القانون بجامعة النيلين غرب الخرطوم.
في ديسمبر 1998، التحق بالإدارة الجنائية في وزارة العدل السوادنية كوكيل للنيابة ثم كمستشار قانوني لديوان الحكم الاتحادي.
في عام 2000، قدم للمرة الأولى إلى سويسرا للمشاركة في حلقات دراسية لفترة 21 يوما في معهد الفدرالية التابع لجامعة فريبورغ بتمويل من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون.
في نوفمبر 2001، عاد لسويسرا وبدأ بحثا دراسيا تم ترفيعه إلى درجة الماجستير ثم تفرغ في عام 2003 لرسالة الدكتوراه، بتمويل الحكومة السودانية وتعاون معهد الفدرالية في فريبورغ.
في 4 نوفمبر 2005، ناقش الرسالة في كلية الحقوق بجامعة فريبورغ وحصل على الشهادة بمرتبة الشرف.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.