“إجادة العربية عنصر مُهمّ للتواصل مع المجتمع العربي لكنه غيرُ كاف”
جال السفير السويسري مارتن أشباخير على عدة بلدان عربية زائرا وباحثا وسفيرا، وقبل هذا وذاك عاشقا للتراث العربي ومفتونا بحضارة الشرق.
عرف أشباخير في مختلف المراكز الدبلوماسية التي شغلها لحظات إحباط حينا، وفترات سعادة وانتشاء أحيانا أخرى بنجاحات حققها لوطنه، من خلال اتصالاته بكبار المسؤولين في بلد الإعتماد، أو من خلال استثمارات ساهم في استقطابها. ولعل آخر إنجاز حققه هو افتتاح السفارة السويسرية في الدوحة، عاصمة الدولة الخليجية الصاعدة، التي باتت تشكل مركزا ماليا واقتصاديا وسياسيا مهما في الخليج والشرق الأوسط عموما، لكن لم يكن للكنفدرالية تمثيل دبلوماسي فيها.
يُقر السفير أشباخير بأن إجادته للغة العربية ساعدته كثيرا على التواصل مع المجتمع في البلدان التي عمل فيها، فقد شدّ الرحال إلى الشام وهو يافع ليستكمل دراسة اللغة العربية في دمشق ثم في حلب، بعدما انضم وهو طالب إلى معهد الدراسات الإسلامية في جامعة برن في سبعينات القرن الماضي.
بعد انتهاء الدراسة اختار الدبلوماسية مهنة، فأتيح له أن يعمل في القاهرة وطرابلس ليبيا وبغداد ودمشق والدوحة. وهو إذ يلتقط اليوم قواسم مشتركة من البيئات المختلفة التي سبر أغوارها، يستذكر لحظات عسيرة وأخرى زاهية من مسيرته الطويلة.
درس مارتن أشباخير في جامعة برن واختص في الدراسات الشرقية.
اختار امتهان الديبلوماسية فانضم إلى وزارة الخارجية التي أرسلته في دورة تدريبية إلى موسكو قبل انهيار الاتحاد السوفياتي.
عُين في أول منصب له في موسكو بين 1987 و1989، قبل أن ينتقل إلى العالم العربي للعمل في السفارة السويسرية في القاهرة بين 1989 و1992.
تولى تسيير إدارة الشرق الأوسط في الخارجية السويسرية ببرن بين 1992 و1996، وانتقل من هناك إلى العمل في براغ، ثم في باريس قبل أن يعود إلى الحبيب الأول الشرق من بوابة العراق عام 2003.
انتقل إلى العمل سفيرا في ليبيا، وكانت محطته الموالية في دمشق التي ظل فيها سفيرا منذ 2007 إلى أن استدعته حكومته للتشاور في 2011، على إثر تصاعد عمليات القمع في حق المدنيين.
عُين في 21 فبراير 2012 سفيرا لدى دولة قطر.
استبداد وشعب طيب
في ليبيا القذافي مثلا وجد بلدا غير سهل من الناحية المهنية، رغم سهولة التعامل مع الشعب الليبي الذي يصفه باللطيف والودود. كان يتوقع أن يكون الليبيون صارمين، إلا أنه وجدهم طيبي المعشر، مما سهل عليه التواصل معهم.
يقول أشباخير “في العيد الوطني الأول الذي دعتني إليه إحدى السفارات اكتشفت حجم الصعوبات، إذ لم يحضره سوى أعضاء البعثات الدبلوماسية أي الأجانب وبعض موظفي الخارجية، ففهمتُ أنه يصعب على المواطنين الليبيين الإتصال بالبعثات الدبلوماسية”. مع ذلك عقد السفير العزم على رفع هذا التحدي فبدأ مع الوقت ينسج صداقات ويكسر جدار العزلة فاستطاع شيئا فشيئا أن يُقابل ليبيين من جميع الفئات. وهو يعزو ذلك أيضا إلى إجادته العربية، لكنه يؤكد أيضا على ضرورة الصبر والمثابرة، فبفضلهما انفتحت الأبواب المغلقة. ويشير أشباخير بشكل خاص إلى موائد الإفطار في رمضان التي كان يقيمها سفراء الدول العربية في طرابلس ويدعون لها ليبيين، مما أتاح له توسيع معارفه.
هل واجه صعوبات؟ ومن أي نوع؟ طبعا، يُجيب السفير الذي لم يبق في ليبيا سوى سنة ونصف السنة، وفي مقدمة العقبات أن القذافي قلل من فاعلية مؤسسات الدولة فكانت شبه مشلولة، فكان صعبا على السفير التواصل مع صناع القرار، لأن جميع القرارات كانت بأيدي فئة قليلة.
أما من الجانب السويسري، فيقول أشباخير بأن التقارير التي تركها أسلافه في السفارة على مدى عشرين عاما أفادته كثيرا، واطلاع السفير على ما تركه سابقوه ليس حالة معتادة في السفارات. لكن هل استعانت برن بخبرته في الشأن الليبي بعد نهاية مهامه في طرابلس؟ نعم تم ذلك ، يُجيب الضيف.
سوريا: مجتمع منفتح
أما في المحطة السورية فاستفاد ضيفنا من معرفته السابقة بالبلد ومن انفتاح أهله. كما أن الأهم هو أن إقامته السابقة في البلد كانت خير عون له لاكتساب رؤية تاريخية وأفق جيد انطلاقا من وضعه الجديد هناك بوصفه سفيرا وليس طالبا.
في الجملة، أمضى أشباخير ست سنوات في سوريا، فهي البلد العربي الذي يعرفه أفضل من سواه. مع ذلك وجد صعوبة في فهم الإنطلاقة الأولى للثورة، فعندما اندلعت احتجاجات في ضواحي دمشق على سبيل المثال اكتشف أنه لا يعرف كثيرا عن تلك الضواحي، رغم أنه زارها وتواصل مع أهلها. وهو يقول اليوم، بنوع من المسافة، عن تجربته في سوريا “اكتشفت في آخر أيامي في دمشق وقبل أن يتم سحبي منها في أغسطس 2011 أنني رغم معرفتي الطويلة بالبلد لا أزال أجهل الكثير”. وأضاف “من السهل على الدبلوماسي الدخول للمجتمع السوري ونسج صداقات واسعة نسبيا لأنه مجتمع أقل محافظة من سواه، والسلطات السورية عموما لم تكن تمنع المواطن من الإتصال بالسفارات”. ربما لعبت اللهجة السورية، التي يتكلمها السفير بطلاقة، دورا مساعدا في تيسير تواصله مع الناس، لكنها ليست كافية في جميع المجتمعات العربية على ما قال.
لم يجد السفير السويسري في سوريا صعوبات لمقابلة المسؤولين الرسميين فهم يستقبلونه بحفاوة. غير أن تلك الإتصالات صارت نادرة بعد اندلاع الإحتجاجات في 2011. ولاحظ السفير أن المعلومات باتت متوافرة أكثر بعد اندلاع الثورة لكنها كانت في الوقت نفسه متناقضة وتحتاج للتثبت من مدى صحتها.
على أن تجربة السفير أشباخير في سوريا اتسمت بميزة أخرى وهي أنه اعتبر نفسه منذ البداية سفيرا لسويسرا ليس فقط لدى الحكومة بل أيضا لدى المجتمع السوري “فالحكومات تتغير”، كما قال، “أما الشعوب فتتحول بنسق أقل”، وهذا ما أتاح له إقامة عدة نشاطات ثقافية، خاصة في مدينة حلب.
لحظة فارقة في بغداد
المحطة المهمة الأخرى في رحلة ضيفنا الخصيبة كان العراق الذي أتى إليه في لحظة تاريخية فارقة، وتحديدا بعد سقوط بغداد عام 2003. كانت المعلومات كثيرة بعدما صار المجتمع منفتحا في أعقاب إسقاط النظام السابق، لكنها أيضا متضاربة ومُحيّرة مما يستدعي غربلتها.
اعتمد السفير على الصحف الكثيرة التي ظهرت آنذاك وعلى حديث الناس الذين صاروا يتداولون معلومات غزيرة. لكنه كان في الوقت نفسه كثير التنقل قبل أن تتزايد المخاطر الأمنية مع تصاعد التفجيرات. أمضى أشباخير ثلاث سنوات في العراق، وكان لافتا أنه اختار أن يسكن خارج المنطقة الخضراء المُحصّنة، ومن هناك كان يرقب الأوضاع بنفسه ويستقي الأخبار من المحيط الذي كان يعيش فيه.
انفتاح ومحافظة
اكتشف أشباخير في المحطة الراهنة من مسيرته الدبلوماسية المديدة، بالدوحة المجتمع الخليجي للمرة الأولى، فقطر كما يقول بلد شديد الحيوية وسريع التحول، وهو يستقطب أعدادا كبيرة من الأجانب. وكان السؤال الذي يقود بصره هو الآتي : كيف استطاع المجتمع القطري التوفيق بين المحافظة على التقاليد والرغبة في الإنفتاح؟
في هذا البلد وجد كل شيء تقريبا جديدا عليه: بلد عضو في مجلس التعاون الخليجي وغني… بلد صغير الحجم لكن لديه في الوقت نفسه طموحات كبيرة… وفي المقابل جاء هو ليمثل سويسرا التي لها سمعة جيدة هنا كما في بلدان أخرى، وهذا يُحمّله مسؤولية كبيرة. من هنا كان من أبرز التحديات التي واجهها في قطر تجربة فتح سفارة للمرة الأولى في هذا البلد، إذ كان على السفير أشباخير أن يُوجد كل شيء من الصفر، علما أنه لا يملك خبرة سابقة بفتح السفارات.
عُدت أسال السفير عن أهم الدروس التي استخلصها من خبرته الطويلة، فأشار إلى أهمية العلاقات مع الناس في العالم العربي لأن العرب اجتماعيون بصفة عامة وهذا يعود إلى طبيعتهم المضيافة. وقال: “تلقيت أحيانا دعوات لمناسبات غير رسمية كنت أسعد بالذهاب إليها وكنت أستقبل بحفاوة كبرى”، كما أشار إلى ضرورة “عدم التسرع والمثابرة لمعرفة الأرضية الثقافية والإجتماعية، ومن ثم إقامة علاقات واسعة مع المجتمع كافة، لأن السفير ليس ممثلا لبلده لدى السلطات فقط وإنما عليه أن يُقيم أيضا جسورا بين البلدين على كافة المستويات، وعليه أن يُسهم في تعميق التفاهم المتبادل بين المجتمعين”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.