استفاقة المجتمع المدني الليبي تضعه في مواجهة مع “الأجهزة”
لامست النُّـخبة الليبية في الفترة الأخيرة كثيرا من "المُحرّمات" السياسية، التي كانت خطوطا حمراء يتهيب المثقّـفون والسياسيون في الداخل، من المساس بها أو مجرد الاقتراب منها.
والأرجح، أن هذه الظاهرة ليست فورة عابِـرة، لأنها تزامنت مع انتعاشة أضفَـت حيوية خاصة على مؤسسات المجتمع المدني أو على الأقل بعض النوى التي بدأت تتّـخذ لها موقعا بارزا في الخارطة الليبية وتستقطب الجمهور، بعدما ظلت تُعتبر لفترة طويلة دائرة في فلك الحُـكم وأجهزته.
واكتست هذه الحيوية اللاّفتة أشكالا مختلفة، وشملت قطاعات لا جسور بينها. فمن المقالات النقدية التي اتّـسمت بجرأة غيْـر معهودة في تساقط الثغرات الاجتماعية والسياسية لنظام الحكم السائد منذ أكثر من أربعة قرون، إلى المحاضرات التي تجتمع النُخب بمناسبتها لإدارة حوارات لم تكُـن السلطات تتحمّـلها في الماضي، وانتهاءً بالمدّ الاحتجاجي في قطاعات معروفة في العالم العربي بتمرّدها، إلا أنها كانت تحت السيطرة في ليبيا.
في هذا السياق، تضمّـنت المحاضرة التي ألقتها الدكتورة آمال العبيدي، عضو هيئة التدريس بقسم العلوم السياسية بجامعة قار يونس في بيت المدينة الثقافي بمدينة بنغازي بعنوان “القبيلة والقبلية في ليبيا”، في إطار مسامرات رمضانية، نقدا للأسُـس القبلية لنظام الحُـكم الحالي.
فبعد أن استعرضت تطوّر الولاءات القبلية في تكوين النظام، انتقدت “استشراء النفوذ القبلي في العملية السياسية”، على إثر وصول “الضبّـاط الأحرار” إلى سدّة الحُـكم عام 1969، وأشارت إلى التأثير القوي للانتماءات القبلية في المؤتمرات واللِّـجان الشعبية، “من خلال عمليات التّـصعيد والاختيار الشعبي، اعتبارا من عام 1977″، على حد قولها.
وأكّـدت أيضا على “استشراء التدخّـل القبلي في عمليات الاختيار الشعبي وفي إعادة بناء النقابات والروابط الطلابية”، مُشيرة إلى أن الانتماء القبلي اتُّـخذ أساسا، للدّفع بعديد من المرشحين إلى المناصِـب أو اختيارهم لها وبروز ظاهرة الوفاق القبلي في توزيع المناصب السياسية.
أكثر من ذلك، أظهرت الدكتورة العبيدي من خلال دراسات ميدانية قامت بها هي وطلاّبها، أن “القبيلة أصبحت جُـزءً من المشهد السياسي منذ أوائل التسعينات، من خلال إحداث “مؤسسة جديدة واستثنائية، هي القيادات الشعبية الاجتماعية، إذ تَـمّ تعريفها على أنها “المِـظلّـة الوطنية الرئيسية” لجميع القِـوى داخل ليبيا، مع التركيز عملِـيا على القيادات القبلية في كل منطقة”، ورأت أن كل الأنشطة التي أسندت إليها، أثبتت أنها تسعى ليس إلى تحييد القبيلة، وإنما إلى تحويلها “من مؤسسة غيْـر رسمية إلى مؤسسة رسمية وشريك في العملية السياسية”.
واعتبرت أن القبيلة أضحت الآن “مصدرا من مصادر الفساد، الذي بات يستشري في كل مكان، سواء على المستوى المؤسسي أو على صعيد التّـجنيد للمناصب المختلفة”، كما أنها تحوّلت بوضعها الحالي، وفي غياب مؤسسات الدولة، إلى مصدر من مصادر التهديد الأمني على المستوى المحلي، وهي تشكل تحدِيّـا حقيقيا لمبدإ الحُـكم بالقانون”.
والمُـهمّ، ليس فقط الأفكار الجَـسورة التي طرحتها هذه الأكاديمية الليبية، وإنما المناقشات التي أثارتها، إذ أكّـدت بعض المداخلات، أنه كلّـما تجذّرت فكرة الانتماء للقبيلة، ازداد الفساد الإداري والسياسي. ولئن أبرزت مداخلات أخرى الدّور الإيجابي للقبيلة تاريخيا، خاصة خلال فترة التصدّي للاستعمار الإيطالي، توقفت الغالبية عند الجوانب السّـلبية، مُشدِّدة على أن الفساد ليس من مسؤولية القبيلة فقط، بل الدولة “فهي مَـن تتحمّـل مسؤوليته، خاصة في غياب دور المؤسسات الرقابية وعدم تنفيذ القانون”.
كذلك اعتبر مُعقّـبون آخرون أن القبيلة ليست جِـسما مستقلا عن الدولة وأن “ما يحدُث الآن هو نتيجة فشل مؤسسات الدولة والمشروع الوطني في ليبيا”، مشيرين إلى أن “الناس فقدوا ثقتهم في مؤسسات الدولة وأن السلوكيات الفردية لن تنتهي إلا إذا وُجِـدت دولة المؤسسات الحقيقية”.
وفي سياق آخر، طفا على السطح مجدّدا الجدل حول وضع “حركة اللِّـجان الثورية”، ذات السطوة المُـطلقة، إذ طرح السؤال محمد إبراهيم العلاقي، نقيب المحامين الأسبق، من خلال مقال جديد ربط فيه مع ندوة أقيمت في مقر نقابة محاميي طرابلس في 2008، وكان هو مشاركا فيها بمعية الأكاديمي الدكتور الهادي أبو حمرة والمحامي محمد خليفة، وانتهوا في ختامها إلى خلاصة، مفادُها أن “حركة اللجان الثورية يجب أن تخضع إلى القانون. ففي دولة القانون، لا يمكن لأيّ مؤسسة أن تكون بمنأى عن سيادة حُـكم القانون”.
وعلى رغم أن العلاقي، الذي يتحمّـل مسؤولية “جمعية حقوق الإنسان” في مؤسسة القذافي العالمية للتنمية والجمعيات، التي يديرها سيف الإسلام، اعتبر أن “اللجان الثورية” هي أمر واقع وأنها تحتاج إلى أن العمل داخل الإطار القانوني وليس داخل الإطار الواقعي، فإن زميله عمر الحباسي شدّد على أن هذه الحركة تُـمثل حزبا سياسيا، ممّـا استدعى بيانا مضادّا من “اللجان الثورية”.
ومن المعلوم أن الأحزاب السياسية محظورة في ليبيا بموجب القانون رقم 17 لسنة 72 الذي جرّم التحَـزّب، إذ نصّ في مادته الثانية على أن “الحزبية خيانة في حقّ الوطن وتحالف قوى الشعب العاملة الممثلة في الاتحاد الاشتراكي العربي”، أي الحزب الحاكم آنذاك. ويمكن اعتبار هذا النوع من الجدل إرهاصات تؤكّـد على ضرورة نقل ليبيا إلى التعددية السياسية، مع الدّعوة إلى تلجيم “حركة اللجان الثورية”، التي تمثِّـل قبضة النظام وعموده الفِـقري.
نقابات مستقلة
وفي خطٍّ مُـوازٍ، دافعت عزة كامل المقهور، نجلة وزير الخارجية الراحل كامل حسن المقهور، عن الحق في تشكيل نقابات مستقلة في ليبيا. وانتقدت في مقال نشرته أواخر الشهر الماضي في صحيفة “أويا”، قانون 2001 الخاص بتنظيم عمل الجمعيات الأهلية، إذ لم يعُـد هذا القانون يُخضِـعها لرقابة القضاء وحده، وإنما إلى السلطة التنفيذية، وهي “رقابة سابقة ومستمرّة ولاحقة”، على حد قول عزة المقهور.
واثنت على قانون 1970، مُعتبِـرة أن “استصدار قانون جديد، يُـقيِّـد من حركة المجتمع ومن رغبته في مزيد من المشاركة والتأثير، بل يشكِّـل عائقا بارزا أمام تكوين مؤسسات المجتمع المدني”. واستخلصت أن العنوان الذي يقضي “بإعادة تنظيم الجمعيات الأهلية”، إنما يعني بالنظر إلى فحواه وتشدّده، مقارنة بالقانون السابق، الرغبة في إيقاف نمُـو هذه المؤسسات والحدّ من انتشارها والسّـعي لعرقلتها”، مُتسائلة “كيف يكون القانون الصادر في القرن الماضي أفضل حالا من القانون الصادر سنة 2001؟”.
وشدّدت على أن تكوين مؤسسات المجتمع المدني “يحكُـمه قانون متشدّد يُـخالف مبادئ وقواعد حقوق الإنسان، الذي يقوم على الحقّ في تكوين الجمعيات ويشترط إجراءات معقّـدة ومتطلّـبات ومشترطات بيروقراطية، ممّـا يجعله لا يستوعِـب حركة المجتمع المدني، ويَـحُـول بالتالي، دون تكوينه وتأطيره وتأثيره ومشاركته بفعالية”.
فإما أن تلحق التشريعات بحركة المجتمع وتطوره، بل تسبقه أحيانا وتستشرف مستقبله، وإما أن تتكوّن مؤسسات الظلّ، خارج إطار التشريع وبسبب عوامل وأسباب تُـعِـيق تكوين مؤسسات المجتمع المدني بشكل رسمي وشفّـاف في إطار القانون، الذي يجب أن يُـلبِّـي حاجات المجتمع ويُـبنى على قواعد حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، على حدّ تعبير المحامية عزّة المقهور.
هجوم على “مؤتمر الشعب العام”
وفي خِـضمِّ هذه الأصوات المرتفِـعة ضد وصاية الحُـكم على المجتمع المدني وضد وضع الجمعيات الأهلية في قبضته، لوحظت نقلة نحو درجة أعلى من التمرّد بالتعرّض لـ “مؤتمر الشعب العام”، صاحب الأمر في الوصاية على الجمعيات، والذي تعرّض لهجوم لاذِع في شخص محمد جبريل، أمين شؤون الاتحادات والنقابات والروابط المهنية في المؤتمر، الذي يمكن اعتباره وزير الداخلية المكلّـف بضبط الجمعيات الأهلية والمجتمع المدني عموما.
واشتبك جبريل مع العلاقي علَـنا، حين اتّـهم الثاني الأول بالتأثير في نتائج انتخابات جمعيات أهلية وبكونه يصنع أمانات تُـدين له بالولاء، غير أن جبريل أقرّ بأنه أشرف على انتقاء 10 أمانات عامة لاتحاد أو نقابة أو رابطة مهنية من أصل 55. وكشف أن الأساس الخفِـي للسِّـجال بينه وبين العلاقي، يعود إلى وقوف الأخير وراء تقرير حقوق الإنسان الذي أصدرته “مؤسسة القذافي”، والذي أدان تسلّـط أمانة شؤون النقابات في “مؤتمر الشعب العام” على الجمعيات الأهلية. وأكّـد جبريل أن “النقابات جُـزء من منظومة سُـلطة الشعب. فكيف يستقيم المنطِـق إذا استُـكثر عليه صلاحية متابعة تنظيم نقابة أو مؤتمر مهني؟”.
ولم يبق هذا السِّـجال سابحا في العالم النظري، بل شكّـلت الجمعية العمومية لنقابة محاميي بنغازي مؤخّـرا، اختبارا قويا ودرْسا عمليا له، إذ قامت أمانة نقابة محاميي بنغازي المِـهنية المنتهِـية مدّتها بإغلاق النقابة وغلْـقها بالأقفال، للحيلولة دون انعقاد المؤتمر المهني الأساسي الطارئ، الذي دعا إليه جموع من المحامين بالمدينة، قُـدِّرت أعدادهم بالمئات.
أكثر من ذلك، وزّعت النقابة المنتهية مدّتها، بيانا بثَّـته إذاعة بنغازي المحلية، وصفت فيه الدّاعين إلى انعقاد الجمعية العمومية، بأنهم قلّـة وأنها كأمانة تستمِـد شرعيتها من أمانة شؤون النقابات في “مؤتمر الشعب العام”، أي من محمد جبريل.
وفي مقابل ذلك، صرّح العديد من الأعضاء، الدّاعين لانعقاد الجمعية العمومية الطارئة، بأن النقابة المُـنتهية، تستمِـد صلاحياتها وتعليماتها من المؤتمر المِـهني الأساسي، الذي ليس له مرجعية نقابية خاصة به، مؤكِّـدين إصرارهم على عقد المؤتمر الطارئ في مقرّ نقابة المحامين، وإذا تعذّر ذلك، فإن المؤتمر سيتّـخذ إجراءات كفيلة لإنفاذ إرادة المحامين. وكان عدد من المحامين في مدينة بنغازي قد عمّـموا دعوة لجموع المحامين لعقد مؤتمر مهني طارئ، لبحث ما وصفوه افتِـقاد أمانة نقابة المحامين، السَّـند القانوني، لانتهاء المدّة القانونية للأمانة منذ ما يزيد عن العام.
صراع أجنحة؟
وأظهر التّـدافع، الذي شهده قطاع المحامين في بنغازي، وجها آخر من استِـفاقة المجتمع المدني وانتقاله إلى خوْض المعارك مع الأجهزة الرسمية، التي كانت بأيديها مفاتيح المنظمات الأهلية والنقابات. كما كشف النِّـقاب عن الصراع بين أجنحة الحُـكم في شأن التّـعاطي مع غلَـيان المجتمع المدني. إلا أن الجناحيْـن يندمجان إذا ما شعرا بخطر مشترك، وهو ما جسَّـده الاعتداء الذي تعرّض له الصحفي محمد العربي الصريط في الشارع العام في بنغازي أواخر الشهر الماضي.
فعلى رغم الطابع السياسي والإجرامي للاعتداء، سارعت جمعية حقوق الإنسان في “مؤسسة القذافي العالمية” إلى نفْـي مسؤولية أجهزة الأمن، مؤكِّـدة أن “الموضوع لا يعدو أن يكون مشاجَـرة وقعت بالطريق العام وأدّت إلى ما أدّت إليه من إصابات بين طرفَـيْ المشاجرة”، بل وقالت “إن التحقيقات لم تُـظهِـر لنا أية انتهاكات لحقوق الإنسان أو أية علاقة للمؤسسة الأمنية بالواقعة”، ودافعت عن المؤسسة الأمنية، التي قالت إنها “مؤسسة ليبية، مهمّـتها الحفاظ على أمْـن هذا الوطن والدّفاع عنه وِفق القانون، وجمعية حقوق الإنسان كمؤسسة أهلية، ترصد أداءها وغيرها من المؤسسات وِفق المُـتعارف عليه في هذا الشأن”.
قيل كل ذلك، في حين أن الصحفي محمد الصريط، المعروف بكتاباته النقدية، تعرّض إلى اعتداء أُصِـيب على إثره بجروح، بيْـن كبيرة ومتوسطة، وأُدْخِـل المستشفى لمراقبة حالته الصحية، لكن الشرطة أخرجته منه عنْـوة وتمّ إيقافه في مركز شرطة المدينة، دون مراعاة لوضعه الصحي.
أليست هذه الحادثة معطوفة على التّـدافع في نقابة محاميي بنغازي، أفضل مؤشِّـر على ارتفاع حرارة النقد في المجتمع الأهلي الليبي وشدّة الهجوم المضاد الآتي من الأجهزة والدّائرين في فلَـكها؟.
شنغهاي (رويترز) – اتهم سيف الإسلام القذافي – نجل الزعيم الليبي والذي ينظر إليه على أنه خليفة محتملا لوالده – الحكومة الليبية يوم الأربعاء 29 سبتمبر بعدم الكفاءة، وهو ما يسلط الضوء على انقسامات داخل النُّـخبة الحاكمة في البلد المُـصدّر للنفط.
ويتزعم سيف الإسلام معسكرا إصلاحيا في ليبيا، يخوض صراعا على النفوذ ضدّ حرس قديم يضمّ شخصيات بارزة من معاوني والده.
وهاجم سيف الإسلام الحكومة بعد أن زار الجناح الليبي في معرض وورلد إكسبو الدولي في مدينة شنغهاي الصينية.
وقال سيف الإسلام – الذي لا يشغل أي منصب رسمي – إنه أشرف بنفسه على تنظيم الجناح الليبي في المعرض، لأن الحكومة تقاعست عن إظهار اهتمام كافٍ. وأضاف قائلا للصحفيين إن الحكومة الليبية لم تهتمّ بإرسال “موظف صغير لحضور يوم ليبيا في المعرض… ذلك يظهر أنه لا توجد دولة في ليبيا”. ومضى قائلا إنه تولى بنفسه ترتيب الدّعم لمشاركة ليبيا في معرض شنغهاي، لأن الحكومة الليبية تقاعست عن إعطاء مساندة كافية لمشاركة البلد.
“مشاركة ليبيا في معرض شنغهاي الدولي هي أضعف وأسوأ مشاركة”.
ويحكم القذافي ليبيا – التي توجد فيها أكبر احتياطيات نفطية مؤكّـدة في إفريقيا – منذ عام 1969، وهو بذلك الأكثر بقاءً في الحُـكم من أي زعيم آخر في القارة.
ولعب سيف الإسلام دورا حيويا في التفاوض على إنهاء العقوبات الدولية على ليبيا، بعد أن تخلت البلاد عن برامج أسلحة محظورة، ويسعى منذ ذلك الحين لحشد التأييد لتحديث البلاد.
ويقول محللون كثيرون إن سيف الإسلام، هو المرشح الأكثر ترجيحا لأنْ يكون الزعيم القادم لليبيا، لكنه لكي ينجح في ذلك، يتعين عليه أولا أن يتغلب على المحافظين في الحكومة والجيش وأجهزة المخابرات.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 30 سبتمبر 2010)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.