الأكراد سيُغيّـرون كل جغرافيا الشرق الأوسط.. وتاريخه؟
هل تكون القضية أو الورقة الكردية، هي وليس كل الهزات الراهنة في المشرق العربي، العامل الأول الذي سيفجِّـر خرائط سايكس - بيكو، ويُعيد رسم اللوحة الجيو - سياسية الجديدة في الشرق الأوسط؟ هذا السؤال الدقيق قفز إلى الواجهة مع سلسلة التطوّرات المفاجئة على صعيد كل الديموغرافيا الكردية، التي تحتلّ مساحات شاسعة، تخترق أربع دول، هي تركيا وسوريا والعراق وإيران.
نقطة البداية، كما سنرى بعد قليل، كانت في تركيا التي أبرمت اتِّفاق سلام مع حزب العمّال الكردستاني، الذي يقاتلها منذ ثلاثة عقود في حرب غوار متّصلة، كما كانت في التحالف الاقتصادي (والأمني غير المُعلَن) بين أنقرة وإقليم كردستان العراق.
بيْد أن نقطة التفجير الدّافعة إلى احتمال تغيير الخرائط، كانت في سوريا أو ما يسميه الأكراد غرب كردستان. فماذا يجري هناك؟
أكراد سوريا
في الآونة الأخيرة، بات واضحاً أن المناطق الكردية، العراقية والسورية، دخلت مرحلة جديدة وخطِرة من التصعيد، تنبِّئ باحتمال تمدّد الحرب الأهلية السورية إلى شمال العراق، بعد أن تمدّدت أصلاً إلى غربه وعاصمته عبْر المنظمات الأصولية المتطرّفة.
فالتدفّـق الأخير والهائل للاجئين الأكراد السوريين، والذي لم يسبق له مثيل (30 ألفاً خلال أيام قليلة بعد فتح المعابر في شهر سبتمبر 2013)، معطوفاً على تهديد رئيس إقليم كردستان العراق مسعود برزاني بـ “استخدام كل طاقات حكومة الإقليم للدفاع عن النساء والأطفال والمواطنين الأكراد في غرب كردستان (أي شمال شرق سوريا)”، قد أدخل كردستان العراق رسمياً ومباشرة في أتون الأزمة السورية.
ثم جاءت الإنفجارات الإرهابية في أربيل يوم 29 سبتمبر الماضي، والتي يُعتقد أن وراءها منظمات إسلامية متطرفة، لتؤكد مدى خطورة المرحلة التي دخلتها المناطق الكردية في كلٍ من سورية والعراق، وإلى حد ما في تركيا وإيران.
وتلفت مصادر سياسية كردية إلى أن أوضح المؤشرات على ذلك، هو بيان صالح مسلم محمد، رئيس حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا يوم 17 أغسطس 2013، الذي ألمح فيه إلى تغيير موقِفه الرّافض لدخول قوات البيشمركة لكردستان العراق إلى شمال غرب سوريا لوقف هجمات المنظمات الأصولية المتطرِّفة على الأكراد هناك. ومعروف أن الإتحاد الديمقراطي، رفض في السابق عروض برزاني لمساعدة كردستان السورية، كما عرقل عودة مجموعة من الأكراد السوريين الذين درّبتهم قوات البيشمركة في كردستان العراق. بيد أن مسلم قال في اتصال هاتفي لصحيفة “واشنطن بوست”، إنه “قد يسمح لقوات البيشمركة بالدخول إلى سوريا، إذا ما تطلب الأمر ذلك”.
جدير بالذكر أن أكراد سوريا، الذين يشكّلون نحو 10% من سكان البلاد (زهاء 22 مليونا)، وقفوا حتى الآونة الأخيرة على هامش الحرب الأهلية السورية وركّزوا على بناء أسُس إقليمٍ إداري – أمني يتمتّع بالحُكم الذاتي في المنطقة الشمالية الغربية من البلاد. لكن القتال مع بعض المنظمات السُنّية المتطرِّفة، تصاعد خلال الفترة الماضية في ما وصفه المحلِّلون الغربيون بأنه “صِدام أيديولوجيات ونزاع على السلطة والموارد”، حيث أن الأكراد السوريين يقبعون فوق حقول غنية بالنفط ويشرفون على معابِر حدودية مهمّة.
في الأثناء، تتساءل مصادر دبلوماسية عن موقف تركيا، التي تُعتبر الآن اللاّعب الإقليمي الأول في الشأن الكردي العام في المنطقة، في حال قرّرت حكومة كردستان العراق بالفعل التدخّل العسكري في سوريا، خاصة وأن تركيا مُتّهمة من بعض الفصائل الكردية بتسهيل تمويل وتسليح بعض المنظمات الإسلامية عبْر الحدود مع شمال سوريا.
بيْد أن أنقرة كانت حريصة في الآونة الأخيرة على بناء جسور عدّة مع حزب الإتحاد الديمقراطي، حيث استقبلت رئيسه مسلم مرّتين خلال شهر واحد، الأمر الذي دفع هذا الأخير إلى التصريح بأن “تركيا غيَّرت موقِفها بشكل جِذري من قضيتنا”. كما لُوحظ أن أنقرة كانت تبذل جهوداً متّصلة لدفع الإتحاد الديمقراطي إلى التقارب مع الإئتلاف السوري المعارض.
نفس المصادر تُشير إلى أنه، في حال قرّرت حكومة كردستان التدخّل، فهذا سيتمّ بتنسيق كامل مع أنقرة، التي ستحدِّد حينذاك “قواعد اللّعبة” الجديدة في المنطقة، بما يضمن استمرار مشروعها الإقليمي الطموح ،الخاص بإقامة ما وصفته صحيفة “فايننشال تايمز” الرزينة مؤخراً بـ “منطقة النفوذ التركية المُزدهِرة، التي تضم أمّتيْن (الأكراد والأتراك) في دولة واحدة، يدفعها ويحفِّزها الإندماج الإقتصادي”.
وتضيف إلى ذلك دوائر أبحاث استراتيجية أمريكية القول، أن تمدّد الحرب السورية إلى كردستان العراق، سيكون أيضاً مؤشّراً فاقعاً على استحالة إعادة بناء دولة سورية واحدة وموحّدة، وعلى أن موسم إعادة النظر بخرائط سايكس – بيكو قد أزف. لكن كيف سيتم ذلك؟ ولماذا؟
تغيير المعادلات
قد يكون من المفيد هنا، العودة إلى التصريح الذي أدلى به صالح مسلم غَـداة زيارته الأولى لأنقرة، حين قال: “لقد غيَّـرت تركيا استراتيجيتها، لأن الأكراد في الشرق الأوسط أصبح لهم ثِقلهم ولم يعد في وسع أحد القفز فوق قضيتهم أو إغفال دورهم في المعادلة الدولية”، على حدّ قوله.
في هذا السياق، رأى المحللون مُحصّلات هامة لزيارة مسلم لتركيا على مستوييْن: الأول، تكتيكي سوري. والثاني، استراتيجي إقليمي. على الصعيد الأول، تفرض المعارك التي يخوضها حزب الإتحاد منذ فترة مع المسلّحين الأصوليين المتطرّفين قرب الحدود السورية – التركية، تحديات جمّة على السياسة التركية، الدافعة باتِّجاه إسقاط نظام الرئيس الأسد، وعلى الأمن القومي التركي جغرافيا. ولذا يبذل المسؤولون الأتراك جهوداً حثيثة لاحتواء هذه المعارك من جهة، ولإقناع حزب الإتحاد بالانضواء تحت مظلّة المعارضة السياسية السورية، من جهة ثانية.
هذا الجهد التكتيكي التركي يصبّ مباشرة في ما يصفه المحللون الغربيون بـ “الإنقلاب الإستراتيجي” التركي إزاء القضية الكردية، في كل من العراق وسوريا وفي الداخل التركي نفسه.
فعلى الصعيد السوري، حين أخلى الجيش النظامي السوري فجأة في الصيف الماضي المناطق الكردية الحدودية الشمالية الشرقية المُحاذية لتركيا، وجدت أنقرة نفسها في مواجهة كِيان كردي جديد في الجنوب. لكن، بدلاً من أن ينفِّـذ رئيس الحكومة التركي أردوغان تهديده قبل سنة واحدة من هذا التطوّر، بأنه سيستخدِم القوّة العسكرية لمنع قيام أي كيان كردي مستقِل في سوريا، عمد إلى فتح أبواب الحِوار مع حزب الإتحاد الكردي السوري، الذي يُعتبر فرعاً من حزب العمّال الكردستاني، الذي كان يقاتل أنقرة منذ 30 عاماً في حرب غوار أودت بحياة زهاء 40 ألف شخص.
إلى أين؟
هذا التطوّر تَعانَق مع التغييرات الكبرى التي أدخلها حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ نهاية عام 2002 على توجّهات أنقرة حيال الأكراد بشكل عام.
نقطة البداية هنا، كانت في شمال العراق، حيث تعمل أنقرة منذ سنوات عدّة لدمج إقليم كردستان العراق في منظومة اقتصادها القومي. ويُمكن القول أنها نجحت في ذلك إلى حدٍّ بعيد، إذ أنها تزوّد الإقليم بمعظم وارداته التي تشكّل 70% من صادرات تركيا إلى العراق (11 مليار دولار). بيد أن العامِل الأهم في هذه العلاقة، هي صفقة الطاقة بين الطرفيْن، التي ستكون في الواقع المدماك الرئيسي لقيام تحالف استراتيجي حقيقي بين أنقرة وكردستان العراق.
في الوقت نفسه، يُعتقَد أن صفقة الطاقة، التي لم يكشف بعدُ النقاب عن مضمونها، ستمنح تركيا امتيازات كبرى لاستكشاف حقول النفط والغاز في شمال العراق. كما أنها تمنح هذه الأخيرة أسعاراً تفضيلية لصادرات الإقليم النفطية. وفي المقابل، تساعد تركيا الحكومة الإقليمية على بناء بُنى تحتية لخطوط أنابيب، تسمح بنقل الغاز والنفط إلى تركيا، من دون الإعتماد على خطّ أنابيب الغاز الوطني العراقي، الذي تُسيطر عليه حكومة بغداد.
نقطة الإنطلاق الثانية في العلاقات التركية – الكردية، برزت مع توصُّل مساعدي أردوغان إلى اتفاق مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، لوقف الحرب بين الطرفيْن، في مقابل إدخال إصلاحات دستورية ولُغوية وإقليمية لصالح أكراد تركيا.
هذا الاتفاق، الذي تضمَّن انسحاب قوات البيشمركة من تركيا إلى شمال العراق، لا يزال صامِدا حتى الآن، على رغم الصعوبات التي تعترِضه، وهو ينتظر نجاح أردوغان في إدخال التعديلات الدستورية الضرورية، لتوسيع دائرة الحقوق القومية الكردية.
وأخيراً، جاء التقارب الجديد بين تركيا وأكراد سوريا، ليستكمل وضع خريطة كردستان الكبرى (ما عدا كردستان إيران، حتى الآن على الأقل)، في حُضن “العثمانية الجديدة”، التي تنبعث الآن في بلاد الأناضول، مُمهِّدة بذلك لاحتمال قيام تحالُف استراتيجي وكوندومينيوم اقتصادي تركي – كردي مُشترك، قد يغيّر كل خريطة المشرق العربي.
هل ينجح هذا المسعى التاريخي؟ لا شيء واضحاً بعد. لكن الأكيد أن خرائط سايكس بيكو تحتضر الآن، وأن الورقة الكردية ستكون العامل الأكبر والأهم في تحديد معالِم الخرائط الجديدة، التي ستنبثق من الحروب الزلزالية الراهنة. لماذا؟ لأنهم (وعلى عكس الطوائف والإثنيات الأخرى في الشرق الأوسط) يتحكّمون بمسار ومصير أربع دول إقليمية كبرى في الشرق الأوسط، ومعها مسار ومصير كل خرائط المنطقة.
هدد رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني في مقابلة حصرية مع وكالة فرانس برس بضرب “الإرهابيين في اي مكان”، بما في ذلك سوريا، مشددا في الوقت ذاته على عدم توريط الأكراد في الأزمة السورية. وفيما حذر من ان الصراع الدائر في العراق قد يتحول الى حرب اهلية، أكد أن إقامة الدولة الكردية المستقلة في ظل الظروف التي تشهدها المنطقة لا يجب أن يتم من خلال العنف، داعيا الأكراد لاعتماد الحوار مع الدول التي يعيشون فيها.
وقال بارزاني في اول تعليق مباشر له على الهجوم الذي استهدف اربيل في شهر سبتمبر الماضي إن هذا الهجوم لم يكن “الوحيد فقبل ذلك حصلت هجمات كثيرة لكن أجهضت قبل التنفيذ أو خلال التنفيذ”. واكد ردا على سؤال حول امكانية ضرب المتورطين في الهجوم وتحديدا في سوريا، انه “لن نتردد في توجيه ضربات إلى المجرمين الارهابيين في اي مكان”، مضيفا انه “لا يمكن للإرهابيين ان يقيموا قاعدة في كردستان”.
وفي 29 سبتمبر 2013، قتل سبعة عناصر أمن أكراد في تفجيرات انتحارية استهدفت مديرية امن “الأسايش” وسط اربيل (350 كلم شمال بغداد)، في اول هجوم من نوعه منذ مايو 2007 حين استهدفت شاحنة مفخخة المقر ذاته في هجوم قتل فيه 14 شخصا. وأعلنت اجهزة الامن في اقليم كردستان يوم السبت 12 أكتوبر 2013 اعتقال الخلية المرتبطة بالهجوم، مؤكدة أنهم أتوا من الخارج، في اشارة محتملة الى سوريا المجاورة. واعلن تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” الموالي لتنظيم القاعدة تبنيه لهذا الهجوم، مؤكدا انه جاء ردا على تهديدات بارزاني بمقاتلة المجموعات الجهادية الى جانب الاكراد في سوريا.
وقال بارزاني خلال المقابلة مع فرانس برس التي اجريت في مقر رئاسة الاقليم في اربيل ان “من واجبنا ان نحمي الكرد اينما كانوا ان كان ذلك باستطاعتنا”. واعلن ان قوات البشمركة قامت في السابق بتدريب شبان اكراد سوريين بهدف حماية مناطقهم من هجمات المسلحين في سوريا، موضحا “هذا صحيح، تم تدريب عدد من الشباب لكن فعلا ليس بهدف الدخول في الحرب”. وتابع “رأينا ان الكرد يجب ان يقفوا على مسافة واحدة حتى لا يُورطوا الشعب الكردي في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل”.
ودارت في الفترة الماضية اشتباكات عنيفة بين مجموعات جهادية واكراد في مناطق واسعة من شمال سوريا، حيث تمكن الاكراد الذين اعلنوا “النفير العام” من طرد المقاتلين الاسلاميين من عدد من المناطق.
وعن التقارير التي اشارت الى ان اكراد سوريا يسعون الى اعلان منطقة مستقلة في شمال البلاد، قال رئيس اقليم كردستان “القرار يعود الى الكرد في سوريا ونحن لم نسمع منهم اي رغبة او نية في اعلان استقلال في ذلك الجزء”.
من جهة اخرى، قال بارزاني ان ازمات الدول التي يعيش فيها الاكراد في المنطقة لا تمثل فرصة للاكراد للمضي في اقامة دولتهم، موضحا “لا نريد ان نحقق هدفنا على حساب الاخرين”. واضاف “نحن لا نشمت بالآخرين عندما يتعرضون الى الازمات بالعكس نريد ان يكون الكرد جزءا من الحل وان يساهموا في تفكيك الازمات وليس في تعقيدها”. وراى بارزاني انه “حق طبيعي للشعب الكردي ان تكون له دولته لكن هذا لن يتحقق بالعنف بل يجب ان يتم ذلك بشكل طبيعي وان يعطى الوقت اللازم لتحقيقه”. واستدرك “لا يمكن ان تحل المشكلة الكردية بالعنف في اي جزء من الاجزاء. نحن نرى انه من حق الكرد ان يعيشوا كغيرهم وان يتمتعوا بحقوقهم لكن العصر هو عصر التفاهم ونحن نشجع الحوار بين الكرد والدول، في اي دولة من هذه الدول التي تتقاسم كردستان”.
ومن المفترض ان تستضيف اربيل، عاصمة اقليم كردستان العراق الذي يتمتع بحكم ذاتي، مؤتمرا موسعا للأكراد يشمل ممثلين عن هؤلاء في الدول الأربع التي يقيمون فيها في المنطقة، العراق وايران وسوريا وتركيا.
(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ ف ب، بتاريخ 13 أكتوبر 2013)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.