التعريب.. عُـنوان لمعركة الهُـويات في موريتانيا
لم يكُـن مولاي ولد محمد الأغظف، رئيس الوزراء الموريتاني يُـدرك أن ردّا بسيطا على طلَـب لأحَـد الصحفيين سيتحوّل إلى أزمة عِـرقية ولُـغوية تهدِّد كِـيان موريتانيا ووِحدتها وهُـويتها الوطنية.
فقد طلب أحد الصحفيين الزّنوج من رئيس الوزراء ترجمة حديثه إلى الفرنسية خلال مؤتمر صحفي، عقده هذا الأخير، فردّ ولد محمد الأغظف قائلا “أنت في بلد عربي وعليك أن تفهم اللّـغة العربية، وإلا فتدبّـر أمرك”.
كلمات قليلة ومُـختصرة قالها رئيس الوزراء عرضاً ودون أن يُـلقي بالا لتبعاتِـها، لكن القوميين الزّنوج التقطوا رأس الخَـيط وبدؤوا لُـعبة حرق الأصابع داخل جامعة نواكشوط وفي الأوساط السياسية تمهيدا لنقلها إلى الشارع، في محاولة لإعادة سيناريو المُـواجهات العِـرقية مرّة أخرى.
فقد سارعت حركة “أفلام” الزّنجية الراديكالية إلى إصدار بيان ندّدت فيه بتصريحات رئيس الوزراء، واعتبرتها خِـطابا عُـنصريا وإقصائيا، محذِّرة من خطر التعريب على النّـخبة الزِّنجية الفرانكفونية، ومطالبة رئيس الوزراء بالاعتذار عنها أو التنحّـي من منصبه.
كما تحرّك الطلاّب الزّنوج في جامعة نواكشوط، مندِّدين بما أسمَـوْه مُـحاولة تعريب الإدارة على حساب الزّنوج ذوي الثقافة والتكوين الفرنسيَّـيْـن، واشتبكوا مع قوات الشرطة في أعمال عُـنف، كانت جامعة نواكشوط مسرحا لها.
وزير التعليم.. سكب الزّيت على النار
وسَـعيا لإطفاء الحريق قبل خروجه عن السيْـطرة، سارع وزير التعليم العالي أحمد ولد باهية إلى جامعة نواكشوط معتذِرا عن تصريحات رئيس الوزراء، لكنه سكب الزّيت على النار بدلا من الماء فزادها اشتِـعالا واضطرابا. فقد نفي ولد باهية في لقاء مع الطلبة الزّنوج بالجامعة أن تكون الحكومة بصدَد فرْض تعريبٍ شاملٍ في الإدارة والتعليم، وأكّـد أن الفرنسية ستبقى لُـغة التواصل في الإدارة الموريتانية، ولا جديد يدفع الطلبة الزّنوج إلى القلق على مستقبلهم.
وما أن غادر الوزير جامعة نواكشوط، حتى تسارعت الأمور في اتِّـجاه التصعيد. فقد خرج الطلاّب العرب في مُـظاهرات، مندِّدة بتلك التصريحات وسارعت أحزاب قومِـية إلى إعلان مواقِـف مناهضة للوزير، ووصفت تصريحاته بأنها “مارِقة على الدّستور وتحتقر الشعب الموريتاني وتتنكّـر لهُـويته”، وطالبت تلك الأحزاب بمُـساءلة وزير التعليم العالي أمام البرلمان وإقالته من منصبه.
وداخل حرم جامعة نواكشوط، تطوّرت الأمور نحو الأسوأ، حيث تحوّلت المظاهرات المُـندِّدة بالتعريب وتلك المُـطالبة به، إلى مواجهات بين الطلبة العرب ونُـظرائهم الزّنوج، استُـخدِمت فيها العِـصي والحجارة، وأسفرت عن سقوط عدد من الجرحى في صفوف الطرفيْـن، قلّ أن تتمكّـن بعض النقابات الطلابية من تطويق الأزمة، بعد توصّـلها إلى اتفاق يقضي بوضعه حدّا للمواجهات داخل حرَم الجامعة وبحث الأمور الخِـلافية على طاولة الحوار.
استقطاب عرقي بواجهة لُـغوية
أحداث التّـعريب في جامعة نواكشوط، أعادت إلى أذهان الموريتانيين ذِكريات مُـؤلمة شهِـدتها البلاد خلال العقود الماضية، كانت قضية تعريب التعليم والإدارة دائما شرارتها الأولى، لكنها سرعان ما تتحوّل إلى استِـقطاب عِـرقي ومواجهات ذات طابع عُـنصري بحْـت، تزهق فيها الأرواح وتتلف المُـمتلكات ويهجـر الناس قسْـرا من مساكنهم.
وكانت البداية خلال ستينيات القرن الماضي في بَـواكير ميلاد الدولة الوطنية المعاصرة. فقد استقلّـت البلاد عن فرنسا أواخر عام 1960، وخلّـف الفرنسيون وراءهم إدارة ونظاما تعليمييْـن “مفرنسين” بالكامل.
وفي سنة 1966، أعلنت الحكومة تحت ضغط الأغلبية العربية عن إدخال مادّة اللغة العربية إلى نظام التعليم، فثارت ثائرة النّـخبة الزِّنجية الفرانكفونية وأعلنت 19 شخصية زِنْـجية معروفة، من بينهم وزراء وموظفين سامين، عن رفضهم لإدخال اللغة العربية إلى المناهِـج التعليمية، ووزّعوا رسالة عُـرفت باسم “رسالة التِّـسعة عشر”، وصفوا فيها محاولة إدخال اللغة العربية إلى المناهج التعليمية في موريتانيا بأنها محاولة لإقصاء أبنائهم من غير النّـاطقين بالعربية وسعيا لإذابة الأقلية الزِّنجية في الأغلبية العربية، ومما جاء في رسالة التسعة عشر، “يعرف العرب في موريتانيا أن التعريب القسري سيقود البلد إلى الفشل، لكنهم مُـصرّون على المُـضي في ذلك الاتِّـجاه، تدفعهم عُـقدة النقص أمام التفوّق النّـوعي للأطُـر السُّـود، كما تدفعهم الرّغبة الجامحة في اجتِـثاث المجموعة السوداء من مُـحيطها الإفريقي، وبالتالي، احتوائها وإخضاعها لنَـمط حياتهم وتفكيرهم”.
وقد أجّـجت تلك الرسالة، التي وُزِّعت في موريتانيا على نِـطاق واسع، مشاعِـر الأغلبية العربية واندلعت مُـواجهات دامِـية في شوارع نواكشوط وداخل المؤسسات التعليمية، سقط فيها عدد من القتلى والجرحى، قبل أن يُـعلن الجيش حالة الطوارئ ويفرِض سيْـطرته على الشوارع، لمَـنْـع مزيدٍ من سفْـك الدِّماء.
حسم دستوري وازدواجية في التعليم
ومنذ ذلك التاريخ، ظلّـت مسألة تعريب الإدارة والتّـعليم، إشكالية تُـواجه الدولة الموريتانية، رغم أن دستور البلاد في بداية سبعينيات القرن الماضي حسَـم الخلاف، نظَـريا، ونصّ على أن اللّـغة العربية هي اللغة الرّسمية للبلاد.
وفي سنة 1979، أقْـدَم النظام العسكري الحاكِـم حينها على ما أسمَـاه “إصلاحا تعليميا” تمّ بمُـوجبه إنشاء نظاميْـن، أحدهما “مفرنس” بالكامل، والآخر مُـعرّب بالكامل. وسرعان ما قادت هذه الازدِواجية إلى تقسيمٍ عِـرقي للطلاّب بين النظاميْـن. فقد انخرط الطلاّب الزّنوج في النظام الفرنسي، فيما توجّـه العرب إلى النظام المُـعرّب. ومع مرور الزمن، زاد الشرخ بين الفريقيْـن اتِّـساعا وازداد جدار اللّـغة سماكة، ليعزِل بين الطرفيْـن، إلى درجة يقول الطلاّب إنها جعلت الفريقيْـن يلجآن للبحث عن مُـترجم بين الطلاّب العرب والطلاب الزّنوج خلال التحرّكات الطلاّبية المُـشتركة في السابق.
وقد أفرَز هذا النظام جيليْـن منفصليْـن تماما، سعى كلّ منهما لفرْض نفسه في الإدارة، ورُفِـعت حينها شعارات كانت كافِـية لإضرام نيران الفِـتنة، من قبيل “بالدّم واللّـهيب، سيتِـم التعريب”، وهو شعار رفَـعه القومِـيون العرب في موريتانيا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
وإلى جانب العامل اللّـغوي، كانت عوامِـل التفرقة الأخرى تزداد تجَـدُّرا وتزيد الشّـرخ اتِّـساعا، إلى أن جاءت أحداث 1989 الدّامية والتي بدأت في شكْـل خلاف بسيط بين موريتانيا والسنغال، تحوّلت إلى مُـواجهات عِـرقية دامية قُـتِـل فيها عشرات الموريتانيين من العَـرب في السنغال وعشرات السنغاليين والموريتانيين الزّنوج في موريتانيا، وتوالَـت بعد ذلك عمليات تصفِـيةٍ عِـرقية، استهدفت الزّنوج المُـنخرطين في الجيش الموريتاني، فقُـتل منهم ـ حسب منظمات حقوقية ـ ما يرْبوا على خمس مائة عسكري، تمّ إعدامُـهم دون محاكمة، بحجّـة أنهم كانوا يخطِّـطون لانقِـلاب عسكري عِـرقي ضدّ نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، وتمّ تهجير الآلاف قَـسرا، بعد أن سُـحِـبت منهم هُـوايتهم الوطنية.
اعتِـذار وتصفية مَـظالم
وبعد فَـوْز الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في الانتخابات الرئاسية سنة 2007، وجّـه خطابا إلى الموريتانيين، وصف فيه تلك الأحداث بالمُـؤسفة، معتذرا للأقلية الزِّنجية ومعلنا عن إطلاق برنامج لإعادة المهجّـرين وتصفية مظالِـمهم، وهو البرنامج الذي واصله الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز، بعد إطاحته بنظام ولد الشيخ عبد الله، ووصلت الأمور إلى حدِّ إقامة صلاة الغائِـب على أرْواح ضحايا تلك الأحداث وتوقيع اتِّـفاقية مع ممثِّـلي منظّـمات أهالي الضحايا، للتّـعويض وإعادة المفصولين عن أعمالهم إلى وظائفهم والتعويض لهم عن السنوات التي قَـضّوها خارج الوظيفة، لكن الحساسية اللّـغوية ظلّـت عصية على التّـجاوز وشكّـلت بُـؤرة التوتّـر الدائم بين الطرفيْـن، إلى أن عادت أخيرا إلى الواجهة، عقِـب تصريحات رئيس الوزراء ووزير التعليم، كاشِـفة عن أجواء من التوتّـر العِـرقي، التي يعتقِـد المراقبون أن مصيرها ما يزال بِـيَـد السياسيين، تهدِئة وتصعيدا.
وخوْفا من عودة الفِـتنة السابقة وإراقة الدِّماء على أساس عِـرقي، سارعت الأحزاب السياسية إلى التحرّك، كلّ من خلفيته الإيديولوجية والفِـكرية، حيث طالبت الأحزاب القومية بفرْض اللّـغة العربية باعتبارها اللّـغة الرسمية دستوريا، وترسيم اللغات الزِّنجية الوطنية مع إقصاء كامل للُّـغة الفرنسية، التي هي “لغة المُـستعمر ولا مكان لها في المجتمع الموريتاني”، بينما طالب الإسلاميون بمُـراعاة وضعِـية النّـخبة الزِّنجية، التي تلقّـت تعليمها باللّـغة الفرنسية، وتقديم ضمانات لها بأن التّـعريب لن يكون على حِـسابها.
في السياق نفسه، أطلق، حسب حزب “تواصل”، الذي يمثِّـل الواجهة السياسية للتيار الإسلامي في موريتانيا، حمْـلة تحْـسيس ضدّ مخاطِـر الصِّـراع الطائفي، مُـحذِّرا من مَـغبّـة استِـغلال المشاعر القومية لدى الطرفيْـن، لإذْكاء نار الفِـتنة العُـنصرية وضرْب الوِحدة الوطنية، بينما حمَّـلت أحزاب المعارضة، الحكومة الحالية مسؤولية الأحداث، ووصفت تلك الأحزاب تصريحات رئيس الوزراء ووزير التعليم، التي أدّت إلى المُـواجهات، بأنها “تصريحات طائِـشة وغير مسؤولة”، أما الحكومة، فلا تزال تلتزِم الصّـمت حِـيال تلك الأحداث، التي تشهَـد حاليا حالة هدوءً حذرا.
نواكشوط ـ محمد أبو المعالي – swissinfo.ch
نواكشوط (رويترز) – اعتقلت شرطة مكافحة الشغب الموريتانية 20 طالبا يوم الخميس 15 أبريل، في الوقت الذي وقعت فيه مصادمات بين جماعات متنافسة بشأن دعوات الحكومة لتعزيز اللغة العربية في الدولة الصحراوية المتنوعة عِـرقيا.
وقعت المصادمات في الجامعة بالعاصمة نواكشوط، بعد أن أثار وزير الثقافة جدلا باعلانه أن اللغة العربية، وهي اللغة الرسمية للدولة التي كانت مستعمرة فرنسية في السابق تواجه تهديدا من اللغات المحلية التي تستخدم في أماكن العمل والمدارس.
ويحتج طلاب ناطقون بالفرنسية من جماعات عرقية، بينها الولوف والسوننكة منذ أسابيع، قائلين ان المُـضي قُـدما باتجاه جعل اللغة العربية الزامية في أجهزة الدولة والمدارس، سيضر بفرصهم في التعليم والعمل.
وقال نديايي كاني سار من اتحاد طلابي “لسنا ضد اللغة العربية وهي لغة ديننا، لكننا لا نريد أن تستخدم حجة اللغة ذريعة لاستبعاد مواطنين موريتانيين يتمتعون بحق المواطنة الكامل”.
وتناولت وسائل الاعلام المحلية باستفاضة النقاش حول ما يسمى التعريب في الدولة المسلمة البالغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة ولها تاريخ طويل من التوترات، بين النخبة من العرب والبربر والسكان السود الاصليين.
وقد طلب الطلاب من الحكومة توضيح سياساتها حول هذه القضية، بعد أن قال رئيس الوزراء مولاي ولد محمد الاغظف في الشهر الماضي ان أحد الاهداف هو تعميم اللغة العربية باعتبارها لغة العمل والادارة ولغة البحث العلمي.
ويرى البعض أن هذه السياسة مبالغ فيها من جانب حكومة الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي فاز بانتخابات الرئاسة في يونيو الماضي، بعد استيلائه على السلطة في انقلاب غير دموي في عام 2008.
وقال عضو اخر في اتحاد الطلبة ان “الصفوة في موريتانيا متناقضة”، مضيفا “يطلبون من مواطنيهم من ناحية استخدام اللغة العربية، بينما يرسلون أطفالهم من ناحية اخرى الى مدارس خاصة فرنسية هنا أو في الخارج”.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 15 أبريل 2010)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.