الربيع العربي لم يمُت.. بل “يتمخّـض”!
هل أقفل الربيع الديمقراطي العربي على شتاء استبدادي وسُلطوي جديد يحمِل في طيّاته رياح نهاية الحُلم الليبرالي والديمقراطي؟ القراءة السياسية الآنية للتطوّرات في بلدان الربيع، ما عدا في تونس حتى الآن، قد تشي بذلك. بيْد أن الصورة على المدى الأبعد، تحمل ألواناً مختلفة للغاية، كما سنرى بعد قليل.
ألوان تذكِّر بأن الطموح لنيْل الحرية والديمقراطية، ليست حرباً واحدة تُربَح أو تُخسَر مرة واحدة، بل هي سِلسلة معارِك متّصلة، يتراكم فيها الوعي الليبرالي المؤدّي إلى الديمقراطية بمشقّة وعبْر التجربة والخطأ.
أجل. القوى التي يُفترض أنها قامت بثورات الربيع لتحقيق حُلم الحرية، كانت أول من تنكّـر لها، سواء تلبّست هذه حلّة ليبرالية أو إسلامية، وهذا لم يحدث في 30 يوليو 2013 كما يقال الآن، حين دعم الليبراليون العرب عوْدة حُكم العسكر لإطاحة حُكم الإخوان، بل في الواقع في 26 فبراير عام 2011، أي بعد شهر واحد من ثورة يناير، حين رفضت الأحزاب الليبرالية المصرية مبدأ الانتخابات الديمقراطية، لأنها خشِيت انتصاراً كاسِحاً للإخوان المسلمين. آنذاك، دعا الليبراليون الجيش إلى أن يكون “حامِي الأمّة والشعب”.
ثم جاءت تجربة الإخوان المسلمين في السلطة، لتكشف النِّقاب هي الأخرى عن عجْزهم عن فهْم العلاقة العُضوية المكينة بين الليبرالية (التي تتلخّص في نهاية المطاف بفلسفة حريات التعبير والانتماء والعقيدة والصحافة والمساواة بين كل الأطياف) وبين الديمقراطية، وهذا ما أثار ليْس فزْع الليبراليين وحسب، فهُم كانوا “فزعين” أصلاً منذ 26 فبراير كما ألمحنا، بل أيضاً جُلّ الطبقة الوسطى الكبيرة وكل الأقليات والتيارات الإسلامية المعتدِلة.
جون ألترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، كان أول من تطرّق إلى طبيعة الأزمة التي دفعت الليبراليين إلى هذه المواقع اللاليبرالية. ففي رأيه، يعاني قادة الليبراليين من كِبر السِنّ، حيث ينتمي معظمهم إلى الجيل القديم. وهُم إضافة إلى ذلك، غير نشطين في مجتمعاتهم ويهتمّون بـ “التبشير بالليبرالية بين الليبراليين”، بدل العمل على نشْر فِكر الحرية بين الناس. والأهَم (والكلام لا زال لألترمان) أن الغرب أساء كثيرا إليهم حين أفصح علَنا عن دعمِه لهم” .
هل تقييم ألترمان في محلّه؟ وهل يعني ذلك أن الأفق مسْدود أمام الليبراليين والليبرالية العربية، على رغم وجود أجواء دولية مواتية لهم؟ قراءة الماضي القريب، قد تُـلقي أضواء على الحاضر والمستقبل.
العصر الليبرالي
عاش العرب عصْرا ليبراليا حقيقيا منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى فترة قصيرة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. آنذاك، كان هدير هذا العهد الصّادح بالحرية، يزداد قوة مع التطوّرات الجسام التي كانت تحدُث حينها في المنطقة، من تآكل الدولة العُثمانية إلى أفولها النهائي مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وصولا إلى سقوط الدول العربية، الواحدة تِلْـو الأخرى، بين براثِـن الاحتلال الأوروبي.
المثير هنا، أن الليبراليين العرب، وهُم النَّغمة السائدة في أنشُودة تلك الحِقبة، لم يهتمّوا كثيرا بالبحْث في الفلسفة الليبرالية أو بأصولها، بل فهموها كما يريدون أن يفهموها: نداء للحرية المُطلقة، كما كانت في أوروبا في القرن الثامن عشر، ولم يلتفِتوا الى ما طرأ عليها من تطوّرات لاحقا بفعل الثورة الفرنسية مع شعارها المشهور “لا حرية لأعداء الحرية”.
كانت الليبرالية هي التعويذة التي رأى فيها المثقّفون والمفكِّرون، الحلّ الشافي الكامل لكلّ أمراض المجتمعات الإسلامية “اللامعقولة واللاإنسانية”. لا، بل كان الليبرالي العربي أكثر تعّصبا بما لا يُقاس للحرية من زميله الأوروبي، لأن المجتمع الذي يعيش فيه، يتناقَض حرْفا بحرْف مع المفهوم الليبرالي.
وعلى أي حال، تميّز الليبرالي العربي، الإسلامي كما العِلماني عن غيره بميزتيْن:
“الأولى، ناتجة عن دفاعه عن الحرية ضد خصومها داخل مجتمعه. وهذا ما دفعه إلى القول بأن الإسلام في صميمه، دعوة إلى الحرية. كل شيء في الحياة الإسلامية يُناهِض الحرية، ليس من الإسلام الحقيقي في شيء. والثانية، هي إرادة تأصيل الحرية في عمْق المجتمع والتاريخ الإسلامييْن. ولذلك، فهو لا يشاطر رأي جون ستيورات ميل وغيره، القائل بأن دعوة الحرية محدّدة تاريخيا بعهد النهضة الأوروبية.
لكي تنتشر الأفكار الليبرالية في المجتمع الإسلامي، لابد من استحضار الأبطال الإسلاميين. وهكذا يصبح أبو حنيفة (الفقيه الإسلامي الكبير) بطل الحرية والتسامُح، كما يُعتبر الصحابي أبو ذر الغفاري، من أبطال الديمقراطية الاشتراكية.
الشكل الذي اتخذته هذه الموجة الليبرالية العارمة، شمل كلّ أشكال التعبير الصحفية والأدبية والقانونية والدِّينية كافة. الليبراليون العرب رأوا إلى الحرية في كلّ مناحي الحياة. وهذا ينطبِق على المصلحين الإسلاميين، كمحمد عبدة وعبد الرحمن الكواكبي وخير الدّين التونسي، كما على الكتّاب العِلمانيين، كلطفي السيد وطَه حسين وحسين هيكل وطاهر الحدّاد.
يقول رفاعة الطهطاوي، البطل الفِكري لمرحلة محمد علي باشا: “الحرية الطبيعية هي التي خلقت مع الإنسان وانطبع عليها، فلا طاقة لقوّة بشرية على دفعها من دون أن يُعَـد دافِعها ظالما”. ويقول المفكّر الإصلاحي السوري عبد الرحمن الكواكبي: “الحرية هي شجرة الخُلد وسقْيِها بقطرات من الدّم المسفوح”. ويكتب لطفي السيد “خلقت نفوسنا حرّة، طبَعها الله على الحرية. فحريّتنا هي نحن.. هي ذاتنا ومقوم ذاتنا، هو معنى أن الإنسان إنسان. وما حريتنا إلا وجودنا، وما وجودنا إلا الحرية”.
أما المفكِّر التونسي خير الدين التونسي، فهو اعتبر أن كل شيء يُناهِض الحرية، لا يمتُّ إلى الإسلام في شيء: “الحرية والهِمّة الإنسانية اللّتين هما منشأ كل صُنع غريب، غريزتان في أهل الإسلام مستمدَّتان مما تكسبه شريعتهم من فنون التهذيب”.
ويفّسر الكاتب المغربي عبد الله العروي هذه الظاهرة بقوله: “في حين كان جون ستيوارت ميل يفقِد التفاؤل الذي ميَّـز أساتِذته في القرن الثامن عشر، كان الكتّاب العرب في العهْد الليبرالي يتغنَّون بالحرية وكفَى. يرفعون شِعارها ولا يتصوّرون أن تكون هي مشكلة، عِوَض أن تكون حلاّ لجميع المشاكل. والسّبب في هذا الإهمال، إجتماع ولا علاقة له بنَباهة الأفراد وحِدّة أذهانهم. كان المجتمع الإسلامي في حاجة إلى نشر دعوة الحرية، أكثر مما كان في حاجة إلى تحليل مفهومها. ومن هنا، نشأت خصوصية علاقة المفكِّرين بالليبرالية”.
جنبا إلى جنب مع مشروع الحرية، كان مفكِّرو العصر الليبرالي الأول، يرقصون على إيقاع نغْمة واحدة: التقدم. التقدّم في كل شيء. التاريخ نفسه حركة تقدُّمية إلى الأمام، وبالتالي، مَن يريد أن يسير في تَيار التاريخ، يجب أن يكون تقدُّميا. يقول الكواكبي: “إذا رأينا في أمّة أثار حركة الترقّي هي الغالِبة على أفرادها، حكمْنا لها بالحياة. ومتى رأينا عكْس ذلك، قضينا عليها بالموْت”، لا بل رأى محمد عبدة أن العدل هو الذي يحدِّد شريعة الله لا العكس: “إن إمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق كان، فذلك شرْع الله”.
لقد أصبحت التقدُّمية دين النّخبة الجديدة المتعلِّمة، وأصبح التقدّم مبدأً عامّا، لا بل بات العِلمانيون والدِّينيون يتبارَون حول مبادئ من أكثر تمشيا مع حركة التاريخ المُنطلِقة إلى الأمام.
جذور الأزمة
كل هذا النّبض الفكري – النظري الذي وضع الحرية والفلسفة الليبرالية على رأس جدول أعمال الحركات السياسية حتى منتصف القرن العشرين – كان مفقوداً بشكل شِبه تام عشِية ثورات الربيع ثم بعدها.
فقد خرج الليبراليون والإسلاميون من تجربة انهيار الحِقبة الليبرالية الأولى على يد الدبّابات البريطانية في مصر وقوّات الاحتلال في تونس، بخلاصات مناوِئة للِّيبرالية، باعتبارها امتِداداً للاستعمار الغربي. فمَن كان ليبرالياً تحوّل إلى الفِكر الفاشي القومي الأوروبي، الذي يضع الأمّة فوق الفرد، والتحرّر قبل الحرية. ومَن كان ماركسياً (كسيد قُطب مثلاً)، فزع إلى الطبعة الانغلاقية الإسلامية، التي تكفِّر المجتمع، بدل العمل على نثْر ورود الحرية والاجتهاد في أركانه.
السلطات العسكرية الاستبدادية التي برزت في طول المنطقة وعرْضها منذ الخمسينيات من القرن الماضي، كانت الوليد الطبيعي لهذه الثقافة التي نشأت غَـداة سقوط الدول العربية في قبْضة الاحتلالات الغربية وما تبِعها من تآكل المشروع الليبرالي الأول ثم تداعياته.
لكن، إذا ما كان الأمر على هذا النحو، أي إذا ما كانت ثقافة الليبرالية غائبة إلى هذا الحدّ، فبماذا نفسِّر ظاهرة ثورات الربيع العربي، التي وصف فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية نهاية التاريخ، إحداها (مصر) بأنها “انتفاضة شبّان يافِعين وغاضبين من الطّبقة الوسطى، استخدموا فايسبوك وتويتر لتنظيم احتجاجاتهم، ولكشْف فظائع النظام وحشْد الدّعم لمصر ديمقراطية”؟
في محاولة الإجابة على هذا السؤال، يكمُن التفاؤل الكبير في مستقبل الحركة الديمقراطية والليبرالية في المنطقة. فثورة الشّباب (الذين هُم الأغلبية في المجتمعات العربية)، كشفت عن نبْض جديد يعكِس التحوّلات الضمنية الكبرى التي جرت في المنطقة، قِوامه الرئيسي وِلادة ما أسماه عن حقّ زبغنيو بريجنسكي “ثورة الشارع السياسي” العربي.
صحيح أن شبّان الثورة افتقدوا إلى كلٍّ من التأطير النظري والتنظيم السياسي والقيادة التنظيمية، فبدوا كجِسم ضخْم بلا رأس، إلا أنهم مع ذلك كانوا تعبيراً مُباشراً عن تطوّر تاريخي، استعادت من خلاله الشعوب العربية المبادرة التي تمّ تسلميها للعسكر وقبلهم للحركات القومية والإسلامية الكِليانية، طيلة زهاء قرن كامل.
التجسيد الرئيسي لهذه الحقيقة، تمثّل في بروز ما يسميه جورغن هابرماس Jurgen Habermas المجال أو الحقْل العام (في كتابهThe Structural transformation of the public sphere)، الذي هو كِناية عن شبكة اتصالات يستطيع الأفراد من خلالها بلْورة وطرح حاجاتهم الاجتماعية، فيقود ذلك في نهاية المطاف إلى تشكُّـل رأي عام واسِع ينتقِد بشكل عام السلطات القائمة، سواء أكانت دِينية أو مدنية أو عسكرية.
المجال أو الحقل العام وجد تطبيقاته الأولى في أنجلترا في القرن الثامن عشر، وكانت المقاهي والصحف المطبوعة، هي مؤسساته الرئيسية التي مكّنت المواطنين الذين لم يسبَق لمُعظمهم ممارسة العمل السياسي، ناهِيك بالسلطة، من البروز بالتّدريج كقوّة سياسية واجتماعية. وهذه القوة كانت قادِرة على حمْل النخبة الحاكمة على السّعي إلى الحصول على الشرعية والقبول من جانب محكمة الرأي العام غير الرسمية، التي هي في الواقع القابلة القانونية للِّـيبرالية.
هذا الحقل العام وُلِد أيضاً في ساحات التحرير في المنطقة العربية، وكانت مؤسّساته الرئيسية أهم وأضخَم تأثيراً بكثير من صُحف ومقاهي انجلترا القرن الثامن عشر: وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية. وحين يُولد مثل هذا الحقل، لا يعود ثمّة تقهقر إلى الوراء.
دعوة للتفاؤل
ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني بوضوح، أن النكسات الرّاهنة التي تعيشها الحالة الديمقراطية والليبرالية في المنطقة (عدا تونس)، ليست خاتِمة المطاف أو نهاية الطريق. بيْد أن طول أو قِصَر مُعاناة هذه المرحلة الانتقالية الصّعبة، سيعتمد إلى حدٍّ كبير على قدرة التيارات الإسلامية على إعادة النظر في برامجها وأولوياتها، باتِّجاه إعادة اكتشاف البُعد اللِّيبرالي الذي أطلقته بشكل رائع النهضة التحررية الأولى في أوائل القرن الماضي. وهذا شرط لا يمكن القفز فوقه، لأنه من دون “لبرلة” (من ليبرالية) هذه التيارات، لن يستقِر التوازن الديمقراطي في المنطقة.
وهذه نقلة إصلاحية ضرورية وتاريخية، يجب أن يقوم بها مَن أسماهم جون ستيوارت ميل “تلك الحفنة من العباقرة الذين هُم ملح الأرض. فمِن دون هؤلاء، تصبح الحياة البشرية برْكة راكِدة”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.