العالم العربي لا زال “الرُّبع الخالي من الديمقراطية” في العالم الإسلامي
بعد عشرة أعوام امتزجت فيها الآمال العريضة بالخيبات المريرة، تظل مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان، من أهَـمِّ الأسئلة المطروحة في البلدان العربية، ويُـحاول النشطاء والخبراء والساسة والمعنِـيون بهذا الميْـدان، تلمّس أجوبة لكيفية تحقيق الإنجاز وضمان ثباته ورسوخه.
ديمقراطيون من أقطار عربية مختلفة، التقَـوْا في مدينة الدار البيضاء على مدى يومي 22 و23 أكتوبر، بدعوة من “مركز دراسة الإسلام والديمقراطيّة”، الذي يوجد مقرّه بواشنطن و”مركز الدراسات والأبحاث الإنسانية” بالدار البيضاء للبحث في هذا السؤال، وخلصوا إلى توجيه نداء لكل المعنيين من حكومات وأحزاب ومجتمع مدني يدعو إلى “الإسراع بالقيام بإصلاحات سياسية جادّة وعميقة، تُـعيد الإعتبار إلى دولة القانون والمؤسسات القائمة على فصل بين السلطات وتحقيق سيادة الشعب واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية وضمان حيادية أجهزة الدولة وجعلها في خِـدمة المواطنين”.
وقال المجتمعون في ندائهم “قرّرنا التوجّـه نحو جميع الأطراف المعنية بقضية الديمقراطية، من حكومات ومؤسسات وتنظيمات سياسية ونقابية وهيئات مدنية ووسائل إعلام، لجعل صندوق الإقتراع، الوسيلة الشرعية الوحيدة لتحقيق التَّـداول السِّـلمي على السلطة، وذلك بضمان شفافية الإنتخابات”.
وشدّدوا أيضا على أن “استقلالية القضاء، أولوية قصوى لمُـجمل مطالب قِـوى تغيير الديمقراطية، باعتباره شرطا أساسيا لحماية الحريات وحقوق الإنسان وضمان قيام دولة القانون والمؤسسات وإطلاق سراح سجناء الرأي والسجناء السياسيِّـين ووضْـع حدٍّ للمحاكمات السياسية والتَّـنكيل بالمعارضين ووضْـع حدٍّ لظاهرتَـيْ الإختطاف والتعذيب، وضمان حرية الصحافة وتمكين وسائل الإعلام من الوصول إلى الخبر وإلغاء عقوبة الحبْـس بتُـهم النشر”. كما ناشد النِّـداء، القِـوى الديمقراطية في العالم “الضَّـغط على حكوماتها من أجل الكفِّ عن مساندة التنظيمات غير الديمقراطية في الوطن العربي وعدم اعتماد معايير مُـزدوجة”.
تقدُّم هشّ لمنع التراجُـع
هذا النِّـداء جاء ختاما للتنقيب عن “مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي”، من خلال محاور شملت “مشاريع ومُـبادرات الإصلاح الديمقراطي والسياسي في العالم العربي” و”إمكانات ومُـعوِّقات الإصلاح الديمقراطي وحقوق الإنسان في العالم العربي” و”ما الذي تمّ إنجازه في العشريّة الماضية” و”موقع الحوار بين الإسلاميين والعِـلمانيين في الإصلاحات الديمقراطية، وسُـبل تعميق وتجذير التعاوُن بينهم” و”أولويات الإصلاح الديمقراطي وحقوق الإنسان في العشرية القادمة” و”دور منظّمات المجتمع المدني والمنظّمات الدوليّة والبرلمانيّين العرب في الإصلاح الديمقراطي وحقوق الإنسان”.
وخلال المناقشات، التي شارك فيها سياسيون ومثقفون ونشطاء المجتمع المدني وباحثون أكاديميون، تَـبيَّـن أن تطبيق الديمقراطية وتجسيد حقوق الإنسان في دول الوطن العربي، يشكِّـلان ضرورة قُـصوى ويتطلَّـبان انخِـراطا أوسع من مُـختلف المواطنين والقِـوى السياسية والاجتماعية، بعد أن عرفت هذه الدول تراجُـعا كبيرا في مسار الإصلاح السياسي، الذي ظهَـرت مؤشِّـرات إيجابية، خلال مطلع القرن الحالي، لإمكانية إنجازه
في هذا السياق، يرى الدكتور سعد الدين العثماني، رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية المغربي والذي شارك في الندوة ببحثٍ حول “موقِـع الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين في الإصلاحات الديمقراطية وسُـبل تعميق وتجذير التعاوُن بينهم”، أن المنطقة العربية لا زالت من المناطق التي تشهَـد صعوبات في تطوير الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة والفردِية، على الرغم من التقدُّم النِّـسبي الذي تحقّـق خلال العقديْـن الماضيين (تعددية حزبية، انتخابات عامة، حِـراك وانفتاح سياسي وحرية صحافة)، لكن تبيَّـن أنه “تَـقدُّم هشّ وليس راسخا لمنْـع التَّـراجع عنه”.
وفي تصريحات لـ swissinfo.ch قال الدكتور العثماني: “إن المعنِـيين بالديمقراطية سجَّـلوا، بعد الإنتخابات الفلسطينية عام 2006 وفوْز حركة حماس، ظهور تراجُـعات خطيرة، وإن كانت متفاوتة في ميْـدان الديمقراطية وحقوق الإنسان في جلّ الأقطار العربية، التي عرفت تقدُّما في هذا الميدان، متزامنة مع تراجُـع في الخِـطاب الدولي المُـبشر والمُـنادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان، واستِـبداله بخطاب الأمن العِـلمي وحِـماية إسرائيل ومكافحة الإرهاب، نظرا للتبَـعِـية السياسية العربية لمنظومة الخطاب الأمريكي والغربي”.
أولويات على حساب أولويات
في المقابل، يُـحمِّـل الدكتور العثماني جُـزءا أساسيا من هذا التَّـراجُـع إلى الأحزاب والقِـوى السياسية، التي تبنَّـت في برامجها تحقيق الديمقراطية وحذفِـها لها ولحقوق الإنسان من أولوياتها لصالح أولويات أخرى، دون إدراك أنه لا يُـمكن تحقيق التحرّر والتقدُّم المُـجتمعي وإزالة التبَـعية، دون ديمقراطية، وكذلك لا يمكن تحقيق الديمقراطية في ظلّ التبَـعية والتخلُّـف.
ويُـشير العثماني إلى القضية الفلسطينية والإحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، الذي يجعل أولوية التحرير مقدمة على أية أولويات أخرى، خاصة مع تصاعُـد الجرائم الصهيونية، من حِـصار على قطاع غزّة وتوسيع الإستيطان بالضفة الغربية والسعي إلى حِـرمان فلسطيني 1948 من هُـويتهم، وكل ذلك يجعل للفلسطينيين والعرب الآخرين أولوية أخرى غير الديمقراطية، تتلخص في “المقاومة ضدّ الاحتلال والمقاومة ضدّ التطبيع معه”.
ويقر رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، الأصولي الفِـكر، أن القوى السياسية، ذات المَـرجعية الإسلامية، تتحمَّـل جُـزءا من مسؤولية التَّـراجع الذي لحِـق بالديمقراطية وحقوق الإنسان خلال العشرية الماضية، إلا أنه يقول لـ swissinfo.ch: “إن الكثير من هذه القِـوى واجهت حِـصارا وتهميشا، ممَّـا جعل أولويتها النجاة بجِـلدها والحفاظ على ذاتها ووجودها وإبعادها عن التجديد الفِـكري، إضافة إلى أنها لم تكن صارِمة وحاسِـمة بإعطاء الأولوية للخطاب الديمقراطي، وبقي موقفها رمادِيا، ممّـا جعلها ليست جُـزءا من قاطِـرة التبشير والنِّـضال من أجل تحقيق الديمقراطية والحريات العامة”.
ويذهب العثماني إلى أن “تَـوافُـقا، تظهَـر ملامحه بين القوى الديمقراطية والقوى ذات المرجعية الإسلامية، يُـعيد للديمقراطية وحقوق الإنسان أولويتها في الخطاب الفِـكري العربي”.
التوافق لا التنافر بين القوى الديمقراطية
وقبل مؤتمر مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، عُـقد في الدار البيضاء أيضا اللِّـقاء العربي الايبرو – أمريكي، بين المؤسسات الوطنية للنُّـهوض بحقوق الإنسان وحمايتها، بمشاركة ممثلين عن المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان في المنطقتيْـن، بحثوا خلاله العدالة الإنتقالية والحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإرهاب، لكن الأهم في اللقاء، كانت المقارنة بيْـن مسار الديمقراطية وحقوق الإنسان بالوطن العربي ومثيلتها الايبرو أمريكية، التي حقَّـقت تقدُّما كبيرا في هذا الميدان، في الوقت الذي قارن به المشاركون في مؤتمر الديمقراطية بالوطن العربي بيْـن الدول العربية والدول الإسلامية، مثل تركيا وماليزيا وإندونيسيا.
وفي مداخلة له، قال المفكِّـر المصري الدكتور سعد الدين إبراهيم إن الوطن العربي “يُـمثِّـل الرُّبع الخالي من الديمقراطية في العالم الإسلامي”، حيث أن ثلاثة أرباع شعوب العالم الإسلامي، تعيش في ظلِّ حكومات مُـنتخبة، فيما تغيب الديمقراطية بشكل كُـلِّـي عن المنطقة العربية.
ومن جهته، يعتقد الدكتور سعد الدين العثماني أن “جذور التعثر بالوطن العربي، موجودة في البيئة الاجتماعية المُـحافِـظة والمقاوِمة للتّـغيير، وأيضا كون دول العالم الإسلامي غير العربية جُـغرافيا، دولا هامشية وليست محلّ تركيز لدرجة الاحتلال والغزْو من طرف القِـوى العالمية، مثل المنطقة العربية المركزية في العالم والغنية بثروات، وتحديدا النفط، محلّ أطماع وسيطرة، والتي تشترط لضمانها عرْقلة النُّـهوض العربي ووجود إسرائيل. كما أن سيادة أنظمة شمولية في جلّ الأقطار العربية، بعد الاستقلال وطيلة عقود، أدّى إلى انسداد الحريات العامة، وبالتالي، انسِـداد ثقافي وفِـكري أدّى إلى التقليد وحال دُون التّـجديد”.
ويدعو الدكتور العثماني إلى التوافُـق بين القوى الديمقراطية، بغَـضِّ النظر عن مرجعيتها الفِـكرية، والوعْـي المجتمعي بأن الديمقراطية وحقوق الإنسان شرطان لازمان للاستقلال والتنمية، وردّ العدوان الخارجي، خاصة العدوان الإسرائيلي.
في سياق متصل، يدعو رضوان المصمودي، رئيس مركز دراسة الإسلام والديمقراطية، إلى ضرورة “تجاوز الحركات الديمقراطية خلافاتها” ويؤكد على أن إرساء نظام ديمقراطي، “شرط أساسي للتغلُّـب على التحديات الصعبة”، التي تُـواجه العرب. فيما اعتبر الدكتور سعد الدين إبراهيم أن حركات مدنية، مثل حركة “كفاية” المصرية، كفيل بالتقدُّم نحْـوَ الديمقراطية. أما المختار العبدلاوي، رئيس مركز الدراسات والأبحاث الإنسانية بجامعة الدار البيضاء، فيقول: “إن للمثقف والمجتمع المدني، دورا أساسيا في تعزيز وتسريع وتِـيرة التحوّل في العالم العربي”.
إن مواجهة مختلف العوائق التي لا تزال تحُـول دون تحقيق التداول السلمي على السلطة، تتطلب ما يلي:
ـ أولا: الإسراع بالقيام بإصلاحات سياسية جادة وعميقة تُـعيد الاعتبار لدولة القانون والمؤسسات القائمة على الفصل بين السلطات وتحقيق سيادة الشعب واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية، وتجعل من صندوق الاقتراع الوسيلة الشرعية الوحيدة لتحقيق التداول السلمي على السلطة، وذلك بضمان شفافية الانتخابات والتسليم بنتائجها وتعزيز جهود المراقبة المستقلة، وفق المعايير الدولية.
ـ ثانيا: اعتبار استقلالية السلطة القضائية أولوية قصوى لمجمل مطالب قوى التغيير الديمقراطي، باعتبارها شرطا أساسيا لحماية الحريات وحقوق الإنسان، وضمان قيام دولة القانون والمؤسسات.
ـ ثالثا: إطلاق سراح سجناء الرأي والسجناء السياسيين الذين يعدون بالآلاف بمختلف السجون العربية، ووضع حد للمحاكمات السياسية والتنكيل بالمعارضين ووضع حد لظاهرتي الاختطاف والتعذيب.
ـ رابعا: العمل على تمكين الأحزاب السياسية والنقابات من التنظيم وحق ممارسة نشاطها، بدون عوائق قانونية أو إدارية واستعمال وسائل الإعلام كافة والاستفادة من التمويل العمومي والتوقف عن تدخل أجهزة الدولة في شؤون الأحزاب.
ـ خامسا: إقرار حق منظمات المجتمع المدني أداء دورها، باعتبارها قوة اقتراحية وتدافعية، بحرية وفعالية، واحترام استقلاليتها وخصوصياتها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية وتوفير الدعم المالي لها والدخول معها في شراكة من أجل تحقيق التنمية البشرية المستدامة، وتمكين النساء والشباب من المشاركة الفعلية في عملية التنمية.
ـ سادسا: إطلاق حرية التعبير وتمكين وسائل الإعلام والصحفيين من الوصول إلى المعلومات ومصادر الخبر واحترام استقلالية نقاباتهم، وتمكينهم من نشر المعلومات والآراء، بعيدا عن أجواء الرقابة أو الضغوط الإدارية والقضائية، وإلغاء عقوبة الحبس في التهم الموجهة للصحفيين.
ـ سابعا: وضع آليات لضمان حياد أجهزة الدولة، وجعلها في خدمة المواطنين، بعيدا عن مختلف أشكال الانحياز السياسي والتدخل في شؤون الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
ـ ثامنا: تعبئة مختلف القوى والطاقات والجهود من أجل الالتزام بالحكامة والنزاهة ومحاربة الفساد باعتباره ظاهرة أخلاقية واجتماعية واقتصادية، خاصة وأنه قد تحول بمختلف الدول العربية، من مجرّد فساد إداري إلى منظومة لإدارة الفساد، مما يقوض جهود التنمية ويستنزف الثروات الوطنية، المادية والبشرية، ويهدد السلم الاجتماعي.
ـ تاسعا: دعوة مؤسسات القطاع الخاص إلى الوعي بأهمية مساهمته في الدفع نحو الإصلاح السياسي ورفع سقف الحريات، نظرا للارتباط الشديد بين التنمية والديمقراطية، وضمان الشفافية والمنافسة الحرة والنزيهة. وأن يتحمل القطاع الخاص مسؤولياته الاجتماعية والمجتمعية لتحقيق العدالة الاجتماعية.
ـ عاشرا: العمل على تحقيق المصالحات الوطنية من أجل تجنُّـب المخاطر المهدِّدة لوحدة الأوطان والمغذية للصراعات الطائفية والدينية والمذهبية والسياسية، والمهدِّدة لاستقرار الدول والمجتمعات العربية.
ـ إحدى عشر: مناشدة القوى الديمقراطية في العالم للضغط على حكوماتها من أجل الكف عن مساندة الأنظمة غير الديمقراطية في العالم العربي، وعدم اعتماد ازدواجية المعايير.
ـ إثنا عشر: أخيرا التأكيد على ترابط الإصلاح السياسي بتجديد الفكر الدِّيني، وهو ما يستوجب دعْـم الاجتهاد وتعميق ممارسته، وتوسيع نِـطاقه في ظل مناخ من الحرية الكاملة وفي ظل أنظمة حُـكم ديمقراطية. كما نثمِّـن الحوارات، التي انطلقت منذ سنوات بين الإسلاميين والعلمانيين، على أصعدة محلية وإقليمية، ونؤكد أهمية الاستمرار في هذا التوجه، نظرا لصبغته الإستراتيجية، والعمل على تعميقه من أجل توفير الأرضية الصلبة لحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان من أي انتكاسة لأسباب سياسية وأيديولوجية
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.