العملية العسكرية في شمال العراق بين مطالب واشنطن وتطلّـعات أنقرة
انتقلت تركيا في مواجهة حزب العمال الكردستاني، المتمركزة عناصره في جبال قنديل في شمال شرق العراق، من عمليات القصف الجوي إلى هجوم بري شارك فيه أكثر من عشرة آلاف جندي، تدعمهم الطائرات.
وفي الواقع، فإن العملية البرية تشكِّـل حاجة ماسّـة لتركيا لرفع معنوياتها بعد الضربات المُـوجعة التي ألحقها بها مقاتلو الكردستاني منذ ربيع 2007، ولاسيما في مطلع خريف العام ذاته، والجميع في تركيا يشعر بالحاجة إلى ردّ الاعتبار لمعنويات الجيش وهَـيبة الحكومة ومشاعر المواطن العادي.
تحتاج تركيا لمثل هذه العملية أيضا، لكسر العصب العسكري للكردستاني، وهي تعرف جيِّـدا أن هذه العملية لن تُـنهي بنية الحزب العسكرية. فالعملية البرية الحالية هي رقم 25 منذ مطلع التسعينيات، ومع ذلك، كان الحزب يُـعيد بناء نفسه في كل مرة ويعود أقوى مما كان، لكن الخِـيار العسكري للجيش التركي، يشكِّـل ضرورة للتخفيف من خطر الكردستاني ولإعاقة تحرّكاته واستعداداته التي تتكثف عشية بدء فصل الربيع، الموعد الطبيعي السنوي لاستئناف عملياته العسكرية داخل الأراضي التركية ضد القوات المسلحة.
لكن كما يعرف الجميع، لم تكن هذه العمليات الجوية والبرية لتبدأ، لولا الضوء الأخضر الأمريكي الذي أجمع المراقبون أنه أعطِـي في إثر اجتماع رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان مع الرئيس الأمريكي جورج بوش في الخامس من نوفمبر 2007.
وقد شاع حينها أن واشنطن ستتعاون مع أنقرة لتقديم معلومات استخباراتية وميدانية للجيش التركي عن مواقع وتحركات حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، مقابل ثمن أساسي، وهو الاعتراف التركي، ولو التدريجي، بحكومة إقليم كردستان في شمال العراق.
ورغم أن أردوغان نفى تِـكرارا وجود مثل هذه “الصفقة”، إلا أن تزامُـن دعوة الرئيس التركي عبد الله غُـل لنظيره العراقي جلال طالباني لزيارة تركيا، مع بدء العملية العسكرية التركية البرية ضد قواعد الكردستاني، طرح علامات جدّية حول إمكانية وجود مثل هذا الاتفاق.
فطالباني لم يُدْعَ إلى أنقرة في عهد الرئيس السابق أحمد نجدت سيزير، فقط لأنه متّـهم بدعم “إرهاب” الكردستاني كونه من أصل كردي.
إن دعوة طالباني لزيارة أنقرة، هي الخطوة الأولى على طريق الاعتراف بشرعية حكومة كردستان، وهذا مكسب كردي ومطلب أمريكي يُـساعد كذلك على استقرار شمال العراق، حيث أن تركيا هي الجارة الأطول حدودا للفدرالية الكردية.
مطالب.. ومكاسب
ويأتي الضوء الأخضر الأمريكي في إطار كسب وِدّ تركيا لكي تسمح للولايات المتحدة استخدام القواعد العسكرية التركية، ولاسيما اينجيرليك والموانئ البحرية لدعم الحركة اللوجيستية المكثفة للقوات الأمريكية في العراق، سواء لدى بدء انسحابها التدريجي في العامين المقبلين أو لاستمرار التحكّـم بالعراق من خارجه.
ولا يخرج هذا الضوء الأخضر عن مطالِـب تتعلق بالوضع في أفغانستان أيضا. فوزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس تحدث عن ضرورة قِـيام تركيا بدور أكثر فاعِـلية في أفغانستان، والمقصود بذلك إرسال المزيد من القوات التركية إلى أفغانستان، ولاسيما في شرق وجنوب البلاد، حيث تتصاعد عمليات تنظيم “القاعدة” وطالبان، خصوصا أن البلدان المشاركة في قوات في أفغانستان، تمتنع عن إرسال المزيد من القوات وبعضها انسحب وآخر يفكِّـر في الانسحاب.
ويأتي الطلب الأمريكي، ردّا على تصريحات مسؤولين أتراك، من أن تركيا تساعد الأمريكيين في الحرب على الإرهاب في أفغانستان، فيما واشنطن لا تفعل الشيء نفسه مع تركيا لمحاربة “إرهاب” الكردستاني.
ولا يبتعد الضوء الأخضر الأمريكي عن مطلب تردّد في الصحافة التركية، وهو رغبة أمريكا في نشر الدِّرع الصاروخي الموجّـه ضدّ روسيا وإيران على الأراضي التركية، بعدما تمّ نشره في بولندا وتشيكيا لاعتراض الصواريخ البالستية الإيرانية مع تخوّف، قد لا يكون في محلّـه، من أن تستدرج تركيا إلى مواقف ضد إيران في أكثر من مسألة.
ورغم أن البعض يرى أن العملية العسكرية التركية تمّـت بعد تهيِِـئة المناخ الدولي والعربي والإقليمي والعراقي المواتي لها، من خلال كسب تأييدها أو على الأقل تفهم دوافعها، لكن استمرار العملية لمدّة طويلة يخلق خِـشية أمريكية وعراقية داخلية من أن تستفيد منها تركيا أو توظفها للعودة إلى المعادلة العراقية الداخلية، التي خرجت منها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.
فغالبا ما يردّد الجنرالات العسكريون الأتراك أن حزب العمال الكردستاني، مهمَـا بلغت قوّته، يبقى تحت السيطرة، فيما التركيز يجب أن يكون على وضع الكِـيان الكردي في شمال العراق، الذي سيشكِّـل نموذجا قد يحتذى من جانب أكراد تركيا، وبالتالي، يهدّد الأمن القومي التركي ويعزِّز النَّـزعات الانفصالية في الداخل التركي.
… مفاوضات عسيرة!
ورغم أن أنقرة تؤكِّـد أن هدفها يقتصر على قواعد حزب العمال الكردستاني فقط، فإنها ستحاول توظيف العملية البرية في إبقاء الجرح العسكري مفتوحا على العراق، لاستخدامه “منصّـة” للنّـفاذ من جديد إلى المعادلة العراقية الداخلية وفرض نفسها لاعبا، له حصّـته ورأيه في التوازنات التي تتشكّـل في العراق، من صيغة نظام الحُـكم إلى مصير كركوك والأقلية التركمانية.
من هذه الزاوية، يريد الأتراك أن تشكّـل العملية البرية أساسا لخلق وقائع جديدة على الأرض، عسكريا وسياسيا. وفي هذا المجال، قد يكون واردا تشكيل مِـنطقة حدودية عازلة داخل العراق، ليست بالضبط على غِـرار الشريط الحدودي الذي أقامته اسرائيل سابقا في جنوب لبنان، لكن الحدود لن تبقى أمنيا على حالها، وتركيا لا يمكن لها أن تثق لا بقُـدرة ولا بنِـيّة الأطراف العراقيين في بغداد وأربيل (فضلا عن نوايا أمريكا)، في منع حزب العمال الكردستاني من التّـمركز في شمال العراق أو وقف عملياته من هناك ضد تركيا، لذا، تريد أن تكون شريكا مباشرا في أية ترتيبات مستقبلية، ولهذا السبب، ستشهد الفترة المُـقبلة مفاوضات عسيرة حول الترتيبات الأمنية في شمال العراق بعد الانسحاب التركي الذي لم يُحدد أي موعد له.
إن الأسابيع التي تَـلي انتهاء العملية العسكرية البرية التركية، ستكون مرآة لمدى صحّـة كل المعلومات التي نُـشرت وربطت العملية البرية والضوء الأخضر الأمريكي بها، وما إذا كانت تركيا قادِرة على تلبية أو حتى مجرد الموافقة على كل أو بعض هذه المطالب.
د. محمد نورالدين – بيروت
أنقرة (رويترز) – قال مصدر عسكري تركي كبير يوم الجمعة 29 فبراير، إن بعض القوات التركية عادت إلى قواعدها في تركيا بعد أن أكملت مهمّـتها في شمال العراق، لكنه أكد أن الانسحاب الكامل لم يبدأ. وكانت تركيا قد دفعت بالآلاف من قواتها إلى مناطق جبلية نائية في شمال العراق يوم 21 فبراير لملاحقة متمردي حزب العمال الكردستاني المحظور، الذين يستخدمون شمال العراق كقاعدة لشنّ هجمات داخل الأراضي التركية.
وقال المصدر العسكري التركي لرويترز “داخل العراق لا زال يوجد جنود أتراك، وفي الوقت الحالي، لا يوجد انسحاب كامل”. وصرح مسؤول أمريكي في العاصمة العراقية بغداد يوم الجمعة بأن بعض القوات التركية في شمال العراق عادت عبر الحدود إلى تركيا، لكن من السابق لأوانه القول بأن هجوما تركيا على المتمرّدين الأكراد قد انتهى. وقال المسؤول في رسالة بالبريد الالكتروني إلى رويترز “شهدنا جزءً محدودا من القوات التي دخلت العراق يتحرّك عائدا نحو تركيا. ومن السابق لأوانه، وصف هذا بأنه انسحاب”.
وقال متحدث باسم قوات الأمن الكردية العراقية البشمركة يوم الجمعة، إن القوات التركية بدأت الانسحاب من شمال العراق بعد مرور أسبوع على هجوم عبر الحدود على المتمردين الأكراد. وقال جبار ياور، المتحدث باسم البشمركة “منذ الليلة الماضية، لم تقع هجمات والقوات التركية تنسحب”، وأضاف أن معلوماته استقاها من حراس حدود عراقيين.
وجاء تعقيب المصدر العسكري التركي بعد وقت قصير من قول هيئة الإذاعة الخاصة (ان.تي.في) أن الهجوم البري التركي الذي استمر ثمانية أيام على ثوار حزب العمال الكردستاني انتهى.
وكان زعماء سياسيون وعسكريون أتراك قد أعلنوا أن العملية التركية في شمال العراق ستستمر طوال الوقت الذي تراه أنقرة ضروريا، لكنهم تعرضوا لضغوط من الولايات المتحدة، حليفتهم في حلف شمال الأطلسي، لتقصير مدة حملتهم وأن تستهدف بدقة المتمردين الأكراد فقط. ويوم الخميس، حث الرئيس الأمريكي جورج بوش تركيا على إنهاء هجومها البري سريعا.
وتدمغ واشنطن، مثلها مثل أنقرة، حزب العمال الكردستاني بأنه منظمة إرهابية وتمد الجيش التركي بمعلومات مخابراتية عن الحزب في العراق، لكنها تخشى من أن إطالة أمد الحملة التركية قد يشيع حالة من عدم الاستقرار في المنطقة.
وقال الجيش التركي إنه قتل 237 متمردا في الهجوم البري المستمر منذ ثمانية أيام، كما تكبد مقتل 24 جنديا. ويزعم الحزب الكردي أنه قتل 100 جندي تركي، لكنه لم يذكر حجم الخسائر في الأرواح بين قواته.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 29 فبراير 2008)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.